أمّا الجهة الثانية والثالثة : فالأمر فيهما أيضاً كذلك ، حيث لم يقم دليل على حرمة قراءة العزائم أو الدخول في المسجدين أو المكث في المسـاجد على المستحاضة حتى تغتسل ، وإنما دلّت الأخـبار على حرمة تلكم الاُمور على الحائض وحسب (3) ، فدعوى أن هذه الاُمور يعتبر الاغتسال لها في حق المستحاضة تحتاج إلى دليل .
نعم ، ذهب جماعة إلى حرمة تلك الأفعال على المستحاضة ما لم تغتسل لصلاتها أو لتلك الأفعال ، وقد حكى شيخنا الأنصاري (قدس سره) عن المصابيح أنه قد تحقق
ـــــــــــــ (3) تقدّم ذكرها في البحث عن أحكام الحائض في شرح العروة 7 : 341 وما بعدها .
ــ[135]ــ
أن مذهب الأصحاب تحريم دخول المساجد وقراءة العزائم على المستحاضة قبل الغسل ، واستظهر من ذلك الاجماع على توقف الاُمور المذكورة على غسلها (1) .
وفيه : أن دعواهم للاجماع في المسألة لم تثبت أوّلاً .
وثانياً : أنه من الاجماع المنقول .
وثالثاً : أنه ظاهر البطـلان لو كان مراد صاحب المصابيح هو الاجمـاع ، بل هو مقطوع الخلاف لذهاب جملة من الأصحاب كالشيخ (2) والعلاّمة (3) والأردبيلي(4) وصاحبي المدارك(5) والذخيرة (6) إلى الجواز وعدم توقفها على الاغتسال ، ومعه كيف يمكن دعوى الاجماع في المسألة .
نعم ، قد يقال إن الحرمة وتوقف الأفعال المذكورة على الاغتسال مقتضى الاستصحاب فيما إذا كانت الاستحاضة مسبوقة بالحيض ، لحرمتها على الحائض فتستصحب .
المناقشات في التمسك بالاستصحاب في المقام
ولكن فيه وجوه من المناقشات وذلك :
أوّلاً : لأنه من الاستصحاب في الشبهات الحكمية وقد مرّ منّا المناقشة في جريانه مراراً .
وثانياً : فلو أغمضنا عن ذلك فالاستصحاب لا يجري في خصوص المقام لعدم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة ، لأن الحيض والاستحاضة متقابلان في الأخبار
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كتاب الطهارة : 261 السطر 25 / في الاستحاضة .
(2) النهاية : 29 ، المبسوط 1 : 67 / في الاستحاضة (لكن في الثاني خلاف لنقل المصنف) .
(3) المنتهى 2 : 416 ، التذكرة 1 : 291 / في الاستحاضة (لكن في كليهما خلاف لنقل المصنف) .
(4) لاحظ مجمع الفائدة والبرهان 1 : 164 .
(5) المدارك 2 : 37 / في أحكام المستحاضة (لكنه لم يقل بالجواز الاّ في دخول المساجد) .
(6) الذخيرة : 76 / في الاستحاضة (لكنه لم يصرح بالجواز الاّ في دخول المساجد) .
ــ[136]ــ
والحرمة قد ثبتت في حق الحائض ، وبعد انقطاع الحيض وارتفاعه ارتفعت الحرمة الثابتة لأجله لا محالة ، والمستحاضة موضوع ثان آخر نشك في حرمة تلك الأفعال في حقها بحيث لو قلنا فيها بالحرمة لكانت حرمة مغايرة لتلك الحرمة الثابتة على الحائض .
وممّا يؤيد ذلك أنّا لم نر ولم نسمع من أحد يحكم بوجوب الكفّارة في وطء المستحاضة ولو مع القول بحرمته في حقها ما لم تغتسل ، مع أن القائل بوجوب الكفّارة في وطء الحائض موجود .
فهذا يدلّنا على أن الحرمة ـ على تقدير القول بها في المستحاضة ـ هي حرمة اُخرى غير الحرمة الثابتة في حق الحائض ، ومع عدم اتحاد القضيتين لا مجرى للاستصحاب .
وثالثاً : لو أغمضنا عن ذلك فمقتضى إطلاق الآية الكريمة والروايات جواز وطء المستحاضة من دون حاجة إلى الاغتسال ، وذلك لقوله تعالى (وَلاَ تَقرَبُوهُنَّ حتّى يَطْهُرْنَ )(1) أو «يطّهرن» بالتشديد ، فإن للغاية مفهوماً ، فتدل على عدم الحرمة بعد انقطاع الدم أو الاغتسال من الحيض . وفي حالة الاستحاضة يجوز وطؤها بمقتضى الآية المباركة .
كما أن مقتضى الأخبار(2) ذلك ، بل بعضها عام ويدل على أن المستحاضة يأتيها بعلها إذا شاء (3) .
ومن الظاهر أن مع وجود الاطـلاق والدليل الاجتهـادي لا مجال للتمسّـك بالاستصحاب .
ورابعاً : أن الاستصحاب لو جرى فإنما يختص بما إذا حدثت الاستحاضة قبل غسل الحيض أو في أثنائه ، وأمّا إذا حدثت بعد الاغتسال من الحيض فمقتضى الاستصحاب جواز وطئها لا حرمته ، وذلك لأن الأزمنة ثلاثة :
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البقرة 2 : 222 .
(2) الوسائل 2 : 371 ، 379 / أبواب الاستحاضة ب 1 ، 3 .
(3) الوسائل 2 : 372 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 4 .
ــ[137]ــ
أحدها : زمان القطع بالحرمة ، وهو ما قبل اغتسالها .
وثانيها : زمان ا لقطع بالجواز ، وهو ما بعد اغتسالها .
وثالثها : زمان الشك في الحرمة وهو زمان حدوث الاستحاضة ، ومع تخلل اليقين بالجواز بين اليقين بالحرمة والشك فيها لا مجال لاستصحاب الحرمة بوجه ، هذا .
بل لو قلنا بجواز الوطء بعد الانقطاع وقبل الاغتسال يلزم في استصحاب الحرمة أن تكون الاستحاضة متصلة بدم الحيض ، إذ مع الفصل ـ كما إذا حدثت في زمن اغتسالها أو بعده ـ يتخلّل زمان القطع بالجواز بين زماني القطع بالحرمة والشك في الجواز ، وهذا في الأحكام المترتبة على انقطاع الدم كما في الوطء والطلاق دون ما يترتب على الغسل كدخول المسجدين ونحو ذلك .
فالمتحصل : أنه لا وجه للقول بتوقف الأفعال المذكورة في حق المستحاضة على الاغتسال ، لأنه محتاج إلى دليل ولا دليل عليه ، هذا .
وعن الوسيلة التفصيل بين الكعبة فلا يجوز للمستحاضة دخولها وبين سائر المساجد حتى المسجدين فيجوز(1) ، إلاّ أنه ممّا لم نقف له على مستند سوى مرسلة يونس بن يعقوب عمّن حدّثه عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال : المستحاضة تطوف بالبيت وتصلِّي ولا تدخل الكعبة»(2) ، وهي لضعفها وإرسالها لا يمكن الاعتماد عليها .
وهذا كلّه في غير الطواف والمسّ .
أمّا الطواف فمقتضى الأخبار المطلقة الدالة على وجوب الطواف أو استحبابه جوازه على المستحاضة من دون حاجة إلى الاغتسال ، كما أن ذلك مقتضى النصوص الخاصّة الواردة في أن المستحاضة لها أن تطوف بالبيت ، ومن جملتها خبر عبدالرحمن بن أبي عبدالله قال «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن المستحاضة أيطؤها زوجها ؟ وهل
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسيلة : 61 / في أحكام المستحاضة .
(2) الوسائل 13 : 462 / أبواب الطواف ب 91 ح 2 .
|