وثالثاً : طوائف من الأخبار تشهد بعدم الوجوب التعييني وتنافيه :
منها : الأخبار المتظافرة الدالة على سقوط الصلاة عمن زاد على رأس
ــ[25]ــ
فرسخين ، كصحيحة زرارة الاُولى المتقدمة(1) وصحيحة محمد بن مسلم وزرارة المتقدمة أيضاً(2) ، وصحيحة محمد بن مسلم قال : «سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن الجمعة ؟ فقال : تجب على كل من كان منها على رأس فرسخين ، فان زاد على ذلك فليس عليه شيء»(3) فانه لو كان واجباً تعيينياً على كل أحد ولم يكن مشروطاً بامام خاص ، لم يكن وجه لسقوط الصلاة عن البعيدين عن محل الانعقاد ، بل كان عليهم الاجتماع والانعقاد في أماكنهم ، فكيف ينفى عنهم الوجوب مصرحاً في الصحيحة الأخيرة بأنه ليس عليه شيء .
وحملها على عدم تحقق شرط الانعقاد ، لعدم استكمال أقل العدد ، أو عدم وجود من يخطب كما ترى ، فانه فرض نادر التحقق جداً ، إذ الغالب وجود نفر من المسلمين في تلك الأماكن وما حولها إلى الفرسخين بحيث تنعقد بهم الجمعة كما لا يخفى .
ومنها : الأخبار النافية لوجوبها على أهل القرى إذا لم يكن لهم من يخطب بهم كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) قال : «سألته عن اُناس في قرية هل يصلّون الجمعة جماعة ؟ قال : نعم ، ويصلّون أربعاً إذا لم يكن من يخطب»(4) .
وصحيحة الفضل بن عبد الملك قال : «سمعت أباعبدالله (عليه السلام) يقول : إذا كان القوم في قرية صلّوا الجمعة أربع ركعات ، فان كان لهم من يخطب لهم جمعوا . .»الخ(5) .
وموثقة سماعة عن الصادق (عليه السلام) قال فيها : «فان لم يكن إمام
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 18 .
(2) في ص 21 .
(3) الوسائل 7 : 309 / أبواب صلاة الجمعة ب 4 ح 6 .
(4) ، (5) الوسائل 7 : 306 / أبواب صلاة الجمعة ب 3 ح 1 ، 2 .
ــ[26]ــ
يخطب فهي أربع ركعات وإن صلّوا جماعة»(1) .
وموثقة ابن بكير قال : «سألت اباعبدالله (عليه السلام) عن قوم في قرية ليس لهم من يجمع بهم ، أيصلّون الظهر يوم الجمعة في جماعة ؟ قال : نعم إذا لم يخافوا»(2) .
فان المراد بمن يخطب في هذه الأخبار الّذي علّق على وجوده وجوب الجمعة ، وعلى عدمه وجوب الظهر ، ليس هو مجرد من يتمكن من إقامة الخطبة شأناً وإن لم يكن قادراً عليها فعلاً ، إذ مضافاً إلى أن ذلك خلاف الظاهر من سياق الكلام جداً كما لا يخفى ، أنه فرض نادر التحقق ، بل لا يكاد يتحقق خارجاً من لا يقدر على أداء الخطبة فعلاً كي يُعلّق عليه نفي الجمعة حتى المسمى منها ، وأقل الواجب الذي هو التحميد والثناء ، وقراءة سورة ولا أقلّ من الحمد الذي يعرفها كل أحد ، والوعظ المتحقق بقوله : أيها الناس اتقوا الله ، لا سيما بعد ملاحظة كون الرجل ممن يتمكن من إمامة الجماعة كما هو المفروض في تلك الأخبار ، حيث أمرهم الامام (عليه السلام) حينئذ بالاتيان بأربع ركعات جماعة .
فلا مناص من أن يراد بمن يخطب الفعلية كما هو المتبادر منها ، وحاصل المعنى حينئذ : أنه إن كان هناك من يقدم لاقامة الخطبة فعلاً ومتهيئاً لذلك وجبت الجمعة ، وإن لم يقدم بالفعل ـ مع قدرته عليها كما عرفت ـ سقطت وصلّوا الظهر جماعة . وهذا كما ترى لا يلائم الوجوب التعييني ، إذ عليه يجب الاقدام والتصدي للخطبة تعييناً وتركها موجب للفسق ، فكيف يصح الائتمام به كما هو صريح الأخبار ، بل يصح الاستدلال بها للمطلوب حتى لو اُريد بها الشأنية دون الفعلية ، ضرورة أنها لو كانت واجبة تعييناً لزم التصدي لتعلم الخطبة ولو كفاية ، كي لا يؤدي إلى ترك هذه الفريضة التعيينية ، لوجوب
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 7 : 310 / أبواب صلاة الجمعة ب 5 ح 3 .
(2) الوسائل 7 : 327 / أبواب صلاة الجمعة ب 12 ح 1 .
ــ[27]ــ
تحصيل المقدمات التي يفوت بتركها الواجب في ظرفه عقلاً ، فعدم التصدي والإهمال في ذلك المستوجب لترك الواجب فسق وعصيان ، وبه يسقط صاحبه عن صلاحية الاقتداء به ، فكيف أمر بالائتمام به في تلك الأخبار .
والمتحصل من جميع ما قدمناه لحدّ الآن : أن الروايات التى استدل بها الخصم وإن كانت ظاهرة في الوجوب التعييني بالظهور الإطلاقي ، إلا أنه لا يسعنا الأخذ بهذا الظهور لأجل تلكم القرائن والشواهد التي منها بعض نفس تلك الأخبار ـ كما عرفت ـ فلا مناص من حملها على الوجوب التخييري .
|