وقد ينعكس كما لو أتى بالمغرب قبيل سقوط الشفق ، وبالعشاء بعده من غير فاصل زماني ، وربما يجتمعان كما لو كان بلا فاصل في الفرض الأوّل(1) فهنا مقامان :
أما المقام الأوّل : فلا إشكال في مرجوحية الجمع المذكور ، ضرورة أنّ الأفضل لكل صلاة الاتيان بها في وقت فضيلتها ، فالتقديم أو التأخير خلاف ما هو الأفضل ، وهذا في المغرب والعشاء واضح ، وكذا في الظهر ، إذ الأفضل الاتيان بها قبل القدم أو القدمين ، أو صيرورة الظل مثل الشاخص حسب اختلاف الأخبار المحمول على اختلاف مراتب الفضل كما تقدم في محله ، فالتأخير عن هذا الحدّ مرجوح .
وأما العصر فقد سبق(2) أن الأفضل الاتيان بها بعد الفراغ عن فريضة الظهر ونافلتها ، إذ ليس بعد صلاة الظهر إلا سبحتك ـ كما جاء في النص(3) ـ ولا يتوقف الرجحان على التأخير عن القدم أو القدمين أو الذراع والذراعين ، وإنما الاعتبار بالفراغ المزبور ، فلو لم يكن مأموراً بالنافلة كما في يوم الجمعة أو حال السفر ، أو لم يرد الاتيان بها ، كان الأفضل الاتيان بالعصر بعد صلاة الظهر مباشرة ، لاستحباب المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير . ومعه لا موجب للتفريق . إذن فالمرجوح هو الجمع بين الظهرين في وقت فضيلة العصر دون العكس .
وأما المقام الثاني : فالمشهور وإن كان هو استحباب التفريق وباحثوا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) [في الأصل : كما لو كان مع الفاصل في الفرض المزبور ، والصحيح ما أثبتناه ، لأنّ الغرض بيان مادّة الاجتماع لا انتفاء كليهما] .
(2) في ص 156 .
(3) الوسائل 4 : 134 / أبواب المواقيت ب 5 ح 13 .
ــ[221]ــ
حول تحققه بمجرد فعل النافلة وعدمه كما ستعرف ، إلا أنّ الأظهر أن الشهرة المدعاة مما لا أساس لها ، لضعف مستندها من الأخبار المستدل بها لذلك ، إما سنداً أو دلالة على سبيل منع الخلو ، وإليك عرض النصوص :
فمنها : ما رواه الشهيد في الذكرى عن كتاب عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) : «أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان في السفر يجمع بين المغرب والعشاء والظهر والعصر ، إنما يفعل ذلك إذا كان مستعجلاً ، قال : وقال (عليه السلام) وتفريقهما أفضل»(1) .
وهي بقرينة ذكر الظهرين ظاهرة في استحباب التفرقة من حيث الاتصال الخارجي ، نظراً إلى سقوط النافلة في السفر ودخول وقت فضيلة العصر بمجرد الفراغ من الظهر ، فلا يحتمل أن يكون المراد مرجوحية الجمع من حيث الوقت ، وإن تطرق احتماله لولا هذه القرينة كما لا يخفى . إذن فالدلالة تامة .
لكن السند ضعيف ، لجهالة طريق الشهيد إلى كتاب ابن سنان . مضافاً إلى الاطمئنان بأن الكتاب المشتمل على تلك الرواية لا وجود له وإلا لنقلها عنه المتقدمون عليه كالكليني والشيخ والصدوق وغيرهم ، فكيف لم ينقلها عنه غير الشهيد(2) .
ومنها : موثقة زرارة قال : «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : أصوم فلا اُقيل حتى تزول الشمس ، فاذا زالت الشمس صليت نوافلي ثم صليت الظهر ، ثم صليت نوافلي ثم صليت العصر ، ثم نمت وذلك قبل أن يصلي الناس ، فقال : يازرارة إذا زالت الشمس فقد دخل الوقت ولكني أكره لك أن تتخذه وقتاً دائماً»(3) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 4 : 220 / أبواب المواقيت ب 31 ح 7 ، الذكرى 2 : 334 .
(2) يمكن النقض بكتاب مسائل علي بن جعفر ، حيث ينقل عنها صاحب الوسائل والبحار عشرات الروايات ويعتمد عليها الاُستاذ (طاب ثراه) مع أنها غير موجودة في الكتب المعروفة .
(3) الوسائل 4 : 134 / أبواب المواقيت ب 5 ح 10 .
ــ[222]ــ
وهي من حيث السند خالية عن الخدش فان الكاهلي ممدوح ، وباعتبار وقوعه في أسناد كامل الزيارات موثوق ، كما أنها من حيث الدلالة ظاهرة ، بل لعلها أحسن رواية دلت على التفريق ، بل وعدم كفاية الفصل بالنافلة .
بيد أنها معارضة بنصوص معتبرة تضمنت نفي البأس عن الجمع وأنه لا تمنعك إلا سبحتك ، فاذا تنفّل للعصر كما هو مفروض الرواية لم تكن ثمة أيّ مرجوحية ، وقد تقدم(1) أن التحديد بالقدم أو القدمين أو الذراع والذراعين إنما هو لأجل النافلة ، ولولاها لكان الاتيان بصلاة العصر بعد الظهر مباشرة هو الأفضل كما في يوم الجمعة أو حال السفر ، وقد ورد أنّ وقت صلاة العصر يوم الجمعة هو وقت الظهر في سائر الأيام(2) .
هذا مع إمكان الخدش في دلالة الروايَة على استحباب الفصل أو كراهة الجمع ، لابتنائها على ورودها لبيان الحكم الشرعي الكلي وليس كذلك ، فان ظاهر قوله : «ولكن أكره لك . . .» الخ اختصاص الكراهة بشخص زرارة ، ولعله من أجل شدة اختصاصه بالامام وكونه من أكابر أصحابه ، بل من خواصه وبطانته ، فانه لو اتخذ ذلك وقتاً لنفسه المستلزم طبعاً لغيابه عن حضور جماعة القوم لعرفوا تخلفه عنهم وربما استتبع اللوم والعتاب ، بل وإساءة الأدب حتى إلى ساحة الامام (عليه السلام) فرعاية للتقية نهاه عن الادامة ، فلا تدل على الكراهة إلا على سبيل الدوام فضلاً عن الكراهة لجميع الأنام . والعمدة ما عرفت من المعارضة .
ومنها : رواية معاوية (معبد) بن ميسرة قال : «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) إذا زالت الشمس في طول النهار للرجل أن يصلي الظهر والعصر ، قال : نعم ، وما اُحب أن يفعل ذلك كل يوم»(3) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 156 .
(2) الوسائل 7 : 316 / أبواب صلاة الجمعة ب 8 ح 3 .
(3) الوسائل 4 : 128 / أبواب المواقيت ب 4 ح 15 .
ــ[223]ــ
وفيه : أنها ضعيفة السند ، إذ لا توثيق لأحمد بن أبي بشير ولا لمعاوية بن ميسرة ، وأما معبد بن ميسرة ـ كما في بعض النسخ ـ فهو مهمل .
على أنها قاصرة الدلالة ، لظهورها في الاتيان بالظهرين متعاقبين من دون تنفل بينهما ، ولا ريب أن المواظبة على ترك النافلة والالتزام به أمر مرجوح ، فلا تدل على استناد الكراهة إلى مجرد الجمع ولو من دون التزام به كما يدعيه القائل بها .
ومنها : رواية عبدالله بن سنان قال : «شهدت صلاة المغرب ليلة مطيرة في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فحين كان قريباً من الشفق نادوا وأقاموا الصلاة فصلو المغرب ، ثم أمهلوا الناس حتى صلوا ركعتين ، ثم قام المنادي في مكانه في المسجد فأقام الصلاة فصلوا العشاء ، ثم انصرف الناس إلى منازلهم ، فسألت أباعبدالله (عليه السلام) عن ذلك ؟ فقال : نعم ، قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمل بهذا»(1) .
دلت على مركوزية استبشاع الجمع في أذهان أصحاب الأئمة ومرجوحيته بحيث استغرب منه ابن سنان ، وربما احتمل عدم الجواز ومن ثم راجع الامام وسأله عما شاهده ، وقد أقره (عليه السلام) على هذا الارتكاز ولم يردعه عنه ، غايته أنه نبّه على جوازه وعدم حرمته ، فالجمع بين هذا التجويز وذاك الارتكاز ينتج الكراهة لا محالة .
وفيه : مضافاً إلى ضعف الرواية بسهل بن زياد ،أنها قاصرة الدلالة على ما هو محل البحث من مجرد الجمع والاتصال الخارجي ، إذ الظاهر أنّ منشأ الاستغراب إنما هو الجمع بحسب الوقت بتأخير المغرب وتقديم العشاء على ذهاب الشفق ، أعني الجمع بينهما في منتهى وقت فضيلة المغرب ، وهذا مما لا شبهة في مرجوحيته كما سبق ، وهو خارج عن محل الكلام .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 4 : 218 / أبواب المواقيت ب 31 ح 1 .
ــ[224]ــ
ومنها : رواية صفوان الجمال قال : «صلى بنا أبوعبدالله (عليه السلام) الظهر والعصر عندما زالت الشمس بأذان وإقامتين ، وقال : إني على حاجة فتنفلوا»(1) .
دلت على مرجوحية الجمع في حال الاختيار ، وإنما فعله (عليه السلام) لحاجة دعته إليه .
وفيه : مضافاً إلى ضعف السند بالوليد بن أبان وغيره ممن وقع فيه ، أنها أيضاً قاصرة الدلالة ، لجواز أن يكون الوجه في المرجوحية هو ترك التنفل الذي أمرهم به بعد الصلاتين لا مجرد الجمع والاتصال الخارجي .
ومنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا كان في سفر أو عجّلت به حاجة يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء الآخرة ، قال : وقال أبوعبد الله(عليه السلام) : لا بأس أن يعجّل العشاء الآخرة في السفر قبل أن يغيب الشفق»(2) .
دلت على اختصاص الجمع بصورة العجلة والحاجة فلا جمع في حال الاختيار .
وفيه : أنها ناظرة إلى الجمع بحسب الوقت بتأخير إحداهما وتقديم الاُخرى عن وقت الفضيلة كالاتيان بالعشاء قبل غيبوبة الشفق ، ولا شبهة في مرجوحيته في غير حال السفر والحاجة ، ولا نظر فيها إلى الجمع الاتصالي الذي هو محل الكلام .
ثم إنه ربما يستدل لهذا القول بجملة اُخرى من النصوص وفيها الصحاح وأكثرها حاكية عن فعل النبي (صلى الله عليه وآله) وأنه جمع بين الصلاتين من غير علة ولا سبب ، معللاً في بعضها بارادة التوسعة على الاُمة ، أوردها في الوسائل في باب مستقل عنونه بباب جواز الجمع بين الصلاتين لغير عذر ، وهو
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ، (2) الوسائل 4 : 219 / أبواب المواقيت ب 31 ح 2 ، 3 .
|