a أما الكتاب : فقوله تعالى : (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ . .) الخ(6) بتقريب أن المنصرف من الكلام بعد ملاحظة تخصيص الجمعة من بين الأيام ، إرادة صلاة الجمعة من ذكر الله ، فيجب السعي إليها لظهور الأمر في الوجوب ، لا سيما الأوامر القرآنية على ما ذكره صاحب الحدائق(7) ـ وإن لم نعرف وجهاً للتخصيص ـ وهذا
ـــــــــــ (6) الجمعة 62 : 9 .
(7) الحدائق 9 : 398 .
ــ[16]ــ
خطاب عام يشمل جميع المكلفين في كل جيل وحين .
وفيه أوّلاً : أنّ غاية ما يستفاد من الآية المباركة بعد ملاحظة كون القضية شرطية إنّما هو وجوب السعي على تقدير تحقق النداء وإقامة الجمعة وانعقادها ، ولعلنا نلتزم بالوجوب في هذا الظرف ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى ، وأما وجوب إقامتها ابتداءً والنداء إليها تعييناً فلا يكاد يستفاد من الآية بوجه كما لا يخفى .
ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك : (وَإِذَا رَأَوْا تِجَـرَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً)(1) حيث يظهر منها أن الذمّ إنما هو على تركهم الصلاة بعد فرض قيام النبي (صلى الله عليه وآله) لها ، واتصاف الجمعة بالانعقاد والاقامة ، فيتركونه قائماً ويشتغلون باللهو والتجارة ، وأما مع عدم القيام فلا ذمّ على الترك .
وبالجملة : وجوب السعي معلّق على النداء فينتفي بانتفائه بمقتضى المفهوم ، ولا دلالة في الآية على وجوب السعي نحو المعلّق عليه كي تجب الاقامة ابتداءً .
وثانياً : أن الاستدلال بها مبني على إرادة الصلاة من ذكر الله وهو في حيّز المنع ، ومن الجائز أن يراد به الخطبة ـ كما عن بعض المفسرين ـ بل لعله المتعين ، فان السعي هو السير السريع ، ومقتضى التفريع على النداء وجوب المسارعة إلى ذكر الله بمجرد النداء ، ومعه يتعين إرادة الخطبة ، إذ لا ريب في عدم وجوب التسرّع إلى الصلاة نفسها ، لجواز التأخير والالتحاق بالامام قبل رفع رأسه من الركوع بلا إشكال ، وحيث إن الحضور والانصات للخطبة غير واجب إجماعاً فيكشف ذلك عن كون الأمر للاستحباب .
a ويؤيده قوله تعالى : (ذَ لِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)(2) وقوله
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجمعة 62 : 11 .
(2) الجمعة 62 : 9 .
ــ[17]ــ
تعالى : (قُلْ مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَـرَةِ)(1) فان التعبير بالخير يناسب الاستحباب والندب ، والا فلو اُريد الوجوب كان الأنسب التحذير عن الترك بالوعيد والعذاب الأليم ، نعم لا نضايق من استعمال هذه الكلمة في موارد الوجوب في القرآن الكريم كقوله تعالى : (وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ)(2) ونحو ذلك ، لكن الوجوب في أمثالها قد ثبت من الخارج بدليل مفقود في المقام ، وإلا فهذه الكلمة في حدّ نفسها ـ الظاهرة في المفاضلة والترجيح ـ لا تقتضي إلا الندب والرجحان كما هو المتبادر منها ومن مرادفها من سائر اللغات في الاستعمالات الدارجة في عصرنا ، فانّ المراد بالخير لا سيما إذا كان متعدياً بـ (من) كما في الآية الثانية ، ليس ما يقابل الشر ، بل ما يكون أحسن من غيره ، فكأنه تعالى أشار إلى أنّ الصلاة لمكان اشتمالها على المنافع الاُخروية ، فالإقدام إليها أفضل وأرجح من الاشتغال بالتجارة التي غايتها الربح الدنيوي الزائل ، وقد وقع نظير ذلك في القرآن كثيراً كما في قوله تعالى : (وَلَلاَْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاُْولَى)(3) إذ ليس المراد ما يقابل الشر قطعاً ، ونحوها غيرها كما لا يخفى على الملاحظ .
ومما ذكرنا يعلم أنّ الأمر في الآية المباركة محمول على الاستحباب ، حتى لو اُريد بالذكر الصلاة دون الخطبة ، لمكان التذييل بتلك القرينة الظاهرة في الندب .
فالانصاف أنّ الاستدلال بهذه الآية للوجوب التعييني ضعيف .
a وأضعف منه الاستدلال بقوله تعالى : (حَـفِظُوا عَلَى الصَّلَوَ تِ وَالصَّلَوةِ الْوُسْطَى)(4) بتقريب أن المراد بالصلاة الوسطى هي صلاة الظهر في غير يوم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجمعة 62 : 11 .
(2) البقرة 2 : 184 .
(3) الضحى 93 : 4 .
(4) البقرة 2 : 238 .
ــ[18]ــ
الجمعة ، وصلاة الجمعة في يومها . بل إن الاستدلال بها عجيب جداً ، ومن هنا لم يتعرض المحقق الهمداني (قدس سره) للجواب إلا بقوله فيه ما لا يخفى(1) .
إذ يرد عليه أوّلاً : أن الصلاة الوسطى إما أن يراد بها صلاة الظهر كما هو المشهور أو العصر كما قيل ، وأما الجمعة فلم يفسّرها بها أحد ولا قائل بذلك ولا وردت به رواية ، نعم أرسل الطبرسي عن علي(عليه السلام) أن المراد بها الظهر في سائر الأيام والجمعة في يومها(2) وهي رواية مرسلة لا يعتمد عليها .
وثانياً : مع التسليم ، فالأمر بالمحافظة إرشادي نظير الأمر بالاطاعة فلا يتضمن بنفسه حكماً تكليفياً مستقلاً ، بل مفاد الأمر حينئذ الارشاد إلى التحفظ على الصلوات ، ومنها صلاة الجمعة الثابت وجوبها من الخارج على ما هي عليها وعلى النهج المقرر في الشريعة المقدسة ، بما لها من الكيفية والقيود المعتبرة فيها ، فلا بد من تعيين تلك الكيفية من الخارج ، من اشتراط العدد والحرية والذكورية ونحوها ، ومنها الاختصاص بزمن الحضور وعدمه ، فكما لا تعرّض في الآية لتلك الجهات نفياً وإثباتاً ولا يمكن استعلام حالها منها ، فكذا هذه الجهة كما هو واضح جداً .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الفقيه (الصلاة) : 440 السطر 1 .
(2) مجمع البيان 1 : 599 .
|