ــ[266]ــ
وأمّا الموضوع المركّب من عدم العرض فقد يؤخذ العدم محمولياً فيجري استصحابه بعد إحراز الذات ، ويلتئم الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل ، وقد يؤخذ نعتياً كالعمى فلا يجري ، لأنّ عدم البصر وإن كانت له حالة سابقة إلا أنّ استصحابه لا يثبت الاتصاف ليحرز العمى إلا إذا كان بعنوانه محرزاً سابقاً فيستصحب . إذن فيفصّل بين ما لو اُخذ العدم نعتاً وبين ما لو اُخذ محمولاً هذا .
ولبعض الأعاظم تفصيل آخر في المقام ، وحاصله بتوضيح منّا : أنّ المركب من العرض ومحلّه على قسمين :
فتارة يكون التركيب في الجمل التقييدية الناقصة كقولنا : الإنسان العالم موجود . حيث قيّدت الماهية بقيد خاص ، وحكم بالوجود على حصة خاصة من الإنسان وهو العالم ، وكما يمكن حمل الوجود على تلك الحصة يمكن حمل العدم ، لقبولها في حدّ ذاتها لكلّ منهما ، فاذا شككنا في وجود تلك الحصة الخاصة كان مقتضى الاستصحاب عدمها ، من غير فرق بين لحاظ العرض محمولياً أو ناعتاً ، إذ لا شبهة في أنّ تلك الحصة كيف ما لوحظت فهي مسبوقة بالعدم ، ويشك في انقلابها إلى الوجود والأصل عدمه .
واُخرى يكون في الجمل التصديقية التامة ، فيفرض الموضوع موجوداً ثم يقيّد بالعرض فيقال مثلاً : الإنسان الموجود عالم . حيث يكون ظرف وجود العرض هو ظرف وجود المعروض ، وبما أنّ العدم بديل للوجود فلابدّ وأن يكون ظرف عدم العرض ومرتبته هو نفس مرتبة وجوده ، ففي قولنا : زيد الموجود أبيض . لمّا كان وجود البياض في مرتبة وجود زيد ، فلا جرم كان عدم البياض في تلك المرتبة أيضاً ، لاختصاص التقابل بين الوجود والعدم باتحاد المرتبة . وعليه فلا يجري استصحاب عدم البياض الثابت قبل وجود زيد ، ضرورة أنّ ذلك العدم عدم مستقل لا عدم بديل لهذا الوجود .
أضف إلى ذلك أنّ الذي يتصف بالوجود أو العدم إنّما هي الماهية المعرّاة عن
ــ[267]ــ
الوجود ، وأمّا المقيّدة به فهي عينه . فكما لا يصح أن يقال إنّ الوجود معدوم فكذلك الماهية المقيدّة به ، فانّها أيضاً غير قابلة للاتصاف بالعدم ، من غير فرق بين أخذ العرض ناعتياً أو محمولياً .
هذا محصّل كلامه (قدس سره) مع نوع من التوضيح ، لعدم خلوّ عبارته عن شوب من الإجمال .
أقول : أمّا ما أفاده في الجمل التقييدية الناقصة من جريان ا ستصحاب العدم لدى الشك في وجود العرض ـ كالإنسان الأبيض ـ لنفي الآثار المترتبة عليه فهو تام ، ولكنّه خارج عن محلّ الكلام ، بداهة أنّ انتفاء آثار الوجود باستصحاب العدم من أوضح الواضحات ، سواء اُخذ العرض نعتاً أم محمولاً . وإنّما الكلام في أنّ الأثر لو كان مترتباً على العدم فهل يثبت بذلك الاستصحاب أم لا . فلو استصحبنا عدم القرشية فهل يثبت الأثر المترتب على هذا العدم وهو أنّها تحيض إلى خمسين أو لا . وما ذكره لا يصلح لإثباته ، بل المتّجه حينئذ هو ما عرفت من التفصيل بين أخذ [عدم] العرض محمولياً فيجري الاستصحاب وبين أخذه نعتاً فلا ، لأن استصحاب العدم لا يصلح لإثبات اتصاف الموضوع به .
وأمّا ما ذكره (قدس سره) في الجمل التصديقية التامة من أنّ نقيض الوجود في مرتبة هو العدم في تلك المرتبة فغير قابل للتصديق ، وإلا لارتفع النقيضان في غير تلك المرتبة ، فالقيام يوم الجمعة لو كان نقيضه عدم القيام المقيّد بيوم الجمعة لزمه ارتفاع النقيضين يوم الخميس ، وهو كما ترى .
بل الصواب أنّ نقيض الوجود الخاص هو عدم الخاص لا العدم الخاص . ومن ثمّ ذكروا أنّ نقيض الخاص أعم من نقيض العام ، فنقيض قيام زيد يوم الجمعة عدم ذلك القيام ولو لعدم يوم الجمعة لا خصوص العدم يوم الجمعة حتى يلزم ارتفاع النقيضين قبل تحقق يوم الجمعة .
وبالجملة : لا يتصف العدم بتلك الخصوصية ، فانّ وجود النسبة وإن تقوّم
ــ[268]ــ
بالطرفين لكن عدمها يتحقق ولو لعدمهما . إذن فلا يكون نقيض الوجود هو العدم في تلك المرتبة ، بل مطلقاً حتى السابق عليها . ولعمري إنّ هذا من الوضوح بمكان ، ولا حاجة معه إلى إقامة البرهان .
وأمّا ما ذكره من أنّ الماهية المقيّدة بالوجود غير قابلة للاتصاف بالعدم ، وإنّما المتصف به هو الماهية المعرّاة من كل من الوجود والعدم ، ففيه من الخلط ما لا يخفى .
فانّه (قدس سره) إن أراد من الاتصاف اللحوق والعروض صحّ ما ذكره ، إذ من المعلوم أنّ الوجود لا يعرضه الوجود ، والشيء لا يلحق نفسه ، كما لا يلحقه العدم ، لأنّه نقيضه ، والنقيض لا يلحق نقيضه ، فالماهية المقيّدة بالوجود لا يعرضها الوجود ولا العدم ، بل الماهية بنفسها تتصف بالوجود ، بمعنى عروضه عليها وكون الخارج ظرفاً لوجودها .
وإن أراد من الاتصاف ما ينتج الحمل وإن تجرّد عن العروض فلا يتم ما ذكره ، بداهة أنّ حمل الوجود على الوجود أوّلي ، وعلى الماهية تبعي ، فهو متصف بالموجودية اتصافاً ذاتياً ، كما في صفاته تعالى ، بمعنى تحقق نفسه في الأعيان وكون الخارج ظرفاً له . إذن فعدمه بعدم نفس الذات ، لا بعروض العدم له مع المحافظة على ذاته ليلزم اجتماع النقيضين .
وبالجملة : كما يتصف وجود زيد بالموجودية يتصف بالمعدومية أيضاً ، وإلا لكان كلّ وجود قديماً ، بل واجباً لذاته ، وهو كما ترى .
ومنه يظهر حال الماهيّة المقيّدة بالوجود ، فانّها أيضاً تتصف بكلّ من الوجود والعدم بالمعنى الذي عرفت . ولعلّ الخلط بين نحوي الاتصاف أوجب الوقوع في الاشتباه .
فتحصّل : أنّ ما أفاده (قدس سره) لا يرجع إلى محصّل ، بل الصحيح ما عرفت من التفصيل بين أخذ [عدم] العرض محمولاً أو ناعتاً ، فيجري الاستصحاب على الأول دون الثاني .
إذا عرفت هذه المقدمات يتضح لك جلياً جريان الاستصحاب في الأعدام
ــ[269]ــ
الأزلية ، فانّ موضوع الحكم أو متعلّقه إذا كان مركّباً من جزأين متباينين ـ بأن لم يكونا من العرض ومحلّه ـ وقد اُحرز أحدهما وشك في الآخر بعد أن كان محرزاً سابقاً جرى استصحابه ، والتأم الجزءان بضم الأصل إلى الوجدان ، وهذا واضح .
|