الجهة الثالثة : لا يخفى أنّ التخصيص بالمتصل ـ كالاستثناء ونحوه ـ يصادم ظهور العام ، فلا ينعقد الظهور من أول الأمر إلا في غير الخاص وأنّ المراد الاستعمالي هو ذلك . وهذا بخلاف التخصيص بالمنفصل ، فانّه لا يصادم الظهور إذ هو قد انعقد ووقع ، والشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه ، بعد أن لم يكن الكلام محفوفاً بما يصلح للقرينية ، إلا أنّه مصادم لحجيته ، بمعنى أنّه كاشف عن تضييق دائرة المراد الجدي واختصاصه بغير مورد التخصيص . فقوله : لا يجب إكرام العالم الفاسق ، الوارد بعد قوله : أكرم العلماء . يكشف عن تقيّد موضوع الوجوب في العموم بحسب الواقع والإرادة الجدّية بغير الفاسق ، وأنّه معنون بهذا العنوان لا محالة ، لما عرفت في المقدمة الثانية من أنّ موضوع الحكم في مقام الثبوت لا مناص عن كونه مطلقاً أو مقيداً بقيد وجودي أو عدمي ولا يعقل فيه الإهمال ، وبعد ورود التخصيص يقطع بعدم مطابقة المراد الاستعمالي مع المراد الجدي وأنّ العموم غير مراد واقعاً . فلا مناص من تقيّد موضوع الحكم وتعنونه بالعالم الذي لا يكون فاسقاً .
ومن الغريب غفلة بعض الأساطين (قدس سره) عن ذلك وزعمه أنّ حال التخصيص بالمنفصل حال موت بعض الأفراد ، فكما أنّ موت الفرد خروج تكويني له عن تحت العام فيختص الحكم لا محالة بما عداه ، من دون تعنون العام بذلك ولا تقيّده بغيره ، فكذلك التخصيص خروج تشريعي للخاص عن تحت العموم من دون أن يتعنون العام ويتقيد بما عداه ، بل الحكم لا يشمل غير مورد التخصيص قهراً .
وأنت خبير بما في كلامه (قدس سره) من الخلط الواضح بين مقام الجعل ومقام الانطباق والفعلية ، فانّ الحكم في مقام الجعل يتعلق بالموضوع المقدّر
ــ[261]ــ
وجوده على سبيل القضية الحقيقية ، ولا يفرق الحال في ذلك بين كثرة الأفراد خارجاً وقلّتها ، بل حتى وإن لم يتحقق له فرد في الخارج أبداً ، لعدم تعرض الجعل لحال الوجود الخارجي بوجه ، ولذا قيل إنّ القضية الحقيقية مرجعها إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ترتب الحكم ، فمرجع قولنا : المستطيع يحج إلى قولنا : إذا وجد في الخارج مستطيع وجب عليه الحج . من دون نظر في ذلك إلى الوجود فعلاً وعدمه ، وإنّما يؤثر الوجود والعدم أو كثرة الأفراد وقلّتها في مقام الفعلية والانطباق ، فيتحقق الحكم الفعلي بتبع وجود موضوعه الخارجي ويتعدد بتعدده ، فمهما وجد فرد يتعلّق به ـ بمقتضى الانحلالية الملحوظة في مقام الجعل ـ حكم ويكون مراعى بوجود ذلك الفرد حدوثاً وبقاءً ، فيوجد بوجوده وينعدم بانعدامه .
وعليه فموت فرد من مصاديق العام في مثل قولنا : أكرم كلّ عالم ، لا يوجب إلا تقليل أفراده في مقام التطبيق وفعلية الحكم ، فكانوا مثلاً قبل ذلك مائة فصار عددهم بعد ذلك تسعة وتسعين ، من دون أن يؤثر تضيقاً في دائرة الجعل وتصرّفاً في نفس الحكم المجعول ، بل هو قبل الموت وبعده على حدّ سواء .
وهذا بخلاف التخصيص ، فانّه من أجل كونه قرينة على المراد الجدي ناظر إلى مقام الجعل ، وكاشف عن تضيق دائرة الحكم المجعول ، وأنّ موضوعه لم يؤخذ على نحو الإطلاق والسريان ، وإن كان كذلك بحسب الإرادة الاستعمالية لكنّه بحسب الإرادة الجدية مقيّد بعنوان خاص وهو عدم كون العالم فاسقاً فيما إذا ورد التخصيص على العالم المزبور بمثل قوله : لا تكرم العالم الفاسق . فهو كاشف عن تعنون العالم وتقيده بعنوان عدمي ، لما عرفت(1) من عدم الواسطة بين الإطلاق والتقييد في مقام الثبوت ، واستحالة الإهمال في الواقعيات ، فاذا لم يكن الحكم مجعولاً على سبيل الإطلاق والسريان ـ لمنافاته مع التخصيص بالضرورة ـ فلا محالة يكون مقيداً بنقيض عنوان الخاص ، من دون فرق في
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 259 .
ــ[262]ــ
ذلك بين كثرة الأفراد بحسب الوجود الخارجي وفي مقام الفعلية والانطباق وقلّتها .
ولعمري إنّ هذا واضح جداً لا يكاد يخفى . فالخلط بين المقامين وقياس التخصيص بالموت كما صدر منه (قدس سره) غريب جداً .
وأغرب منه استشهاده (قدس سره) لذلك بذهاب جمع من الأعلام إلى التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، بدعوى أنّ التخصيص لو كان موجباً للتضيّق ـ كما هو الحال في التقييد بلا كلام ـ لم يكن مجال للتمسك المزبور ، ولم تصدر هذه الدعوى من أحد ، كما لم يشك أحد في عدم جواز التمسك بالإطلاق في الشبهة المصداقية ، ومن ثمّ لم يعنونوا هذا البحث في ذلك الباب .
إذ فيه : أنّ عدم تعرّض اُولئك الجماعة للتمسك بالإطلاق في الشبهات المصداقية لا يكشف عن عدم تمسكهم به فيها ليكون مغايراً مع العام ، ضرورة أنّ كثيراً من المباحث المذكورة في باب العام والخاص لا يتكلّمون عليها في باب المطلق والمقيد لاستغنائهم عنها فيقتنعون بما باحثوا في ذلك الباب ، لوحدة المناط واتحاد الملاك ، وإليك بعضها :
فمنها : البحث عن حجية العام في الباقي بعد التخصيص بالمنفصل ، حيث أنكرها جماعة ، نظراً إلى أنّ العام يكون حينئذ مجازاً في الباقي ، وحيث إنّ مراتب المجازات مختلفة ولا قرينة على التعيين فلا جرم يسقط عن الحجية . واُجيب عنه بما هو مذكور في محلّه(1) مع أنّهم قداتفقوا ظاهراً على أنّ المطلق بعد ورود التقييد عليه يصبح مجازاً ، بل إنّ هذا قد استقر عليه رأيهم إلى زمان سلطان العلماء ، فكان أحرى بالتعرض ، فكيف أهملوه في هذا الباب .
ومنها : بحث جواز التمسك بالعام في الزائد على المقدار المتيقن من المخصص المنفصل الدائر بين الأقل والأكثر ، فانّ مناطه يجري في باب المطلق أيضاً وقد أهملوه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محاضرات في اُصول الفقه 5 : 164 .
ــ[263]ــ
ومنها : أنّ المرجع بعد التخصيص في زمان والشك في بقاء حكم المخصص هل هو عموم العام أو استصحاب حكم المخصص ؟ فانّهم لم يتعرضوا لذلك في الباب المزبور مع جريانه فيه ، إلى غير ذلك من المباحث الكثيرة ـ ومنها المقام ـ التي استغنوا عن تكرارها اتّكالاً على ما باحثوا حوله في باب العام والخاص لما يرونه من اتحاد المناط .
|