ــ[191]ــ
وكذا السنجاب (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هو مقتضى المضمرة ، وحيث لا يحتمل تعدد الواقعة فلا يدرى أنّه نقل عن الإمام بلا واسطة أو بواسطة مجهول ، فلا جرم تسقط عن درجة الاعتبار .
ومن ثمّ قال في التهذيب ما لفظه : وهذا ظاهر التناقض ، لأنّه لو كان السائل هو نفسه لوجب أن تكون الرواية الأخيرة كذباً ، ولو كان السائل غيره لوجب أن تكون الاُولى كذباً ، وإذا تقابل الروايتان ولم يكن هناك ما يعضد إحداهما وجب اطراحهما(1) .
وعلى الجملة : محتملات الرواية عن داود حسب اختلاف نقل المشايخ ثلاثة : كونه هو السائل ، كون السائل غيره وهو حاضر ، كونه غيره وهو غائب . وحيث إنّ الواقعة واحدة بالضرورة فلا سبيل للتعويل عليها .
أضف إلى ذلك أنّ المضمرة لا حجية لها في نفسها ، لجهالة المروي عنه ، فانّ داود الصرمي غايته أنّه موثق بتوثيق ابن قولويه ، ولم يبلغ من الجلالة حداً لا يحتمل روايته عن غير المعصوم ، مثل زرارة ومحمد بن مسلم وأضرابهما ، فلا يعتمد عليها بوجه .
هذا مع أنّ موردها وبر الأرانب خاصة ، فعطف الثعالب عليها عار عن الدليل .
والمتحصّل : اختصاص الاستثناء بالخز الخالص كما عليه المشهور .
(1) فتجوز الصلاة في جلده ووبره وإن كان مما لا يؤكل . وقد اختلفت كلمات الفقهاء (قدس الله أسرارهم) في ذلك ، فذهب الشيخ في المبسوط(2) وصلاة النهاية(3) وأكثر المتأخرين إلى الجواز ، ونسبه في المنتهى إلى الأكثر(4)
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التهذيب 2 : 213 / ذيل ح 834 .
(2) المبسوط 1 : 82 ـ 83.
(3) النهاية : 97 .
(4) المنتهى 4 : 218 .
ــ[192]ــ
بل قال في المبسوط : إنّه لا خلاف فيه . وذهب الشيخ نفسه في الخلاف(1) وكتاب الأطعمة والأشربة من النهاية(2) إلى المنع ، واختاره جمع من القدماء ، ونسبه الشهيد الثاني إلى الأكثر(3) بل عن ابن زهرة دعوى الإجماع عليه(4) . فالمسألة خلافية وذات قولين ، وليس أحدهما أشهر من الآخر .
وكيف ما كان ، فالمتبع هو الدليل بعد وضوح أنّ منشأ الخلاف اختلاف الأخبار ، وقد دلّت غير واحدة من الروايات على الجواز ، وهي على طائفتين :
إحداهما : غير نقية السند ، وهي لأجل ضعفها لا يلتفت إليها حتى بناءً على الانجبار بعمل المشهور ، لمنع الصغرى ، إذ لا شهرة في البين كما عرفت ، مضافاً إلى منع الكبرى .
مع أنّ بعضها غير قابل للتصديق في نفسه ، ففي رواية علي بن أبي حمزة : « . . لا بأس بالسنجاب فانّه دابة لا تأكل اللحم ، وليس هو مما نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ نهى عن كلّ ذي ناب ومخلب»(5) . حيث دلّت على اختصاص المنع بما له ناب ومخلب ـ أي السباع ـ مع وضوح عدم الاختصاص بلا إشكال ، ضرورة أنّ الاعتبار بما لا يؤكل لحمه ، سواء أكان من السباع أم لا ، فلو صح السند لزم الحمل على التقية .
ثانيتهما : نصوص معتبرة .
فمنها : صحيحة أبي علي بن راشد قال «قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : ما تقول في الفراء أيّ شيء يصلّى فيه ؟ قال : أيّ الفراء ؟ قلت : الفنك والسنجاب
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الخلاف 1 : 511 مسألة 256 .
(2) النهاية : 586 ـ 587 [والصحيح في كتاب الصيد والذبائح] .
(3) روض الجنان : 207 السطر 7 .
(4) الغنية : 66 [وفيها : ولا يجوز في جلود ما لا يؤكل لحمه . . . ويدلّ على جميع ذلك الإجماع] .
(5) الوسائل 4 : 348 / أبواب لباس المصلي ب 3 ح 3 .
ــ[193]ــ
والسمور ، قال : فصلّ في الفنك والسنجاب . فامّا السمور فلا تصلّ فيه»(1) .
ولعلّ السؤال في قوله (عليه السلام) : «أيّ الفراء» من أجل أنّ لهذه الكلمة إطلاقين : أحدهما : اللباس المعروف الذي هو شيء كالجبة يبطن من جلود بعض الحيوانات . والثاني : حمار الوحش ، ومنه المثل المعروف : كلّ الصيد في جوف الفراء . فأجاب بأنّ المراد هو الأول المتخذ من السنجاب ونحوه .
ومنها :صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) : «أنّه سأله عن أشياء منها الفراء والسنجاب ، فقال : لا بأس بالصلاة فيه»(2) .
ومنها : صحيحته الاُخرى عنه (عليه السلام) قال : «سألته عن الفراء والسمور والسنجاب والثعالب وأشباهه ، قال : لا بأس بالصلاة فيه»(3) .
وهذه النصوص بالرغم من صحة أسنادها وصراحة مفادها قد نوقش فيها من وجهين :
أحدهما : أنّ السنجاب قد قورن في هذه النصوص باُمور لا تجوز الصلاة فيها قطعاً كالفنك والسمور والثعالب ونحوها ، نعم خلت الصحيحة الاُولى للحلبي عنها ، إذ لم يذكر فيها مع السنجاب إلا الفراء التي هي حمار الوحش ويؤكل لحمه ، ولكن الظاهر أنّها متحدة مع الثانية ، لاتحاد السند والمتن ، غير أنّ الشيخ أجمل مرة وفصّل اُخرى . إذن فلا مناص من حملها على التقية .
ثانيهما : أنّ السنجاب بنفسه مذكور في موثقة ابن بكير الصريحة في عدم الجواز . ومن الواضح امتناع تخصيص المورد بهذه النصوص وإخراجه عن العام الوارد عليه الذي هو نص فيه . فلا جرم تقع المعارضة بينهما ، فلا تصلح للاستناد إليها .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 4 : 349 / أبواب لباس المصلي ب 3 ح 5 .
(2) الوسائل 4 : 347 / أبواب لباس المصلي ب 3 ح 1 .
(3) الوسائل 4 : 350 / أبواب لباس المصلي ب 4 ح 2 .
ــ[194]ــ
ويندفع الأول : بأنّ سقوط الرواية عن الحجية في بعض مدلولها لمانع مختص به لا يلازم سقوطها في البعض الآخر ، فانّ التفكيك في مفاد الدليل غير عزيز في الفقه ، والسرّ أنّ الرواية المشتملة على حكمين تنحلّ في الحقيقة إلى روايتين ، فكأنّ الراوي روى مرة جواز الصلاة في الفنك واُخرى جوازها في السنجاب ، فاذا كان للاُولى معارض أوجب سقوطها عن الحجية لا مقتضي لرفع اليد عن الثانية السليمة عنه ، نظير ما لو أخبرت البينة ـ في الشبهات الموضوعية ـ عن طهارة الثوب والإناء ، وقد علمنا بنجاسة الثوب ، فانّ سقوطها فيه لا يستوجب السقوط عن الحجية في الإناء .
وعليه فتحمل الاُولى في المقام على التقية لوجود المعارض ، والثانية على بيان الحكم الواقعي لسلامتها عنه .
فالعمدة في الإشكال هو الوجه الثاني . وقد أجاب عنه جمع منهم صاحب الجواهر(1) بعدم الضير في تخصيص الموثقة بهذه الصحاح وإن استلزم تخصيص المورد ، اذ لا محذور فيه في القرينة المتصلة بالضرورة كما لو سئل عن إكرام زيد العالم فاُجيب أكرم كلّ عالم إلا زيداً ، أو لو اُجيب في الموثقة هكذا : وكلّ شيء منه إلا السنجاب . فاذا ساغ ذلك في المتصلة ولم يكن محذور فيه ساغ في المنفصلة أيضاً بمناط واحد ، إذ المعيار في التنافي بين الدليلين عدم إمكان الجمع بينهما في لسان واحد ، فاذا أمكن لدى الاتصال وصحّ التخصيص الدافع للمنافاة أمكن لدى الانفصال أيضاً .
والأصل في هذا الجواب هو صاحب الجواهر على ما ذكره المحقق الهمداني(2) (قدس سرهما) .
ولكنك خبير بأنّ هذه العلّة واضحة الدفع ، للفرق البيّن بين القرينتين ، فانّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجواهر 8 : 100 .
(2) مصباح الفقيه (الصلاة): 131 سطر 31.
ــ[195]ــ
المتصلة تمنع عن أصل الظهور وتصادم انعقاده ، فلا ظهور للعام في ابتداء الكلام إلا فيما عدا الخاص . وبذلك ينعدم موضوع المعارضة لتقوّمها بظهورين متصادمين ، وليس في البين إلا ظهور واحد .
أمّا في المنفصلة فقد انعقد الظهور للعام واستقر الكلام ، فاذا لم يكن المخصص المنفصل صالحاً للتخصيص لاستلزامه إخراج المورد كما هو المدعى فلا جرم تتحقق المعارضة بينهما . فلو قيل إنّ زيداً باع جميع كتبه إلا الفقهية ، لم يكن ثمة تعارض بين المستثنى والمستثنى منه . أما لو قيل إن زيداً باع جميع كتبه ولم يبق عنده ولا كتاباً واحداً ، ثم بعد مدّة قيل إنّه لم يبع كتبه الفقهية ، رأى العرف تهافتاً وتناقضاً بين الكلامين . والسرّ ما عرفت من عدم انعقاد الظهور إلا بعد التخصيص في الأوّل ، وانعقاده قبله في الثاني .
وعليه فالصحاح المجوّزة للصلاة في السنجاب تعارض الموثقة المانعة التي هي كالنص في موردها حسب الفرض . فهذا الجواب غير تام .
والصحيح في المقام أن يقال : إنّ تخصيص المورد إنّما يكون ممنوعاً فيما إذا كان بخصوصه منظوراً من العام ومعقوداً عليه الكلام ، فكان المجيب ناظراً إلى مورد السؤال ، كما لو سئل عن إكرام زيد العالم ، فقال : أكرم كلّ عالم ، أو عن إكرام شارب الخمر ، فقال : لا تكرم كلّ فاسق . فانّ إخراج هذا المورد بعد ذلك بمخصص منفصل موجب للتناقض كما اُفيد .
وأمّا إذا لم يكن المجيب ناظراً إلى مورد السؤال وإنّما تعرّض لحكم كلّي ولاسيما إذا كان السؤال عن اُمور عديدة كما في المقام ، حيث إنّ زرارة سأل في موثقة ابن بكير أباعبدالله (عليه السلام) عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من دون أن يكون السائل ناظراً إلى خصوص السنجاب ولا المجيب ، وإنّما ذكره في السؤال من باب المثال ، وقد أعطى الإمام (عليه السلام) ضابطة كلّية بنطاق عام ، فانّ مثل هذا العموم لا يكون نصّاً في المورد المزبور ، بل غايته أنّه ظاهر في الشمول له ظهوراً قابلاً للتخصيص بدليل
ــ[196]ــ
وأمّا السمور (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منفصل ، كما هو الحال في سائر العمومات والإطلاقات ، من دون أي تهافت أو تناقض .
إذن فلا مانع من تخصيص الموثقة بالصحاح المتقدمة وإخراج السنجاب من تحتها والحكم بجواز الصلاة فيه . فما لعلّه المشهور واختاره في المتن من صحة الصلاة فيه هو الصحيح .
(1) وهو على وزن تنّور ، حيوان يشبه السنَّوْر ، أكبر منه ، له جلد ناعم يتخذ للفراء ، وقد اختلف الأصحاب في إلحاقه بالخز والسنجاب في الاستثناء عمّا لا يؤكل لحمه ، فاختار الماتن تبعاً للمشهور عدم الإلحاق فلا تجوز الصلاة فيه ، بل عن المفاتيح دعوى الإجماع عليه(1) . وعن الصدوق في المقنع(2) وغيره الجواز .
ويظهر ذلك من المحقق في المعتبر ، حيث إنه بعد أن استدل له بصحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «سألته عن الفراء والسمّور والسنجاب والثعالب وأشباهه ، قال : لا بأس بالصلاة فيه»(3) وبصحيحة علي ابن يقطين قال : «سألت أباالحسن (عليه السلام) عن لباس الفراء والسمّور والفنك والثعالب وجميع الجلود ، قال : لا بأس بذلك»(4) . قال ما لفظه : وطريق هذين الخبرين أقوى من تلك الطرق ، ولو عمل بهما عامل جاز(5) .
لكنّك خبير بأنّ صحيحة ابن يقطين كغيرها مما ورد بهذا السياق كصحيحة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مفاتيح الشرائع 1 : 109 .
(2) المقنع : 79 .
(3) الوسائل 4 : 350 / أبواب لباس المصلي ب 4 ح 2 .
(4) الوسائل 4 : 352 / أبواب لباس المصلي ب 5 ح 1 .
(5) المعتبر 2 : 86 .
ــ[197]ــ
ابن الصلت(1) ناظرة إلى مجرد اللبس ، وغير متعرضة للصلاة ، فلا يصح الاستدلال بها لهذا الصدد .
نعم ، صحيحة الحلبي صريحة فيه ، ولا يقدح اشتمالها على الثعالب ، لما تقدّم(2) من أنّ رفع اليد عن بعض فقرات الحديث لوجود المعارض لا يمنع عن الأخذ بالبعض الآخر السليم عنه ، فلا مانع من الاستدلال بها .
وتؤيّده رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال : «سألته عن لبس السمّور والسنجاب والفنك ، فقال : لا يلبس ولا يصّلى فيه إلا أن يكون ذكياً»(3) حيث دلّت على جواز الصلاة مع التذكية ، وإن كانت ضعيفة السند من أجل اشتماله على عبدالله بن الحسن .
فلو كنّا نحن وهذه الصحيحة لحكمنا بجواز الصلاة فيه ، ولكنّها معارضة بصحيحتين تضمنتا النهي عن الصلاة فيه ، الذي هو في أمثال المقام إرشاد إلى الفساد .
إحداهما : صحيحة أبي علي بن راشد ، قال «قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : ما تقول في الفراء أي شيء يصلّى فيه ؟ قال : أيّ الفراء ؟ قلت : الفنك والسنجاب والسمّور ، قال : فصلّ في الفنك والسنجاب ، فأمّا السمّور فلا تصلّ فيه»(4) .
ثانيتهما : صحيحة سعد بن سعد الأشعري عن الرضا (عليه السلام) قال : «سألته عن جلود السمّور ، فقال : أيّ شيء هو ذاك الأدبس ؟ فقلت : هو الأسود ، فقال : يصيد ؟ قلت : نعم ، يأخذ الدجاج والحمام ، فقال : لا»(5) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 4 : 352 / أبواب لباس المصلي ب 5 ح 2 .
(2) في ص 194 .
(3) الوسائل 4 : 352 / أبواب لباس المصلي ب 4 ح 6 .
(4) الوسائل 4 : 349 / أبواب لباس المصلي ب 3 ح 5 .
(5) الوسائل 4 : 350 / أبواب لباس المصلي ب 4 ح 1 .
|