الجهة الثالثة : أنّه يستثنى من حرمة اللبس مضافاً إلى حال الحرب ـ كما مرّ ـ حال الضرورة من برد أو مرض أو خوف ونحوها .
واستدلّ له في الوسائل تارة بحديث الرفع بالنسبة إلى الاضطرار ، وهو وجيه . واُخرى بقولهم (عليهم السلام) : «ليس شيء ممّا حرّم الله إلا وقد أحلّه لمن اضطرّ إليه» المذكور في باب اليمين ، وهو ايضاً متين . وثالثة بقولهم (عليهم السلام) : «كلّ ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر»(1) ، وقد تبعه في هذا الاستدلال غيره .
لكنّه في غير محلّه ، لخروجه عن محلّ الكلام ، إذ المراد بالاضطرار المبحوث عنه في المقام ما لم يبلغ حدّاً يسلب معه الاختيار ويخرج الفعل عن القدرة ، وإلا فلا حاجة إلى الاستدلال حتّى بمثل حديث الرفع ، لاستقلال العقل حينئذ بقبح خطاب العاجز ، وامتناع التكليف بما لا يطاق .
فمحلّ الكلام ما إذا كان لبس الحرير مع كونه مقدوراً ومتعلّقاً للاختيار فعلاً وتركاً مضطراً إليه لضرورة دعته إليه ، من برد أو مرض ونحوهما في قبال الإكراه . ولا ريب أنّ الرواية ناظرة إلى الفرض السابق ، أعني الخروج عن القدرة والاختيار ، وأنّ الشيء مغلوب لإرادة الله تعالى ، وقدرة العبد مقهورة لقدرته ، كما في صاحب السلس الخارج منه البول بلا إرادة منه ، الذي هو مورد
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 4 : 373 / أبواب لباس المصلي ب 12 ح 6 ، 7 ، 8 .
ــ[342]ــ
الرواية . فالرواية أجنبية عن محلّ البحث ، والعمدة في الاستدلال هما الوجهان الأوّلان .
الجهة الرابعة : قد عرفت الاستثناء في حالتي الحرب والضرورة ، فهل هذا استثناء عن خصوص الحرمة النفسية فتبطل الصلاة في الحرير حالتهما أو عنها وعن الوضعية فتصح ؟
أمّا في حال الضرورة فربما يستدلّ للجواز بما يستفاد من الأخبار من أنّ الصلاة لا تسقط بحال .
وهذا ينبغي أن يعدّ من الغرائب ، إذ ليس الكلام في العذر المستوعب لتمام الوقت ،وإلا فمع الاستيعاب لا ريب في الصحة قطعاً ، وأنّ المانعية ساقطة حينئذ بالضرورة كما هو الحال في سائر الموانع ، بل الأجزاء والشرائط المتعذّرة في مجموع الوقت ، الذي لا يشك في وجوب الاقتصار على الباقي وعدم سقوط الصلاة رأساً .
وإنّما الذي وقع فيه الكلام في المقام بين الأعلام نفياً وإثباتاً هو العذر غير المستوعب وغير المؤدّي لسقوط الصلاة ، للتمكّن من الإتيان بها في غير الحرير في الجزء الآخر من الوقت . فالاستدلال المزبور في غير محلّه جزماً .
وكيف كان ، فقد ذهب جمع منهم المحقق الهمداني (قدس سره) إلى الجواز مستدلاً عليه بقصور المقتضي ، لانصراف دليل المانعية إلى ما كان اللبس حراماً في نفسه . فحال الترخيص وجواز اللبس غير مشمول لدليل المنع(1) .
والجواب : أنّ كلاً من المانعية والحرمة قد ثبتت بدليل يختصّ بها ، ولم يثبتا بدليل واحد كي يدّعى الانصراف المزبور ، ولا ريب في عدم الملازمة بين المانعية والحرمة كما في لبس ما لا يؤكل والنجس والميتة ، حيث إنّها تمنع عن صحة الصلاة مع جواز لبسها تكليفاً بلا إشكال ، إلا في الميتة على القول بحرمة الانتفاع بها مطلقاً ، الذي هو خلاف التحقيق .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الفقيه (الصلاة) : 137 السطر 31 ، 22 .
ــ[343]ــ
فالإنصاف : أنّه لا مقيّد للإطلاق بالنسبة إلى دليل المانعية ، وغاية ما ثبت بدليل الاضطرار جواز اللبس في هذه الحال تكليفاً ، فيقيّد به الإطلاق في دليل الحرمة . وأمّا الإطلاق في دليل المنع فهو سليم عن التقييد ، فيتمسك به ومقتضاه بطلان الصلاة الواقعة في الحرير عند الضرورة وإن جاز اللبس حينئذ .
وأمّا في حال الحرب فقد يستدلّ لصحة الصلاة حينئذ بالانصراف الذي عرفت تقريره مع جوابه .
واستدلّ لها في الجواهر(1) بما حاصله : أنّ الجواز حال الحرب قد ثبت بالنصّ الخاص ، دون الأدلّة العامّة كما في الضرورة من حديث الرفع ونحوه كما عرفت . ومقتضى إطلاق النصّ شمول الجواز لحالتي الصلاة وغيرها ، فيعمّ الجواز التكليفي والوضعي .
والنسبة بينه وبين دليل المانعية كقوله في صحيح ابن عبدالجبار المتقدّم(2) : «لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض» وإن كانت هي العموم من وجه ، لافتراق الأوّل في المحارب غير المصلّي ، وافتراق الثاني في المصلّي غير المحارب ، ويتعارضان في مادّة الاجتماع وهي الصلاة في الحرير حال الحرب ، لكن الترجيح مع الأوّل ، لفهم الأصحاب ومناسبة التخفيف الذي هو الحكمة في الرخصة .
وفيه : أنّ نصّ الجواز حال الحرب خاص بالحكم التكليفي ، ولا نظر فيه إلى الجواز الوضعي بوجه ، فهو وإن كان باطلاقه شاملاً لحالتي الصلاة وغيرها لكن النظر فيه مقصور على الحلّية التكليفية قبال الحرمة النفسية ، وأنّ لبس الحرير لا يكون حراماً على المحارب في الحالتين . وأمّا الجواز الوضعي وأنّه لا يكون مانعاً عن صحة الصلاة فلا نظر في النصّ إليه بوجه حتى يعارض به
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجواهر 8 : 119 .
(2) في ص 327 .
ــ[344]ــ
وإن كان الأحوط أن يجعل ساتره من غير الحرير (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إطلاق دليل المانعية . فالمتبع هو هذا الإطلاق السليم عن المعارض ، ولأجله يحكم بالبطلان .
نعم ، لو وصلت النوبة إلى المعارضة ، بأن كان النصّ في المقام شاملاً لكلا الجوازين اتجه الحكم بالصحة حينئذ ، من دون حاجة إلى ترجيح دليل الجواز على المنع بما أفاده (قدس سره) من الوجهين ، بل مجرّد عدم الترجيح في دليل المنع كاف في الحكم بالجواز ، لتساقط الدليلين حينئذ بعد التعارض ، فيرجع إلى أصالة البراءة عن تقيد الصلاة في هذه الحالة ـ أعني حال الحرب ـ بعدم وقوعها في الحرير ، إذ لا دليل على المانعية حينئذ بعد سقوطه بالمعارضة كما هو ظاهر .
(1) لم نعرف وجهاً لتخصيص الاحتياط بالساتر ، إذ لو بنينا على جواز الصلاة في الحرير حال الحرب ، لاستفادة الجواز التكليفي والوضعي من النصّ الوارد في المحارب كان مقتضاه عدم الفرق بين الساتر وغيره ، لإطلاق النص .
وإن بنينا على عدم الجواز ، لاختصاص النصّ المزبور بالحكم التكليفي فكان المرجع إطلاق دليل المنع ـ كما هو الصحيح على ما عرفت ـ كان مقتضاه أيضاً عدم الفرق بين الساتر وغيره .
نعم ، لو ذكر الاحتياط على سبيل الإطلاق كان له وجه وجيه كما لا يخفى ، وأمّا تخصيصه بالساتر فوجهه غير ظاهر .
ولا يبعد أن يكون نظره (قدس سره) إلى ما في الجواهر(1) من أنّ غاية ما ثبت بدليل الجواز رفع الحكم التكليفي والوضعي ، فيرتكب التقييد في إطلاق دليلي الحرمة والمانعية ، ولا يقتضي ذلك ارتكاب التقييد فيما دلّ على اشتراط الساتر بعدم كونه من الحرير ، فيتمسّك باطلاقه الشامل للمقام .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجواهر 8 : 117 .
|