الجهة الرابعة : في الكاشف عن الرضا وما يتحقق به الاذن الذي هو طريق إليه وهي اُمور ثلاثة كما تعرض لها في المتن :
أحدها : الأذن الصريح ، ولا ريب في كشفه نوعاً عن الرضا وحجيته ببناء العقلاء كما هو الشأن في كل لفظ ظاهر في معناه ، ومعه لا يعتبر العلم بالرضا ، بل ولا الظن الشخصي به ، بل ولا يقدح الظن بالخلاف ، وإنما القادح العلم به لاستقرار بناء العقلاء الذي هو المدار في حجية الظهور على الأخذ به في جميع تلك الفروض ما عدا الأخير كما قرّر في الاُصول(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الاصول 2 : 117 .
ــ[51]ــ
وما اُفيد في المتن من كفاية الظن الحاصل بالقول ، إن أراد به اعتبار الظن الشخصي فهو في حيّز المنع كما عرفت ، وإن أراد به الظن النوعي والكاشفية بحسب النوع المجامع حتى مع الظن الشخصي بالخلاف كما هو ظاهر العبارة بقرينة التعليل المذكور في الذيل فنعم الوفاق .
الثاني : الفحوى ، وقد مثّل لها في المتن بالاذن في التصرف بالقيام والقعود والنوم والأكل من ماله الدال على الاذن في الصلاة بطريق أولى .
أقول : الفحوى عبارة عن استتباع دلالة اللفظ على معنى دلالته على معنى آخر بالأولوية بحيث يكون المعنى الآخر مستفاداً من حاق اللفظ بطريق أولى من دون ضم قرينة خارجية ، وهذا كما في قوله تعالى : (فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفّ)(1) فان هذا الكلام وما يرادفه من سائر اللغات لو اُلقي على كل عارف باللغة يستفيد منه أنّ هذا أقل مراتب الايذاء ، وأنّ النهي عنه يدل بنفسه على النهي عن سائر مراتب الايذاء من الشتم والضرب ونحوهما بطريق أولى .
وهذا الضابط كما ترى غير منطبق على المثال ، ضرورة أنّ الاذن في القيام والقعود بما هو إذن لا يستتبع الاذن في الصلاة ولا يستلزمه فضلاً عن أن يكون ذلك بالأولوية ، فان الآذن قد يكون كافراً أو بدوياً لا يرضى بالصلاة في محله لتشؤمه وتطيره بها كما يُحكى عن بعضهم ، فمجرد الاذن في سائر التصرفات لا يدل على الاذن في الصلاة إلا بعد ضم قرينة خارجية كالعلم بكون الآذن مسلماً خيّراً لا يعتقد بتلك الأوهام ، فيخرج عن كون الدلالة مستندة إلى حاق اللفظ كما هو المناط في صدق الفحوى على ما عرفت .
والأولى التمثيل بما إذا أذن المالك في إتلاف العين حقيقة ، كاراقة الماء أو إحراق الفرش أو هدم الدار ، أو حكماً كبيعها مع كون الثمن للمأذون ، فان الاذن في الاتلاف الحقيقي أو الحكمي بحيث يكون اختيار العين بيد المأذون يدل
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإسراء 17 : 23 .
ــ[52]ــ
بنفسه على الاذن بما دونه من سائر التصرفات من الوضوء أو الصلاة بطريق أولى .
وكيف كان ، فالمدار في هذا القسم على استفادة الاذن عرفاً من ظاهر اللفظ وهي تتحقق في موارد :
منها : الفحوى كما عرفت .
ومنها : الملازمة العقلية بين المأذون فيه وبين شيء آخر بحيث لا يكاد يتخلف عنه لتوقفه عليه ، كما لو أذن في التوضي من حوض داره مثلاً ، فانه إذن في المشي داخل الدار إلى أن يصل إلى الحوض ، لتوقفه عليه عقلاً ، فهو من اللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، ولا يعتبر في مثله الالتفات التفصيلي إلى الملازمة فضلاً عن إذن آخر باللازم ، لكفاية الالتفات الارتكازي بعد ثبوت الملازمة العقلية الدائمية .
نعم ، لو كانت الملازمة اتفاقية كما لو أذن في التوضي من الحب وكان واقعاً خارج الدار فاتفق نقله إلى الداخل ، حيث إن التوضي من الحب فعلاً وإن توقف على الدخول إلا أنه توقف اتفاقي لم يكن كذلك حال الأمر كما في المثال الأول ، ففي مثله لا يكفي الاذن السابق ، بل لابد من التفات المالك إلى الملازمة تفصيلاً وإذن جديد باللازم كما لا يخفى .
ونظيره : ما لو أذن لشخص بشراء متاع له فاتفق عدم وجوده في البلد ، فتوقف الشراء على السفر إلى بلد آخر ، فانّ الاذن الأول لا يكون إذناً في السفر كي يكون الآمر ضامناً لمصارفه ، بل يحتاج إلى الالتفات إلى الملازمة وإصدار إذن جديد .
ومنها : الملازمات العادية التي تعدّ عرفاً من شؤون المأذون فيه ولوازمه ، وإن لم تكن كذلك عقلاً بحيث يستفيد العرف من الاذن به الاذن بها ، كما لو أذن المالك بالسكنى في داره ، فان العرف يستفيد من هذا الاذن الاذن في التخلي والمنام والأكل ونحوها من اللوازم العادية ، وإن كانت السكونة بما هي لا
ــ[53]ــ
تتوقف على شيء من ذلك عقلاً ، لامكان إيقاعها خارج الدار ، فنفس كون الشيء من اللوازم العادية كاف في استكشاف الرضا ، فيكون بمثابة الملازمة العقلية الدائمية في كفاية الالتفات الاجمالي الارتكازي إلى التلازم وعدم الافتقار إلى الالتفات التفصيلى ، فضلاً عن الحاجة إلى إصدار إذن آخر باللازم .
وأما الصلاة في الدار فليست هي بنفسها من شؤون نفس السكنى ولوازمها العادية بحيث يكون الاذن بها مستفاداً من الاذن بها عرفاً كما في التخلي والمنام ، بل يحتاج إلى القطع بالرضا من شاهد حال ونحوه من قرينة حالية أو مقالية كما عرفت ، بخلاف سائر التصرفات المستفادة من نفس الاذن الأول ، فانها لا تتوقف على القطع بل ولا الظن الشخصي كما لا يخفى .
فتحصل : أنّ التمثيل الذي ذكره في المتن ليس من مصاديق هذا القسم بشقوقه التي بيناها .
الثالث : شاهد الحال ، بأن تكون هناك قرائن وشواهد تدل على رضا المالك وطيب نفسه .
وتفصيل الكلام في المقام : أنه ربما يصدر عن المالك فعل يبرز عن رضاه الباطني بتصرف خاص بحيث يكون طريقاً مجعولاً وأمارة نوعية وحكاية عملية ، وهذا كفتح الحمامي باب الحمام ، فانه بمثابة الاذن العام لكل من يريد الاستحمام ، ولا شك حينئذ في صحة الاعتماد على ذاك المبرز من دون حاجة إلى تحصيل العلم بالرضا ، لاستقرار بناء العقلاء بمقتضى التعهد الوضعي على كشف ما في الضمير بمطلق المبرز فعلاً كان أم لفظاً ، ومن هنا قلنا بصحة المعاطاة لعدم الفرق في إبراز الانشاء بين الفعل والقول .
وبالجملة : فمثل هذا الفعل ملحق بالاذن اللفظي الصريح في الكشف عما في الضمير ، أعني الرضا بالتصرف الذي اُعدّ اللفظ أو الفعل كاشفاً عنه نوعاً .
وأما التصرف الآخر الخارج عن نطاق هذه الكاشفية كارادة الصلاة في الحمام زائداً على الاستحمام ، فان عدّ ذلك من اللوازم العادية بحيث يستفيد
ــ[54]ــ
العرف الاذن فيه من نفس الاذن الأول ، لما يرى أنه من شؤونه وتوابعه كما هو كذلك في المثال فهو ملحق بالقسم السابق ، أعني استكشاف الاذن بمعونة الفهم العرفي من باب الملازمة العادية ، فلا يعتبر معه العلم بالرضا أيضاً ، كما عرفت سابقا ، ولعل فتح المضائف من هذا القبيل .
وإن لم يكن كذلك كما في فتح مجالس التعازي حيث لم يظهر منه إلا الاذن في الحضور لاستماع التعزية ، وليست الصلاة من لوازمه العادية ، فان كانت هناك قرائن وشواهد توجب العلم برضا المالك فلا إشكال ، لعدم اعتبار الاذن إلا من حيث كونه طريقاً لاستكشاف الرضا ، والمفروض احرازه ولو من طريق آخر .
|