أخبار عدم انفعال القليل - ما استدلّ به الكاشاني (قدس سره) 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثاني:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 8449


    الأخبار الدالّة على عدم انفعال القليل

   فمنها : ما استدلّ به الكاشاني (قدس سره) من قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «خلق الله الماء طهوراً لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه» (5) وادّعى انّها مستفيضة وقد دلت على حصر موجب الانفعال بالتغيّر في أحد الأوصاف الثلاثة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 159 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 7 .

(2) الوسائل 1 : 164 / أبواب الماء المطلق ب 10 ح 1 .

(3) الحدائق 1 : 281 .

(4) الوسائل 1 : 225 / أبواب الأسآر ب 1 ح 3 .

(5) قد قدمنا نقلها عن المستدرك والمحقق وابن ادريس ونقلنا مضمونها عن كتب العامّة أيضاً فراجع ص 11 .

ــ[121]ــ

وأن ما لا تغيّر فيه لا انفعال فيه قليلاً كان أم كثيراً .

   وهذا الاستدلال من عجائب ما صدر عن الكاشاني (طاب ثراه) لأ نّه من أحد المتضلعين في الأخبار وقد ادعى مع ذلك استفاضة الروايات المتقدمة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يرد شيء منها من طرقنا وإنما رواها العامة بطرقهم فلا رواية حتى تستفيض فهذه الدعوى سالبة بانتفاء موضوعها على أ نّها لم تبلغ مرتبة الاستفاضة من طرق العامة أيضاً وإنما رووها بطريق الآحاد ومثل هذا لا يكاد يخفى على المحدّث المذكور فهو من غرائب الكلام .

   ومنها : ما ورد من طرقنا بمضمون أن الماء لا ينجسه شيء إلاّ أن يتغيّر طعمه أو ريحه أو لونه حيث حصر علّة الانفعال بالتغيّر في أحد الأوصاف الثلاثة وهو كما في رواية القماط أ نّه سمع أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : «في الماء يمرّ به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة فقال أبو عبدالله (عليه السلام) إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضأ منه وإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب وتوضّأ» (1) وصحيحة حريز بن عبدالله عن أبي عبدالله (عليه السلام) أ نّه قال : «كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا تتوضّأ منه ولا تشرب»(2) وصحيحة عبدالله بن سنان قال : «سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا حاضر عن غدير أتوه وفيه جيفة ؟ فقال : إن كان الماء قاهراً ولا توجد منه الريح فتوضأ» (3) إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على انحصار المناط في الانفعال بالتغيّر قليلاً كان الماء أم كثيراً ، فالقلّة لا تكون علّة للانفعال بالملاقاة ما دام لم يتغيّر في أحد أوصافه .

   ويدفعه عدم ورود شيء من هذه الأخبار في خصوص القليل حتى تعارض الأخبار المتقدمة الدالّة على انفعال القليل بالملاقاة ، فإنّ الموضوع فيها هو النقيع والغدير وأشباههما مما هو أعم من القليل والكثير ، بل ظاهر هذه العناوين هو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 138 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 4 .

(2) الوسائل 1 : 137 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 1 .

(3) الوسائل 1 : 141 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 11 .

ــ[122]ــ

خصوص الكثير فإن النقيع وأمثاله إنما يطلق على الماء الذي يبقى مدّة في الفلوات والقليل ليس له بقاء كذلك . وغاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال بهذه الأخبار إنها مطلقة لعدم استفصالها بين القليل والكثير وترك الاستفصال دليل العموم .

   والجواب عن ذلك : أنها وإن كانت مطلقة لما ذكر ، إلاّ أ نّه لا بدّ من رفع اليد عن إطلاقها بالأخبار المتقدمة التي ادعينا تواترها إجمالاً لدلالتها على انفعال القليل بمجرد ملاقاة النجس وإن لم يتغيّر شيء من أوصافه ، وهذا كما دلّ على نجاسة ماء الاناء إذا أصابته قطرة من الدم (1) أو أصابته يده وهي قذرة (2) أو شرب منه الكلب والخنزير (3) ومن الظاهر أن ملاقاة هذه الاُمور للماء القليل لا يوجب تغيّره في شيء مع أ نّه ينفعل بملاقاتها . وهذ الأخبار تكفي في تقييد اطلاق الروايات المتقدمة .

   وممّا يدلّنا على هذا ما ورد في صحيحة صفوان بن مهران الجمال من سؤاله (عليه السلام) عن مقدار الماء وحكمه بعدم الانفعال على تقدير بلوغ الماء نصف الساق والوجه في دلالتها أ نّه لو لم يكن هناك فرق بين القليل والكثير لما كان وجه لسؤاله (عليه السلام) عن مقدار الماء . «قال صفوان الجمال سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الحياض التي ما بين مكة إلى المدينة تردها السباع وتلغ فيها الكلاب وتشرب منها الحمير ويغتسل فيها الجنب ويتوضأ منها ؟ قال : وكم قدر الماء ؟ قال : إلى نصف الساق، وإلى الركبة، فقال : توضأ منه»(4). وقد دلت هذه الرواية على عدم انفعال الكر بورود السباع وولوغ الكلاب ونحوهما ، فإن الماء في الصحاري إذا بلغ نصف الساق يشتمل على أضـعاف الكر غالباً ، إذ الصحاري مسطحة وليست مرتفعة الأطراف كالحياض الموجودة في البيوت فإذا بلغ فيها الماء نصف الساق فهو يزيد عن الكر بكثير .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 150 / أبواب الماء المطلق ب 8 ح 1 .

(2) الوسائل 1 : 153 / أبواب الماء المطلق ب 8 ح 7 ، وغيرها .

(3) الوسائل 1 : 225 / أبواب الأسآر ب 1 ح 2 ، 3 .

(4) الوسائل 1 : 162 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 12 .

ــ[123]ــ

   ويدلّ على تقييد المطلقات المتقدمة أيضاً ما ورد من الأخبار في تحديد الماء العاصم بالكر كما في صحيحة إسماعيل بن جابر قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الماء الذي لا ينجسه شيء فقال كر ...» (1) وغيرها ممّا هو بهذا المضمون لأ نّها تدل على أن القليل ينفعل بملاقاة النجس وإن لم يحصل فيه تغيّر ، وهذه الأخبار وإن كانت معارضة للمطلقات المتقدمة بالعموم من وجه إلاّ أ نّها تتقدم على المطلقات وتوجب تقيدها لا محالة . والوجه في ذلك هو أن هذه الأخبار دلتنا على أن هناك شيئاً يوجب انفعال القليل دون الكثير وليس هذا هو التغيّر قطعاً لأ نّه كما ينجس القليل كذلك يوجب انفعال الكثير لما دلّ على تنجس ماء البئر ونحوه بالتغيّر في أحد أوصافه كما عرفته سابقاً ، ولا سيما أن أغلب الآبار كر ، وعليه فلا بدّ من تقييد ما دلّ على اعتصام البئر والكر ونحوهما كإطلاق قوله لأنّ له مادّة (2) وقوله كر (3) بما إذا لم يتغيّر بشيء من أوصاف النجس .

   وقد صرّح بما ذكرناه في صحيحة شهاب بن عبد ربّه المروية عن بصائر الدرجات حيث قال (عليه السلام) في ذيلها : «وجئت تسئل عن الماء الراكد من الكر (4) مما لم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 159 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 7 .

(2) الوسائل 1 : 141 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 12 ، وكذا في ص 172 / أبواب الماء المطلق ب 14 ح 7 .

(3) كما في صحيحة إسماعيل بن جابر المتقدمة آنفاً .

(4) قد اعتمدنا في نقل الصحيحة مشتملة على كلمة «من الكر» والاستدلال بها على نجاسة الكر المتغيّر بأوصاف النجس على نقل صاحب الوسائل (قدس سره) ولما راجعنا البحار [ 77  :  24 ] ونفس بصائر الدرجات [ 258 / 13 ] ظهر أن نسخ الكتاب مختلفة وفي بعضها «من البئر» وبذلك تصبح الرواية مجملة وتسقط عن الاعتبار . والذي يسهل الخطب أن مدرك الحكم بنجاسة الكر المتغيّر غير منحصر بهذه الصحيحة وذلك لقيام الضرورة والتسالم القطعي حتى من الكاشاني (قدس سره) على نجاسة الماء المتغيّر ولو كان كراً .

         مضافاً إلى الأخبار المتقدمة التي استدللنا بها على ذلك في ص 57 فإن فيها غنى وكفاية في الحكم بنجاسة الماء المتغيّر .

         أضف إلى ذلك موثقة أبي بصير قال : «سألته عن كر من ماء مررت به وأنا في سفر قد بال   فيه حمار أو بغل أو انسان قال : لا توضأ منه ولا تشرب» الوسائل 1 : 139 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 5 ، لأ نّها بعد ما قيدناها بالأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالّة على عدم نجاسة الكر بملاقاة النجس من غير تغيّر كالصريحة في إرادة تغيّر الكر ببول الانسان فيه .

         وأمّا نهيه (عليه السلام) عن شربه أو التوضؤ منه إذا بال فيه بغل أو حمار فهو محمول على الكراهة أو التقيّة .

         ويؤيدها ما ورد في غير واحد من الأخبار من النهي عن التوضؤ أو الشرب من الغدير والنقيع فيما إذا تغيّرا بوقوع الجيفة فيهما [ الوسائل 1 : 139 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 4 ، 6 ، 11 ، 13 ] إذ النقيع ، والغدير في الصحاري يشتملان عادة على أزيد من الكر بكثير ولا سيّما على المختار من تحديده بسبعة وعشرين شبراً ، فليلاحظ .

ــ[124]ــ

يكن فيه تغيّر أو ريح غالبة قلت فما التغيّر ؟ قال : الصفرة ، فتوضأ منه وكلما غلب كثرة الماء [ عليه ] فهو طاهر (1) .

   وإذا قيدنا أدلّة اعتصام الكر وشبهه بما لا تغيّر فيه فتنقلب النسبة بين المطلقات وأخبار اعتصام الكر إلى العموم المطلق ، وتكون أخبار اعتصام الكر غير المتغيّر أخص مطلقاً من المطلقات لأ نّها باطلاقها دلت على عدم انفعال غير المتغيّر كراً كان أم قليلاً ، والروايات الواردة في الكر تدل على عدم انفعال خصوص الكر الذي لا تغيّر فيه ، وبما أ نّها أخص مطلقاً من المطلقات فلا محالة نقيدها بالكر ، والنتيجة أن ما لا يكون كراً ينفعل بملاقاة النجاسة ، فالذي يوجب انفعال خصوص القليل دون الكثير هو ملاقاة النجس في غير صورة التغيّر .

   وإلى هنا تلخص أن الروايات العامة لا تنفع المحدث المزبور في المقام .

   وأمّا الأخبار الخاصة فمما يستدل به على مسلك المحدث الكاشاني (قدس سره) عدّة روايات .

   منها : ما رواه محمد بن ميسر قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ، ويريد أن يغتسل منه وليس معه إناء يغرف به ويـداه قذرتان قال : يضع يده ثم يتوضّأ ثم يغتسـل ، هذا ممّا قال الله عزّ وجلّ :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 162 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 11 .

ــ[125]ــ

ما  جعل عليكم في الدّين من حرج» (1) وقد دلت على عدم انفعال القليل بملاقاة المتنجس أعني يدي الرجل القذرتين ولذا صح منه الوضوء والغسل وهي كما ترى واردة في خصوص القليل كما هو ظاهر .

   وقد يناقش فيها كما في طهارة المحقق الهمداني (قدس سره) بأ نّها وردت تقية لموافقتها لمذهب العامة ، حيث جمعت بين الوضوء وغسل الجنابة وهما مما لا يجتمعان في مذهب الشيعة (2) . ولا يخفى ضعف هذه المناقشة كما نبّه عليه هو (قدس سره) أيضاً إذ المراد بالوضوء في الرواية ليس هو الوضوء بالمعنى المصطلح عليه بل هو بمعناه اللغوي ، وهو المعبّر عنه في الفارسية بـ «شستشو كردن» فأين اجتماع الوضوء مع الغسل .

   فالصحيح في الجواب أن يقال : إن القليل في الرواية ليس بمعناه المصطلح عليه عند الفقهاء فإنه اصطلاح منهم (قدس سرهم) ولم يثبت أن القليل كان بهذا المعنى في زمانهم (عليهم السلام) بل هو بمعناه اللغوي الذي هو في مقابل الكثير ، ومن البيّن أن القليل يصدق حقيقة على الكر والكرين بل وعلى أزيد من ذلك في الصحاري بالإضافة إلى ما في البحار والبركان ، وعليه فالرواية غير واردة في خصوص القليل . نعم ، أن إطلاقها يشمل ما دون الكر أيضاً ، ولكنك عرفت أن الأخبار الواردة في انفعال القليل بالملاقاة البالغة حد التواتر تقتضي تقييد المطلقات وتخصيصها بغير ذلك لا محالة ، ولعلّ السؤال في الرواية من أجل أن جماعة من العامة ذهبوا إلى نجاسة الغسالة في الجنابة ولو مع طهارة البدن(3) بل ذهب أبو حنيفة وغيره إلى نجاسة غسالة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 152 / أبواب الماء المطلق ب 8 ح 5 .

(2) مصباح الفقيه (الطهارة) : 15 السطر 28 .

(3) وفي عمدة القاري شرح البخاري ، للعيني الحنفي ج 3 ص 72 «باب استعمال فضل وضوء الناس» اختلف الفقهاء فيه : فعن أبي حنيفة ثلاث روايات (الاُولى) : ما رواه عنه أبو يوسف انّه نجس مخفف (الثانية) رواية الحسن بن زياد عنه انه نجس مغلظ (الثالثة) : رواية محمد بن الحسن عنه انه طاهر غير طهور ، وهو اختيار المحققين

ــ[126]ــ

ــــــــــــــــــــــــــــ

من مشائخ ما وراء النهر ، وعليه الفتوى عندنا .

      وفي المجلد 1 من بدائع الصنائع للكاشاني الحنفي ص 68 : ان أبا يوسف جعل نجاسة المستعمل في الوضوء والغسل خفيفة لعموم البلوى فيه لتعذر صيانة الثياب عنه . ولكونه محل الاجتهاد فأوجب ذلك خفة في حكمه والحسن جعل نجاسته غليظة لأ نّها نجاسة حكمية وانها أغلظ من الحقيقية ألا ترى انه عفي عن القليل من الحقيقية دون الحكمية كما إذا بقي على جسده لمعة يسيرة .

         وقال ابن حزم في المجلد 1 من المحلّى ص 185 : انّ أبا حنيفة ذهب إلى عدم جواز الغسل والوضوء بالماء المستعمل في الوضوء والغسل وان شربه مكروه ، وقال: روي عنه ـ  يعني أبا حنيفة  ـ انه طاهر والأظهر عنه انه نجس وهو الذي روي عنه نصاً وانه لا ينجس الثوب إذا أصابه الماء المستعمل إلاّ أن يكون كثيراً فاحشاً . ونقل عن أبي يوسف انه فصل بين ما إذا كان المقدار الذي أصاب الثوب من الماء المستعمل شبراً في شبر فقد نجسه وما إذا كان أقل من ذلك فلم ينجسه ، ثم نقل عن أبي حنيفة وأبي يوسف كليهما ان الرجل الطاهر إذا توضأ في بئر فقد نجس ماءها كلّه فيجب نزحها ولا يجزيه ذلك الوضوء بلا فرق في ذلك بين أن يتوضأ
للصلاة قبل ذلك وما إذا لم يتوضأ لها ، فإن اغتسل فيها أيضاً أنجسها كلها سواء أ كان جنباً قبل ذلك أم لم يكن ، وإنّما اغتسل فيها من غير جنابة بل ولو اغتسل في سبعة آبار نجسها كلّها .

         وعن أبي يوسف انه ينجسها كلّها ولو اغتسل في عشرين بئراً ، وفي ص 147 مشيراً إلى أبي  حنيفة وأصحابه ما هذا نصه : ومن عجيب ما أوردنا عنهم قولهم في بعض أقوالهم : انّ ماء وضوء المسلم الطاهر النظيف أنجس من الفأرة الميتة .

         ولم يتعرّض في الفقه عل المذاهب الأربعة [ ج 1 ص 38 ] لهذا القول بل عدّ الماء المستعمل من قسم الطاهر غير الطهور قولاً واحداً . نعم ذهب جماعة إلى ذلك .

         ففي المغني لابن قدّامة الحنبلي ج 1 ص 18 : الماء المنفصل عن أعضاء المتوضي والمغتسل في ظاهر المذهب طاهر غير مطهر لا يرفع حدثاً ولا يزيل نجساً وفي ص 20 قال : جميع الأحداث سواء فيما ذكرنا ..

         وفي كتاب الاُم للشافعي ج 1 ص 29 : إذا توضّأ بما توضّأ به رجل لا نجاسة على أعضائه لم يجزه لأ نّه ماء قد توضي به ، وكذا لو توضأ بماء قد اغتسل فيه رجل ، والماء أقل من قلتين لم يجزه .. ثم قال : لو أصاب هذا الماء الذي توضأ به من غير نجاسة على البدن ثوب الذي توضّأ به أو غيره أو صبّ على الأرض لم يغسل منه الثوب ، وصلّى على الأرض لأ نّه ليس بنجس ... وتابعه الغزالي في الوجيز ج 1 ص 3 فقال : الماء المستعمل في الحدث طاهر غير طهور على القول الجديد .

         وفي المدونة لمالك ج 1 ص 4 قال مالك : لا يتوضّأ بماء قد توضي به مرّة ولا خير فيه فإذا لم يجد رجل إلاّ ماء قد توضي به مرة فأحب إلي انّه يتوضأ به إذا كان طاهراً ولا يتيمّم وإذا أصاب الماء الذي توضي به مرة ثوب رجل فلا يفسد عليه ثوبه إذا كان الماء طاهراً . وقد نسب ذلك أيضاً إلى مالك في بداية المجتهد لابن رشد المالكي ج 1 ص 28 .

ــ[127]ــ

الوضوء أيضاً فإنّهم يشترطون في الطهارة أن يكون الماء عشرة في عشرة (1) وهو يبلغ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عثرنا على ذلك في المجلد 24 من التفسير الكبير للفخر الرازي ص 95 حيث قال : وأمّا تقدير أبي حنيفة بعشر في عشر فمعلوم انّه مجرّد تحكّم . ويطابقه ما في المجلد 1 من الفقه على المذاهب الأربعة ص 28 من قوله : الحنفية قالوا إن الماء ينقسم إلى قسمين كثير وقليل فالأول كماء البحر ، والأنهار ، والترع ، والمجاري الزراعية ومنه الماء الراكد في الأحواض المربعة البالغة مساحتها عشرة أذرع في عشرة بذراع العامة ...

         هذا ولكن المعروف من أبي حنيفة وأصحابه في كتبهم المعدة للافتاء والاستدلال تقدير الكثير بأمر آخر ، وهو كون الماء بحيث إذا حرك أحد طرفيه لا يتحرك الآخر . وقد نصّ بذلك في بداية المجتهد ج1 لابن رشد ص24 ، وفي التذكرة 1 ص 19 عن أبي حنيفة وأصحابه
انّه كلّما يتيقن أو يظن وصول النجاسة إليه لم يجز استعماله وقدره أصحابه ببلوغ الحركة. ثم ضعفه بعدم الضبط فلا يناط به ما يعم به البلوى، وفي المجلد 1 من المحلّى ص153 عن أبي حنيفة ان الماء ببركة إذا حرك أحد طرفيها لم يتحرك طرفها الآخر فإنّه لو بال فيها ما شاء أن يبول فله أن يتوضأ منها ويغتسل فإن كانت أقل من ذلك لم يكن له ولا لغيره أن يتوضأ منها ولا أن يغتسل . وأيضاً في المجلد 1 من المحلّى ص143 عن أبي حنيفة ما حاصله انّ وقوع شيء من النجاسات في الماء الراكد ينجس كلّه قلّت النجاسة أو كثرت ويجب إهراقه ولاتجوز الصلاة بالوضوء أو بالاغتسال منه كما لا يجوز شربه كثر ذلك الماء أو قلّ اللّهمّ إلاّ أن يكون بحيث إذا حرّك أحد طرفيه لم يتحرّك الآخر فإنه طاهر حينئذ ويجوز شربه كما يجوز التطهير به.

         وقال في بدايع الصنايع المجلد 1 ص 72 انّهم اختلفوا في تفسير الخلوص فاتفقت الروايات عن أصحابنا انّه يعتبر الخلوص بالتحريك وهو انّه إن كان بحال لو حرك طرف منه يتحرك الطرف الآخر فهو مما يخلص وإن كان لايتحرك فهو مما لا يخلص ... وقد أورد في المحلّى ص  143 عن أبي حنيفة وأصحابه بأن الحركة في قولهم ان حرك طرفه لم يتحرك ... بماذا
تكون فليت شعري هل تكون باصبع طفل ، أم بتبنة ، أو بعود مغزل ، أو بعوم عائم ، أو بوقوع فيل ، أو بحصاة صغيرة ، أو بانهدام جرف ؟! نحمد الله على السلامة من هذه التخاليط .

ــ[128]ــ

مائة شبر في سعته ، ومن هنا لا يغتسلون في الغدران والنقيع لعدم بلوغهما الحد المذكور اللّهمّ إلاّ أن يكون نهراً أو بحراً ، ولأجل هذا سأله الراوي عن الاغتسال في مياه الغدران والنقيع بتخيل انفعالهما بالاغتسال وأجابه (عليه السلام) بأنها معتصمة وأزيد من الكر . وعدم اعتصام الكر حرجي ولو في بعض الموارد وما جعل عليكم في الدين من حرج .

   ومنها : صحيحة زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر هل يتوضأ من ذلك الماء ؟ قال : لا بأس» (1) وتقريب الاستدلال بها أن شعر الخنزير نجس ، والغالب أن الماء يتقاطر من الحبل على الماء الموجود في الدلو ، فلو كان القليل ينفعل بملاقاة النجس لتنجس ماء الدلو بما يتقاطر عليه من الماء الملاقي لشعر الخنزير ، مع أن الإمام (عليه السلام) نفى البأس عن التوضؤ به ، وهذا يدل على عدم انفعال القليل . ويدفع هذا الاستدلال :

   أوّلاً : أن الرواية شاذة ، فهي لو تمت وصحت فلا يعارض بها الأخبار المشهورة التي دلت على عدم اعتصام القليل ، والشهرة في الرواية من مرجحات المتعارضين بل ذكرنا في الاُصول أنها تلغي ما يقابلها عن الحجية رأساً (2) .

   وثانياً : أن من الجائز أن يكون الحبل المفروض اتخاذه من شعر الخنزير غير متصل بالدلو على نحو يصل إليه الماء ويتقاطر منه على الدلو ولعلّ وجه السؤال عن حكم ذلك حينئذ هو احتمال بطلان الوضوء لأجل أن الخنزير وشعره مبغوضان في الشرع . وقد أفتى جمع من الفقهاء (قدس سرهم) بحرمة استعمال نجس العين حتى في غير ما يشترط فيه الطهارة كلبسه في غير حال الصلاة ، فإذا حرم استعمال شعر الخنزير مطلقاً ، كان من المحتمل بطلان الوضوء الذي هو أمر عبادي بالاستقاء له بما هو مبغوض ، ولأجل هذا الاحتمال سأله (عليه السلام) عن حكم الوضوء بذلك الماء

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 170 / أبواب الماء المطلق ب 14 ح 2 .

(2) مصباح الاُصول 3 : 355 .

ــ[129]ــ

وأجابه (عليه السلام) بعدم البأس به .

   وثالثاً : أن دلالة الرواية على اعتصام القليل لو تمت فإنّما هي بالاطلاق ، ولا مانع من تقييده بما دلّ على انفعال القليل بالملاقاة ، ولا بعد في بلوغ ما في بعض الدلاء المستعمل في سقي المزارع كراً ، ولا سيما إذا بنينا على أن مكعّبه ما يكون سبعة وعشرين شبراً .

   ورابعاً : لو أغمضنا عن جميع ذلك ، وفرضنا الصحيحة صريحة في ملاقاة شعر الخنزير لماء الدلو مع فرض قلته ، فأيضاً لا دلالة لها على عدم انفعال القليل بملاقاة النجس ، وذلك لجواز أن تكون الصحيحة ناظرة إلى عدم نجاسة شعر الخنزير ، كما ذهب إليه السيد المرتضى (قدس سره)(1) وغيره واستدلّ عليه بهذه الصحيحة ، وعليه فيتعيّن حملها على التقية لذهاب جماعة من العامة إلى عدم نجاسة شعر الخنزير والكلب (2) . وكيف كان فلا يمكن الاستدلال بها على تساوي الماء القليل والكثير في الاعتصام ، وقد قدّمنا أن ما في صحيحة صفوان الجمّال (3) من سؤاله (عليه السلام) عن مقدار الماء وحكمه بعدم الانفعال على تقدير بلوغ الماء نصف الساق أوضح شاهد على الفرق بين الماء القليل والكثير .

   ومنها : رواية أبي مريم الأنصاري قال : «كنت مع أبي عبدالله (عليه السلام) في حائط له فحضرت الصلاة فنزح دلواً للوضوء من ركيّ له فخرج عليه قطعة عذرة يابسة ، فأكفأ رأسه وتوضأ بالباقي» (4) حيث دلت على عدم انفعال القليل بملاقاة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الناصريات : 182 السطر 16 .

(2) ففي الفقه على المذاهب الأربعة المجلد 1 ص 8 أن المالكية قالوا بطهارة جميع الأشياء المذكورة «الشعر والوبر والصوف والريش» من أي حيوان سواء أ كان حيّاً أم ميّتاً مأكولاً أم غير مأكول ولو كلباً أو خنزيراً وسواء أ كانت متصلة أم منفصلة ... وفي ص 11 أن المالكية ذهبوا إلى طهارة كل حي ولو كان كلباً أو خنزيراً ووافقهم الحنفية على طهارة عين الكلب ما دام حيّاً على الراجح إلاّ أن الحنفية قالوا بنجاسة لعابه تبعاً لنجاسة لحمه بعد موته .

(3) الوسائل 1 : 162 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 12 .

(4) الوسائل 1 : 154 / أبواب الماء المطلق ب 8 ح 12 .

ــ[130]ــ

النجس ، ولذا توضّأ (عليه السلام) بباقي الماء في الدلو .

   وقد حملها الشيخ تارة على أن الدلو كان بمقدار كر (1) . وهو لا يخلو عن غرابة .

   واُخرى على أن العذرة عذرة غير الانسان من سائر الحيوانات المأكول لحمها . ويبعّد : أنّ العذرة قد اُخذت فيها الرائحة الكريهة كما فى مدفوع الانسان والهرة والكلب ، ولا تطلق العذرة على مدفوع سائر الحيوانات المحللة لعدم اشتماله على الرائحة الكريهة وإنما يعبّر عنها بالروث .

   وثالثة على أن المراد بالباقي هو الباقي في البئر دون الماء الباقي في الدلو. ويدفعه : أن ظاهر الرواية أنّه أكفأ رأس الدلو حتى يتوضأ بالماء الباقي في الدلو لا أنّه أراق جميع ماء الدلو . على أن هذا الاحتمال بعيد في نفسه .

   ورابعة حملها على التقية . ولا يخفى أن غرضه (قدس سره) بهذه الوجوه هو التحفظ على الرواية وعدم طرحها مهما أمكن العمل بها ولو بحملها على وجوه بعيدة لا أنه (طاب ثراه) لم يلتفت إلى بُعد تلك الوجوه على ما هو عليه من الدقة والجلالة .

   فالصحيح فى الجواب أن يقال : إن الرواية ضعيفة السند من جهة بشير الراوي عن عن أبي مريم لتردده بين الثقة وغيره ، وإن كان أبو مريم موثقاً في نفسه فلا اعتبار بالرواية .

   ومنها : ما عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قلت له رامية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرذ أو صعوة ميتة ؟ قال : إذا تفسّخ فيها فلا تشرب من مائها ولا تتوضّأ وصبّها وإن كان غير متفسّخ فاشرب منه وتوضأ واطرح الميتة إذا أخرجتها طريّة وكذلك الجرّة وحبّ الماء والقربة وأشباه ذلك من أوعية الماء وقال : قال أبو جعفر (عليه السلام) : إذا ان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شيء ، تفسخ فيه أو لم يتفسخ إلاّ أن يجيء له ريح تغلب على ريح الماء»(2) .

   والجواب عنها أنها ضعيفة سنداً ومتناً، فأما ضعفها سنداً فلوقوع علي بن حديد في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الاستبصار 1 : 42 / 119 .

(2) الوسائل 1 : 139 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 8 .

ــ[131]ــ

طريقها ، وأمّا بحسب متنها فلاشتمالها على ما لا يقول به أحد حتى ابن أبي عقيل وهو تنجس الماء بتفسخ الميتة وعدمه بعدم تفسخها ، فإن من يرى انفعال القليل بالملاقاة ومن لا يرى انفعاله بها لا يفرق بين ما إذا تفسخ فيه النجس وما إذا لم يتفسخ . هذا أوّلاً .

   وأمّا ثانياً : فلاشتمالها على الفرق بين مقدار الراوية والزائد عليه مع أنّه لا فرق بينهما ، فإن الفرق إنّما هو بين الكر والقليل والراوية أقلّ من الكر فطرح الرواية متعيّن هذا(1) .

   على أنّ هاتين الروايتين وأشبهاهما على تقدير صحتها في نفسها لا يمكن أن تقابل بها الأخبار المتواترة الدالّة على انفعال الماء القليل بالملاقاة ، لأن الشهرة تستدعي إلغاء ما يقابلها عن الاعتبار رأساً ، وعليه فالمقتضي لانفعال القليل موجود وهو تام والمانع عنه مفقود .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net