اعتبار الأعلميّة في القاضي 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الاول:التقليد   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 7980


   وهل تعتبر الأعلمية بهذا المعنى في القاضي أو لا تعتبر ؟

   المنسوب إلى الأشهر أو المشهور هو الاعتبار ، والتحقيق عدم اعتبار الأعلمية في باب القضاء وذلك لصحيحة أبي خديجة قال : «قال أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادق (عليه السّلام) إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم ...» (1) فإن قوله (عليه السّلام) يعلم شيئاً من قضايانا كما أنه يصدق على الأعلم ، كذلك ينطبق على غير الأعلم من الفقهاء . نعم ، لا مجال للاستدلال على ذلك بأن «شيئاً» نكرة يصدق على العلم ببعض المسائل أيضاً ، وذلك لما قدمناه (2) من أن تنكير تلك اللفظة إنما هو من جهة عدم تمكن البشر من الاحاطة بجميع علومهم وقضاياهم (عليهم السّلام) فإن الانسان مهما بلغ من العلم والفقاهة لم يعرف إلاّ شيئاً من علومهم ، لا أنه من جهة أن العلم ولو بالمسألة الواحدة كاف في جواز الترافع عنده .

   ودعوى : أن الرواية ليست بصدد البيان من تلك الجهة وإلاّ جاز التمسك باطلاقها بالإضافة إلى العامّي الّذي علم مقداراً من المسائل الدينية بالتقليد ، مع أن الرواية غير شاملة له يقيناً . وهذا يدلنا على أنها ليست بصدد البيان من تلك الناحية .

   مندفعة أوّلاً : بأن الظاهر من قوله (عليه السّلام) «يعلم شيئاً من قضايانا» هو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة 27 : 13 / أبواب صفات القاضي ب 1 ح 5 .

(2) راجع ص 193  .

ــ[364]ــ

العلم بها من دون واسطة بوجه فلا يصدق على من علم بقضاياهم بتوسط العلم بفتوى مجتهده ، كيف فإن العامّي قد يكون أكثر استحضاراً للفتوى من نفس المجتهد ومع ذلك لا يطلق عليه الفقيه والعالم بأحكامهم (عليهم السّلام) وقضاياهم لدى العرف .

   وثانياً : هب أن الرواية مطلقة وأنها تشمل العلم بها ولو مع الواسطة ، فإنه لا مانع من أن نقيد إطلاقها بالعلم الخارجي ، لأن منصب القضاء لا يرضى الشارع بتصدي العامي له يقيناً . فدعوى أن الرواية لا إطلاق لها مما لا وجه له .

   وقد يقال : إن الرواية وإن كانت مطلقة في نفسها كما ذكر إلاّ أنها تقيد بما دلّ على اعتبار أن يكون القاضي أعلم ، وما يمكن أن يستدل به على التقييد روايات :

   منها : مقبولة عمر بن حنظلة ، حيث ورد فيها : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما ...» (1) لتصريحها بأن المعتبر هو ما حكم به أفقههما وبها نقيد إطلاق الرواية المتقدمة . ويرد عليه :

   أولاً : أن المقبولة ضعيفة السند ، لعدم ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة على ما مرّ غير مرة .

   وثانياً : أنها إنما وردت في الشبهات الحكمية ، لأن كلاً منهما قد اعتمد في حكمه على رواية من رواياتهم كما هو المصرح به في متنها وكلامنا إنما هو في الشبهات الموضوعية دون الحكمية ، فالرواية على تقدير تماميتها في نفسها أجنبية عن محل الكلام .

   وثالثاً : أن الرواية إنما دلت على الترجيح بالأفقهية فيما إذا ترافع المترافعان إلى حاكمين متعارضين في حكمهما ، وهب أ نّا التزمنا حينئذ بالترجيح بالأعلمية ، وأين هذا من محل الكلام وهو أن الرجوع إبتداءً هل يجوز إلى غير الأعلم أو لا يجوز ، من دون فرض تعارض في البين ولا الرجوع بعد الرجوع ، فالمقبولة غير صالحة للتقييد .

   ومنها : معتبرة داود بن الحصين عن أبي عبدالله (عليه السّلام) «في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين فاختلف

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة 27 : 106 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 1 .

ــ[365]ــ

العدلان بينهما ، عن قول أيهما يمضي الحكم ؟ قال : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر» (1) .

   وهذه الرواية وإن كانت سليمة عن المناقشة من حيث السند على كلا طريقي الشيخ والصدوق وإن اشتمل كل منهما على من لم يوثّق في الرجال ، فإن في الأول حسن بن موسى الخشاب ، وفي الثاني حكم بن مسكين ، وذلك لأنهما ممن وقع في أسانيد كامل الزيارات . على أن حسن بن موسى ممن مدحه النجاشي (قدّس سرّه) بقوله : من وجوه أصحابنا مشهور كثير العلم والحديث (2) والحسنة كالصحيحة والموثقة في الاعتبار فلا مناقشة فيها من حيث السند ، إلاّ أنها قاصرة الدلالة على المدعى وذلك للوجه الثاني والثالث من الوجوه الّتي أوردناها على الاستدلال بالمقبولة ، لأن المظنون بل المطمأن به أن موردها الشبهة الحكمية وأن اختلاف العدلين غير مستند إلى عدالة البينة عند أحدهما دون الآخر ، بل إنما هو مستند إلى اعتماد كل منهما في حكمه إلى رواية من رواياتهم (عليهم السّلام) كما أنها وردت في الترافع إلى حكمين بينهما معارضة في حكمهما ، وأين هذا مما نحن فيه أعني الرجوع من الابتداء إلى القاضي غير الأعلم من دون تعارض .

   ومنها : رواية موسى بن أكيل عن أبي عبدالله (عليه السّلام) قال «سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ له منازعة في حق فيتفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فاختلفا فيما حكما قال : وكيف يختلفان ؟ قلت : حكم كل واحد منهما للّذي اختاره الخصمان ، فقال : ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله ، فيمضي حكمه» (3) ويرد على الاستدلال بها .

   أولاً : أنها ضعيفة السند ، لأن فيه ذبيان بن حكيم وهو غير موثق بوجه .

   وثانياً : أنها إنما وردت في الرجوع إلى الحكمين المتعارضين في حكمهما وهو أجنبي عن المقام ، كما أن موردها لعلّه الشبهة الحكمية واستناد كل منهما في حكمه إلى رواية .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة 27 : 113 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 20 .

(2) رجال النجاشي : 42 / 85 .

(3) وسائل الشيعة 27 : 123 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 5 .

ــ[366]ــ

   إذن فهذه الروايات بأجمعها غير صالحة لتقييد الصحيحة مضافاً إلى أن جميعها تشتمل على الترجيح بالأورعية والأعدلية ، ولا شبهة في أن الأورعية غير معينة للرجوع إلى الأورع عند وجود من هو أعلم منه . وبهذا يظهر أن مواردها صورة المعارضة دون الرجوع ابتداءً .

   ومما استدل به على التقييد ما في عهد أمير المؤمنين (عليه السّلام) إلى مالك الأشتر من قوله : «إختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك» (1) .

   ويرد عليه : أوّلاً : أن العهد غير ثابت السند بدليل قابل للاستدلال به في الأحكام الفقهية وإن كانت عباراته ظاهرة الصدور عنه (عليه السّلام) إلاّ أن مثل هذا الظهور غير صالح للاعتماد عليه في الفتاوى الفقهية أبداً .

   وثانياً : أنه إنما يدل على لزوم اختيار أفضل الرعية للقضاء ، وأين هذا من اعتبار الأعلمية في محل الكلام ، لأن بين الأفضل والأعلم عموماً من وجه فإن الظاهر أن المراد بالأفضل هو المتقدم فيما يرجع إلى الصفات النفسانية من الكرم وحسن الخلق وسعة الصدر ونحوها مما له دخل في ترافع الخصمين وسماع دعواهما وفهمها ، دون الأعلمية في الفقاهة والاستنباط بالمعنى المتقدم في معنى الأعلم .

   وثالثاً : أن ما ادعي من دلالة العهد على اعتبار الأعلمية لو تمّ فإنما يختص بالقاضي المنصوب نصباً خاصاً من قبل الإمام (عليه السّلام) أو الوالي من قبله، ومحل الكلام إنما هو القاضي المنصوب بالنصب العام من باب الولاية وأين أحدهما من الآخر .

   والمتحصّل : أنه ليس هناك دليل يدلنا على تقييد الصحيحة المتقدمة ، فاطلاقها هو المحكّم كما ذكرناه .

   وقد يتوهّم أن في الأخبار الواردة عنهم (عليهم السّلام) ما دلّ على اشتراط الأعلمية في باب القضاء كما ذكره صاحب الوسائل (قدّس سرّه) حيث عقد باباً وعنونه بباب أنه لا يجوز للقاضي أن يحكم عند الشك في المسألة ، ولا في حضور من هو أعلم منه (2) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نهج البلاغة : 434 .

(2) وسائل الشيعة 27 : 215 / أبواب آداب القاضي .

ــ[367]ــ

   ويردّه : أن صاحب الوسائل وإن عنون الباب كذلك إلاّ أنه لم ينقل في ذلك الباب رواية تدلنا على اشتراط الأعلمية في القاضي فلاحظ .

   نعم ، ورد في بعض الروايات ذم من دعى الناس إلى نفسه وفي الاُمّة من هو أعلم منه ، كما ورد ذم من يفتي عباد الله وفي الاُمة من هو أعلم منه(1) إلاّ أن هاتين الروايتين مضافاً إلى ضعفهما من حيث السند أجنبيتان عن محل الكلام ، لأن أولاهما راجعة إلى ذم من ادعى الخلافة وفي الناس من هو أعلم منه ، وهو أمر لا شبهة فيه ، والثانية راجعة إلى اشتراط الأعلمية في باب التقليد ، فلا ربط لهما بالمقام، هذا مضافاً إلى السيرة القطعية الجارية بين المتدينين على الرجوع في المرافعات إلى كل من الأعلم وغير الأعلم ، لعدم التزامهم بالرجوع إلى خصوص الأعلم .

   ودعوى : أن المتشرعة لم يعلم جريان سيرتهم على الرجوع في المرافعات إلى غير الأعلم ، لأنه من المحتمل أن يكون كل من أرجع إليه الإمام (عليه السّلام) في موارد الترافع هو الأعلم ولو في بلده .

   مندفعة بأن هذه الدعوى لو تمت فإنما تتم في القضاة المنصوبين من قبله (عليه السّلام) نصباً خاصاً ، وأما المنصوبون بالنصب العام المدلول عليه بقوله «انظروا إلى رجل روى حديثنا» ونحوه فليس الأمر فيهم كما ادعى يقيناً للعلم الخارجي بأنهم في الرجوع إلى تلك القضاة لا يفرّقون بين الأعلم وغيره . بل كما أنهم يراجعون الأعلم يراجعون غير الأعلم .

   إذن لم يدلنا في الشبهات الموضوعية أي دليل على اشتراط الأعلمية في باب القضاء .

   وأما الشبهات الحكمية : كما إذا كان منشأ النزاع هو الاختلاف في الحكم الشرعي كالخلاف في أن الحبوة للولد الأكبر أو أنها مشتركة بين الوراث بأجمعهم، أو اختلفا في ملكية ما يشترى بالمعاطاة نظراً إلى أنها مفيدة للملكية أو للاباحة أو أنها مفيدة للملك اللاّزم أو الجائز فيما إذا رجع عن بيعه ، فالنزاع في أمثال ذلك قد ينشأ عن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع ص 150  .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net