نقض حكم الحاكم 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الاول:التقليد   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 9117


    حكم الحاكم لا يجوز نقضه :

   (2) قد يستدل عليه بالاجماع واُخرى بما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة من قوله عليه السّلام : «فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله ، وعلينا ردّ والرادّ علينا الرادّ على الله وهو على حد الشرك بالله» (1) .

   ويرد عليهما : أن الاجماع ليس من الاجماع التعبدي الكاشف عن قوله (عليه السّلام) لاحتمال استناد المجمعين إلى المقبولة أو غيرها من الوجوه المذكورة في المقام فلا يمكن الاستدلال به بوجه . وأما المقبولة فهي على ما أشرنا إليه غير مرة ضعيفة السند لعدم ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة فلاحظ .

   فالصحيح أن يستدل على ذلك بما علمنا بالضرورة من تشريع القضاء في الشريعة المقدّسة وقد دلّ عليه قوله عزّ من قائل: (وإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل )(2) ويستفاد أيضاً من الروايات المأثورة عنهم (عليهم السّلام) بوضوح . كصحيحة أبي خديجة قال : «قال لي أبو عبدالله (عليه السّلام) .... ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة 27 : 136 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 1 .

(2) النساء 4 : 58 .

ــ[330]ــ

إليه» (1) وصحيحته الاُخرى قال : «بعثني أبو عبدالله (عليه السّلام) إلى أصحابنا فقال : قل لهم إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضياً ... (2) إلى غير ذلك من الروايات . بل لو لا مشروعية القضاء في الخصومات للزم اختلال النظام والهرج والمرج .

   فمشروعية القضاء في الشريعة المقدسة من المسلّمات والقضاء بمعنى فصل الخصومة وحلّها . وقد قيل : إنما سمي ذلك بالقضاء ، لأن القاضي يقضي على الخصومة بفصلها ، فلا يجوز وصلها بعد فصلها فإن جوازه يستلزم لغوية القضاء . وحيث إن المستفاد من الروايات أن حكم الحاكم إذا صدر عن الميزان الصحيح معتبر مطلقاً، وأن اعتباره ليس من جهة الأمارية إلى الواقع بل إنما هو لأجل أن له الموضوعية التامة في فصل الخصومات وحل المرافعات، فلا مناص من الالتزام بعدم جواز نقضه مطلقاً سواء علمنا بعدم مطابقته للواقع أو بالخطأ في طريقه ـ وجداناً أو تعبداً ـ أم لم نعلم به بلا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية فلا يجوز للمتخاصمين إعادة الدعوى عند ذلك الحاكم مرة ثانية أو عند حاكم آخر رضيا بها أم لم يرضيا ، كما لا يجوز للحاكم سماعها .

   ويدلنا على ذلك مضافاً إلى ما قدّمناه من الاطلاق وأن اعتبار الحكم من باب الموضوعية، أن حكم الحاكم لو جاز نقضه عند العلم بمخالفته للواقع أو الخطأ في طريقه للزم عدم نفوذه غالباً في الترافع في الشبهات الموضوعية وبقاء التخاصم فيها إلى الأبد، لعلم كل من المترافعين غالباً بعدم صدق الآخر أو عدم مطابقة بينته للواقع مع أنه لا مجال للتأمل في شمول الاطلاقات للشبهات الموضوعية ، ونفوذ حكم الحاكم فيها جزماً، ومنه يظهر أن الاطلاقات شاملة للشبهات الحكمية أيضاً كذلك وأن حكم الحاكم نافذ فيها ولو مع العلم بالمخالفة للواقع أو الخطأ في طريقه ، هذا كلّه إذا صدر الحكم على الميزان الصحيح .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة 27 : 13 / أبواب صفات القاضي ب 1 ح 5 .

(2) وسائل الشيعة 27 : 139 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 6 .

ــ[331]ــ

إلاّ إذا تبيّن خطؤه (1)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   وأما لو حكم من دون أن يراعي الموازين الشرعية ـ قصوراً أو تقصيراً ـ كما إذا استند في حكمه إلى شهادة النساء في غير ما تصح فيه شهادتهن ، أو استند إلى بينة المنكر دون المدعي ، أو حكم بما هو ضروري الخلاف الكاشف عن قصوره في الاستنباط وعدم قابليته للقضاء فلا مانع من الترافع بعده ، إلاّ أن هذا ليس بنقض للحكم حقيقة لأن الخصومة لم تنفصل واقعاً حتى يجوز وصلها أو لا يجوز ، فإن الحكم غير الصادر على الموازين المقررة كالعدم فلا حكم لينقض .

   (1) مقتضى الروايات الواردة في المقام وإن كان أن حكم الحاكم له الموضوعية التامة في فصل الخصومة والنزاع ، إلاّ أن مع التأمل فيها لا يكاد يشك في أن حكم الحاكم غير مغيّر للواقع عمّا هو عليه، بل الواقع باق بحاله وحكم الحاكم قد يطابقه وقد يخالفه، كيف وقد صرح بذلك في صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبدالله (عليه السّلام) قال : «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان ، وبعضكم ألحن بحجته من بعض ، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار» (1) فإنها صريحة كما ترى في أن القضاء غير مبدّل للواقع وأن من حكم له الحاكم بشيء إذا علم أن الواقع خلافه لم يجز له أخذه .

   إذن لا يمكننا أن نرتّب آثار الواقع بحكم الحاكم عند العلم بعدم مطابقته للواقع بلا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية ، وسواء علمنا بالخلاف بالوجدان أم بالتعبد ، فإذا ترافعا في صحة بيع وفساده وادعى أحدهما أنه مائع متنجّس ـ  لملاقاته العصير قبل ذهاب ثلثيه  ـ أو لاقى عرق الجنب عن الحرام ، والحجة قامت عنده على نجاستهما ، وبنى الآخر على صحة البيع لطهارتهما عنده ، وحكم الحاكم بصحة المعاملة لبنائه على طهارة الملاقي في الصورتين وجب على مدعي البطلان أن يرتّب على المعاملة آثار الصحة تنفيذاً لحكم الحاكم ، إلاّ أنه ليس له أن يرتّب آثار الطهارة على المبيع لعلمه بنجاسته تعبداً .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة 27 : 232 / أبواب كيفية الحكم ب 2 ح 1 .

ــ[332]ــ

   كما أن الحاكم إذا حكم بالمال لأحد المتخاصمين في ملكية شيء وجب على كليهما أن يرتّبا على المال آثار ملكية المحكوم له ظاهراً ، فيجب على المحكوم عليه دفع المال إلى المحكوم له لعدم جواز نقض الحكم كما مرّ ، إلاّ أنه ـ أي المحكوم له ـ لا يتمكن من أن يتصرف فيه سائر التصرفات إذا علم أن الحكم على خلاف الواقع كما أن المحكوم عليه يجوز أن يسرقه من المحكوم له إذا علم أن المال له وأن حكم الحاكم غير مطابق للواقع . بل لا يبعد الحكم بجواز التقاصّ له من مال المحكوم عليه ـ إذا توفرت الشروط ـ كما إذا علم أن المحكوم له قد ظلمه وادعى المال مع علمه بأنه ليس له . هذا .

   وقد يقال بالتفصيل في الشبهات الموضوعية بين ما إذا استند الحاكم إلى اليمين فلا  يجوز للمحكوم عليه السرقة والتقاصّ وإن علم أن حكمه ذلك مخالف للواقع وبين ما إذا استند إلى البينة فيجوز، وذلك للأخبار الواردة في أن من كان له على غيره مال فانكره فاستحلفه لم يجز له الاقتصاص من ماله بعد اليمين فان اليمين تذهب بالحق وهي عدّة روايات .

   منها : ما رواه خضر النخعي «في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده قال : فإن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقه» (1) .

   ومنها : رواية عبدالله بن وضّاح وفيها : «ولولا أنك رضيت بيمينه فحلّفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك ، ولكنك رضيت بيمينه وقد ذهبت اليمين بما فيها ...» (2) .

   ومنها غير ذلك من الروايات .

   والصحيح عدم الفرق في جواز الاقتصاص بين اليمين والبينة ، وذلك فإن الأخبار الدالة على أن اليمين تذهب بالحق على طائفتين : إحداهما : واردة في الاستحلاف وأن من له المال لو استحلف المنكر لم يجز له الاقتصاص من ماله بعد اليمين . وثانيتهما : ما  ورد في أن المنكر لو حلف لم يجز لمن له المال الاقتصاص من ماله .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة 23 : 285 / أبواب الأيمان ب 48 ح 1 .

(2) وسائل الشيعة 27 : 246 / أبواب كيفية الحكم ب 10 ح 2 .

ــ[333]ــ

   أما الطائفة الاُولى : فهي وإن كانت تامة دلالة ، ولا يمكن حملها على أن الحق الّذي يذهب به اليمين هو حق الدعوى لا الحق المدعى ، لأنه خلاف ما ورد في بعضها كما في الرواية المتقدمة «وقد ذهبت اليمين بما فيها» أي بما في يدك . وقوله في رواية موسى بن أكيل النميري «ذهبت اليمين بحق المدعي» (1) كما أنها غير معارضة في مداليلها ، إلاّ أنها ضعيفة السند وغير قابلة للاستدلال بها بوجه .

   أما الطائفة الثانية : فمنها : صحيحة سليمان بن خالد قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السّلام) عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ثمّ وقع له عندي مال آخذه (فآخذه) لمكان مالي الّذي أخذه وأجحده ، وأحلف عليه كما صنع ؟ قال : إن خانك فلا تخنه ، ولا تدخل فيما عبته عليه» (2) إلاّ أنها معارضة بصحيحة أبي بكر الحضرمي قال «قلت له : رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذه منه بقدر حقي ؟ قال : فقال : نعم ...» (3) إذن لا مجال للتفصيل في الشبهات الموضوعية بين اليمين والبينة .

   والمتحصل: أن بحكم الحاكم لا يجوز ترتيب آثار الواقع إذا علمنا مخالفته للواقع. نعم ، إذا لم يعلم أنه على خلافه أو مطابق له جاز ترتيب آثار الواقع بحكم الحاكم فلا  مانع من ترتيب أثر الطهارة على المبيع ، أو مالية المال للمحكوم له في المثالين عند عدم العلم بمخالفة الحكم للواقع ، لأنه مقتضى السيرة القطعية فلاحظ .

   ثمّ إن ما ذكرناه بناءً على ما استدللنا به من صحيحتي أبي خديجة المتقدمتين ظاهر لا اشكال فيه . وأما لو اعتمدنا على مقبولة عمر بن حنظلة فقد يتوهّم دلالتها على أن حكم الحاكم أمارة على الواقع ومعه لا مانع من ترتيب آثار الواقع بالحكم فيجوز لمدعي البطلان في المثال أن يرتّب آثار الطهارة على المبيع ، وكذلك المحكوم له يجوز أن يتصرف في المال وإن علم بعدم مطابقة الحكم للواقع ، فالأمارة القائمة على نجاسة الملاقي أو عدم كون المال للمحكوم له وإن كانت معارضة لحكم الحاكم وانهما أمارتان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة 27 : 244 / أبواب كيفية الحكم ب 9 ح 1 .

(2) وسائل الشيعة 17 : 274 / أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 7 .

(3) ورد مضمونه في وسائل الشيعة 17 : 274 / أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 5 .

ــ[334]ــ

   [ 58 ] مسألة 58 : إذا نقل ناقل فتوى المجتهد لغيره (1) ثمّ تبدل رأي المجتهد في تلك المسألة لا يجب على الناقل إعلام من سمع منه الفتوى الاُولى وإن كان أحوط ، بخلاف ما إذا تبيّن له خطؤه في النقل فإنه يجب عليه الاعلام ((1))

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

متعارضتان ، إلاّ أن الحكم مقدم على الأمارة المخالفة لورود المقبولة في مورد تعارض الحجتين ، فإن موردها هو التنازع في الدين أو الميراث الظاهر في التنازع في الحكم الكلّي ، والاختلاف في الحكم الشرعي إنما يتصوّر مع الحجة والدليل ، ومعه لو قدمنا العمل بالحجة على الحكم استلزم ذلك تخصيص المورد وهو أمر غير جائز .

   ويدفعه : مضافاً إلى أن المقبولة ضعيفة سنداً ولا دلالة لها على الأمارية وترتيب أثر الواقع لأنها إنما تدل على تقدم حكم الحاكم قضاءً للتخاصم ، أن جعل الأمارة والطريق مع العلم بالخلاف أمر لا معنى له، وما معنى كون الحكم حجة وطريقاً مع القطع بكونه مخالفاً للواقع ، وكيف يمكن الالتزام بوجوب قبوله وحرمة ردّه مع العلم بأنه خلاف ما أنزله الله سبحانه .

   ثمّ إن هذا كلّه في موارد الترافع والخصومات الأعم من الشبهات الحكمية والموضوعية . وهل ينفذ حكم الحاكم ويحرم نقضه في غير موارد الترافع أيضاً كثبوت الهلال ونصب القيّم والمتولي ونحوها ؟ يأتي عليه الكلام في المسألة الثامنة والستين إن  شاء الله ، ونبيّن هناك أنه لا دليل على نفوذ حكم الحاكم في غير موارد الترافع فليلاحظ .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net