[1207] مسألة 17 : إذا نذر النافلة لا مانع من إتيانها في وقت الفريضة ولو على القول بالمنع (2).
ـــــــــــــــــــــ (2) لا شبهة في صحة نذر النافلة كصحة الاتيان بالمنذور في وقت الفريضة ، بناءً على ما هو المختار من مشروعية التطوع في وقت الفريضة ، بل تصح حتى إذا كان المنذور هو التطوع في هذا الوقت خاصة ، فضلاً عما إذا كان مطلقاً أو مقيداً بوقت أوسع منه كما هو واضح .
ــ[346]ــ
وأما بناءً على المشهور من عدم المشروعية ، فتارة يكون متعلق النذر مطلقاً واُخرى مقيداً بوقت الفريضة .
أما في الصورة الاُولى : فلا ينبغي الاشكال في صحة النذر أيضاً ، لأن متعلقها وهو طبيعي النافلة راجح ومقدور للناذر عقلاً وشرعاً ولا مانع بعد هذا من الاتيان بها في وقت الفريضة ، إذ هي بالنذر تتصف بالوجوب وتخرج عما كانت عليه من عنوان التطوع الذي هو بمعنى الاتيان عن طوع ورغبة ، فانه ملزم بها بمقتضى نذره ، فلا تشملها الروايات الناهية عن التطوع في وقت الفريضة .
ودعوى أن الاتيان بها في وقت الفريضة مرجوح فلا يكون مشمولاً للنذر كما ترى ، ضرورة أن المتعلق هو الطبيعي المطلق والجامع الشامل له ولغيره على الفرض ، وقد ذكرنا في الاُصول(1) أنّ معنى الاطلاق رفض القيود لا أخذها ولحاظها بأسرها . إذن فما هو المتعلق للنذر غير مرجوح ، وما هو المرجوح لم يكن متعلقاً للنذر .
وما قد يقال من أن الجامع بين المرجوح وغيره مرجوح ، كلام صوري لا أساس له من الصحة ، بداهة أن المرجوحية من عوراض الفرد نشأت من اقترانه ببعض الملابسات ولم تكن ملحوظة في صقع الذات ونفس الجامع بوجه ، فان متعلق النذر هو طبيعي الصلاة التي هي خير موضوع ، فكيف يكون مرجوحاً .
إلا أن يقال : إن المقصود من التطوع الممنوع في لسان الأدلة هو ما كان تطوعاً ومستحباً في حدّ ذاته مع الغض عن العوارض الطارئة .
ولكنه بمراحل عن الواقع ، لظهور الأدلة في العناوين الفعلية وما هو تطوع بالحمل الشايع وبوصفه العنواني بحيث يكون صدوره خارجاً بداعي التطوع
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محاضرات في اُصول الفقه 5 : 346 .
ــ[347]ــ
هذا إذا أطلق نذره ، وأما إذا قيّده بوقت الفريضة فاشكال على القول بالمنع وإن أمكن القول بالصحة ، لأن المانع إنما هو وصف النفل وبالنذر يخرج عن هذا الوصف ويرتفع المانع ، ولا يرد أنّ متعلق النذر لابد أن يكون راجحاً ، وعلى القول بالمنع لا رجحان فيه فلا ينعقد نذره ، وذلك لأن الصلاة ـ من حيث هي ـ راجحة ، ومرجوحيتها مقيّدة بقيد يرتفع بنفس النذر ، ولا يعتبر((1)) في متعلق النذر الرجحان قبله ومع قطع النظر عنه حتى يقال بعدم تحققه في المقام (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومتصفاً بالاستحباب في ظرف العمل ، ولا شبهة في زوال هذا العنوان بعد تعلق النذر حسبما عرفت .
(1) وأما في الصورة الثانية : فغير خفي أن التقييد يتصور على نحوين :
أحدهما : أن يكون الوقت الذي قيّد به المنذور أوسع من وقت الفريضة ، بحيث يتمكن من الاتيان به في زمان تكون الذمة فارغة عنها ، كما لو نذر الاتيان بصلاة جعفر (عليه السلام) يوم الجمعة وعليه فريضة قضائية أو أدائية يمكنه تفريغ الذمة عنها ، ثم التصدي للنافلة .
وقد علم حكم هذه الصورة مما مرّ ، فان مثل هذه النافلة مشروعة ومقدورة ، فلا مانع من أن تكون منذورة وبعد انعقاد النذر والحكم بصحته ساغ الاتيان بها حتى قبل تفريغ الذمة عن الفريضة ، فانها بعد زوال عنوان التطوع بعروض النذر وصيرورتها واجبة كان الاتيان بها من الفريضة قبل الفريضة لا من التطوع قبلها كما لا يخفى ، وهذا واضح .
ثانيهما : أن يكون المنذور مقيّداً بالوقت المجعول للفريضة بحيث لا يسعه [إلاّ] الاتيان به قبل تفريغ الذمة عنها ، كما لو نذر الاتيان بصلاة جعفر بعد الغروب أو عند الزوال مباشرة ، فهل ينعقد مثل هذا النذر ؟ فيه خلاف شديد
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في البيان قصور ظاهر ، وإن كان ما اختاره هو الصحيح .
ــ[348]ــ
بين الأعيان ، وفي المسألة قولان معروفان ، ذهب إلى كل منهما جماعة كثيرون ، فاختار فريق ومنهم المحقق الهمداني(1) (قدس سره) الفساد وعدم الانعقاد نظراً إلى اعتبار الرجحان في متعلق النذر ، والتطوع في وقت الفريضة أمر مرجوح بل غير مشروع حسب الفرض ، ومن المعلوم أن غير المشروع لا ينقلب بالنذر إلى المشروع فكيف يحكم بصحته وانعقاده .
وذهب آخرون ومنهم السيد الماتن (قدس سره) إلى الصحة وذكر (قدس سره) في وجهها ما ملخصه : أنه يكفي في الرجحان المعتبر في متعلق النذر حصوله ولو من قِبل نفس النذر ولا يلزم أن يكون راجحاً قَبله ، وبما أن الصلاة المنذورة في مفروض المسألة بما لها من الخصوصية تصبح راجحة بعد تعلق النذر بها ، فلا مانع من انعقاده ووجوب الوفاء به .
ولكنك خبير بأن هذا الكلام بظاهره لا يمكن المساعدة عليه ، بل غير قابل للتصديق ، إذ ليت شِعري ما هو الكاشف عن حدوث الرجحان بالنذر ، ومن أيّ طريق يحرز تأثيره فيه ما لم يقم عليه دليل بالخصوص ، كما في نذر الاحرام قبل الميقات والصيام في السفر ، حيث علمنا من دليل صحة النذر في هذين الموردين ـ وهما محرّمان ـ حدوث الرجحان به ، ولم يرد مثله في المقام ، ومن الواضح عدم إمكان الاذعان بحدوث الرجحان من قبل النذر بقول مطلق ، لما فيه ما فيه مما لا يخفى على ذي مسكة .
وبالجملة : بعد الاعتراف بالمرجوحية قبل تعلق النذر ما هو الدليل على انقلابها الى الرجحان بسببه ، ولاسيما بعد أن كان مقتضى إطلاق دليلها شمولها لما بعد النذر أيضاً كما لا يخفى ، هذا .
ولكن الظاهر أنّ السيد الماتن (قدس سره) يريد من كلامه هذا شيئاً آخر هو الصواب قد اُشير إليه في مطاوي عبارته وإن كانت قاصرة نوعاً ما عن إفادته ، وهو أن الصلاة لا شبهة في رجحانها في حدّ ذاتها ، فانها عبادة بل خير
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الفقيه (الصلاة) : 64 السطر 30 .
ــ[349]ــ
موضوع من شاء استقل ومن شاء استكثر ، والمرجوحية المفروضة إنما نشأت من أجل تعنونها بعنوان التطوع في وقت الفريضة ، وبما أن هذا العنوان متقوم بالاتيان بما لا إلزام فيه ، وإنما يأتي به المكلف عن طوعه ورغبته ، والمفروض انقلابه بسبب النذر إلى الالزام المزيل لذاك العنوان ، فلا مانع بعد ارتفاع المانع من الالتزام بصحة النذر وكونه مشمولاً لاطلاقات أدلة الوفاء به .
وبالجملة : المقصود من نذر التطوع نذر ما هو تطوع في حدّ ذاته لا حتى بعد النذر ، لامتناع امتثاله بوصفه العنواني بعد انعقاده كما هو واضح ، فاذا كان المتعلق هو الذات وهي مشروعة مقدورة راجحة وعمّها دليل الصحة ، خرجت بقاءً عن تحت عنوان التطوع خروجاً وجدانياً تكوينياً غير مستند إلى التشريع ليحتاج إلى الدليل ، إذ ليس هو من باب التخصيص ، بل من باب ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه ، بداهة انقلاب عنوان التطوع إلى الفرض بسبب النذر واندراجه تحت عنوان الفريضة قبل الفريضة بدلاً عن التطوع قبلها ، وليس مراده (قدس سره) أن النذر محقق ومولّد للرجحان ليطالب بالدليل والبرهان وإن كان ربما يوهمه ظاهر عبارته (قدس سره) .
ومما ذكرنا تعرف أنّ النقض على المصنف بنذر المحرمات بدعوى أنه لو كان موجباً للرجحان فهلاّ يكون كذلك فيها أيضاً ، ساقط جداً ، لما عرفت من أن الصلاة راجحة في حد ذاتها وقبل تعلق النذر بها ، غير أنها مكتنفة بخصوصية موجبة للحزازة مرفوعة بنفس النذر تكويناً لا أنه يحدث الرجحان فيها ، فلا تقاس بفاقد المزية فضلاً عن المحرمات الشرعية .
كما أن الايراد عليه بأن الصلاة المقترنة بتلك الخصوصية غير مقدورة ، لأنها تطوع في وقت الفريضة الممنوع في الشريعة ، ولا يتعلق النذر إلا بالأمر المقدور .
مدفوع بكفاية القدرة حين العمل وبعد انعقاد النذر ، ولا تعتبر القدرة قبله .
ــ[350]ــ
وقد ذكرنا في الاُصول(1) أنه لا عبرة بالقدرة حال الخطاب وزمان الايجاب ، بل المدار في الاعتبار هو ظرف الامتثال ووقت الاتيان بالعمل خارجاً ، والمفروض حصول القدرة في هذه الحالة ، بل يمكن القول بحصولها حتى قبلها ، إذ المقدور مع الواسطة مقدور ، فهو قادر قبل النذر على الاتيان بصلاة جعفر يوم الجمعة عند الزوال وقبل الاتيان بفريضة الظهر ، بالقدرة على النذر المستوجب لانقلاب الموضوع حسبما عرفت .
والنتيجة : أنّ ما أفاده الماتن (قدس سره) من صحة النذر في مفروض المسألة هو الصحيح ، وإن كانت العبارة قاصرة ، حيث يوهم ظاهرها نشوء الرجحان من النذر ، وليس كذلك ، وإنما الناشئ منه هو القدرة شرعاً على العمل بالنذر حيث يزول به المانع الشرعي تكويناً ، فلو اُبدل الرجحان الواقع في كلامه بالقدرة وقال هكذا : ولا تعتبر في متعلق النذر القدرة عليه قبله ، لسلم عن الاشكال .
وقد استبان بما حققناه الفرق الواضح بين المقام وبين مثل نذر الصوم في السفر ، حيث إن موضوع هذا النذر وهو كون الصوم في السفر لا يرتفع بالنذر ، بل هو شيء واحد قبله وبعده ، فمن ثم احتاج نفوذ النذر إلى الدليل بعد أن كان متعلقه محرّماً في نفسه ، بخلاف المقام حيث إن العنوان المحرّم وهو التطوع قبل الفريضة يزول بنفس النذر تكويناً ويتبدل بالفريضة قبل مثلها ، ومن ثم كانت الصحة مطابقة للقاعدة من غير حاجة إلى التماس دليل خاص ، هذا .
ولمزيد توضيح المقام بما يزيل غشاوة الابهام نقول : إن المأخوذ في لسان الروايات الناهية هو عنوان التطوع أو النافلة . والمحتمل بدواً في هذا الأخذ أن يكون على أحد أنحاء ثلاثة :
الأول : أن يكون على سبيل الطريقية ومحض المعرّفية من غير دخالة له في
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محاضرات في اُصول الفقه 2 : 354 .
ــ[351]ــ
متعلق النهي ، فيكون المنهي عنه في الحقيقة هو ذات الصلاة ، والتطوع أو التنفل ملحوظ على نحو العنوان المشير إلى ما هو المتعلق .
فعليه يكون النذر في المقام باطلاً من أصله ، لأن المفروض أن ذات المتعلق منهي عنه وحرام إما ذاتاً أو تشريعاً ، وإن كان الأول بعيداً جداً كما تقدم ، وكيف ما كان فمجرد الحرمة ولو كانت تشريعية كافية في عدم انعقاد النذر كما هو واضح .
ولكن هذا النحو من الأخذ خلاف ظواهر النصوص الناهية عن التطوع في وقت الفريضة ، لأن ظاهرها أن لعنوان التطوع مدخلاً في تعلق النهي كما لا يخفى .
الثاني : أن يكون للتطوع بما له من العنوان الواقعي دخل في تعلق النهي ، فيكون المنهي عنه عنوان ما هو تطوع وتنفّل بالفعل ، أي ذات الصلاة مع اتصافها فعلاً بكونها تطوعاً واقعاً .
وهذا الاحتمال كما ترى فاسد جزماً ، بل غير معقول في نفسه ، ضرورة أن فرض الاتصاف بالتنفل فعلاً مساوق لافتراض الرجحان والمحبوبية الفعلية ، فكيف يمكن أن يقع مع هذا الوصف العنواني مورداً للنهي الشرعي حتى بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي ، فان ما هو محبوب للمولى لا يمكن أن يكون منهياً عنه ، بداهة أن النهي عن المحبوب بما هو محبوب غير معقول ، فلا جرم يتعين الاحتمال [الثالث] .
الثالث : وهو أن يكون المنهي عنه قصد عنوان التطوع ، لا ذات الصلاة ولا المركّب منها ومن التطوع الواقعي ، بل الحرام ما قصد به التطوع والتنفّل ، والعمل الذي يؤتى به خارجاً بهذا العنوان ، فيكون مفاد الروايات الناهية المنع عن الصلاة التي قصد بها التطوع في وقت الفريضة ، وهذا أمر ممكن في نفسه ولا ضير فيه ، بل هو الظاهر من قوله (عليه السلام) : «فلا تطوع» ، الوارد في نصوص الباب ، وبه يستكشف عدم تعلق الأمر بهذا العنوان .
|