المقام الثاني : في الاقامة ، وقد ذهب ابن أبي عقيل ـ كما مرّ(1) ـ وجمع إلى وجوبها حتى على النساء ، وخصّه الشيخان(2) والسيد(3) وابن الجنيد(4) بالرجال ، ومال إليه الوحيد البهبهاني(5) واختاره صاحب الحدائق(6) واحتاط فيه السيد الماتن (قدس سره) وقد عرفت أنّ المشهور هو عدم الوجوب ، هذا .
ولا يخفى أنّ القول بالوجوب بالنسبة إلى النساء ساقط جزماً ، للتصريح بنفيه عنهنّ في غير واحد من النصوص بحيث لو سلّم الاطلاق في بقية الأخبار وجب تقييده بها ، كصحيحة جميل بن دراج قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة أعليها أذان وإقامة ؟ فقال : لا»(7) وغيرها من الأخبار الكثيرة وإن كانت أسانيدها مخدوشة . ولا ندري كيف أفتى ابن أبي عقيل بوجوبها عليهن مع وجود هذه الأخبار ، ولعله لم يعثر عليها . وكيف كان فما ينبغي أن يكون محلا للكلام إنما هو الوجوب بالاضافة إلى الرجال .
وقد استدل القائل بالوجوب بعدّة أخبار ادعى ظهورها فيه مع سلامتها عن المعارض ، فهنا دعويان : إحداهما : وجود المقتضي ، والاُخرى : عدم المانع ، ويتوقف الوجوب على إثبات كلتيهما .
أمّا الدعوى الاُولى : فقد استدل لها ـ كما عرفت ـ بطوائف من الأخبار .
منها : الروايات الواردة في النساء المتقدمة آنفاً المتضمّنة أنّه لا أذان ولا إقامة عليهن من صحيحة جميل وغيرها ، بتقريب أنّ المنفي إنما هو اللزوم دون
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 226 .
(2) المفيد في المقنعة : 99 .
(3) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى 3) : 29 .
(4) حكاه عنه في المختلف 2: 135.
(5) في حاشيته على المدارك : 174 .
(6) الحدائق 7 : 357 .
(7) الوسائل 5 : 406/ أبواب الأذان والاقامة ب 14 ح 3 .
ــ[233]ــ
المشروعية ، لثبوتها فيهن بالضرورة ، ومن البيّن أنّ نفي اللزوم عنهنّ يدل بالمفهوم على ثبوته بالاضافة إلى الرجال .
وفيه : أنّا وإن بنينا على ثبوت المفهوم للوصف(1) في الجملة ، لكنه مذكور في الصحيحة في كلام السائل دون الامام (عليه السلام) فلا عبرة به ، وفي غيرها وإن ذكر في كلام الامام (عليه السلام) إلا أنّها بأجمعها ضعيفة السند كما عرفت فلا تصلح للاستدلال . مضافاً إلى أنّ اقتران الاقامة بالأذان وبالجماعة في جملة من هذه النصوص مع وضوح استحبابهما على الرجال يكشف ـ بمقتضى اتحاد السياق ـ عن أنّ المنفي عن النساء هي المرتبة الراقية من الاستحباب دون اللزوم ، وأنّها هي الثابتة بمقتضى المفهوم للرجال ، فكأنّ لهذه الاُمور مرتبتين تضمّنت هذه النصوص نفي المرتبة القوية عن النساء .
كما قد يشهد لذلك بالاضافة إلى الأذان صحيحة ابن سنان قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) : عن المرأة تؤذّن للصلاة ، فقال : حسن إن فعلت ، وإن لم تفعل أجزأها أن تكبّر وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله»(2) .
حيث يظهر من ذكر البدل وهو التكبير والشهادتان عدم تأكد الاستحباب بالاضافة إليها ، ولذا كانت مخيّرة بين الأمرين وكان المطلوب منها مطلق الذكر بأحد النحوين .
ومنها : النصوص المتقدمة(3) ـ وعمدتها صحيحة عبدالله بن سنان ـ المتضمّنة لإجزاء الاقامة عن الأذان إذا صلى وحده ، فانّ التعبير بالإجزاء الكاشف عن أنّه أدنى ما يقتصر عليه ، دال على الوجوب .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المفهوم الثابت للوصف مختص بالمعتمد على الموصوف ، دون غير المعتمد كما في المقام ، فانّه ملحق باللقب كما نبّه (دام ظله) عليه في الاُصول [في محاضرات في اُصول الفقه 5 : 127] .
(2) الوسائل 5 : 405/ أبواب الأذان والاقامة ب 14 ح 1 .
(3) في ص 227 .
ــ[234]ــ
وفيه : ما تقدم(1) من جواز أن يراد به الإجزاء عن الأمر الاستحبابي المتعلق بهما ـ أي بالأذان والاقامة ـ فيما إذا صلى وحده ، وأنّ هذا المقدار يجزئ في مقام أداء الوظيفة الاستحبابية ارفاقاً وتسهيلا .
وبالجملة : لا دلالة فيها إلا على مجرد الإجزاء عن تلك الوظيفة ، وأمّا أنّها وجوبية أو استحبابية فلا تدل عليه بوجه .
ومنها : قوله (عليه السلام) في موثقة عمّار الواردة في المريض «لا صلاة إلا بأذان وإقامة»(2) دلت على وجوب الأمرين معاً خرجنا في الاذان بالنصوص الخاصة فتبقى الاقامة على وجوبها .
ويندفع : بأنّا وإن ذكرنا في محلّه أنّه إذا تعلّق أمر بشيئين قد ثبت الترخيص في ترك أحدهما من الخارج يؤخذ بالوجوب في الآخر ، نظراً إلى أنّ الوجوب والاستحباب مستفادان من حكم العقل ومنتزعان من الأمر المقرون بالترخيص في الترك أو بعدمه ، فلا مانع من التفكيك بعد أن ثبت الترخيص في أحدهما دون الآخر(3) ، إلا أنّ هذه الكبرى غير منطبقة على المقام ، لأنّ الوجوب لم يكن مستفاداً من الأمر بالفعل أو بعدم الترك ، وإنما استفيد ـ على تقدير تسليمه - من أداة النفي المقرونة بالاستثناء في قوله (عليه السلام) : «لا صلاة إلا بأذان واقامة» .
وعليه فإمّا أن تكون الأداة لنفي الحقيقة أو لنفي الكمال أو بالتفصيل بأن تكون في الاذان لنفي الكمال ، وفي الاقامة لنفي الحقيقة بعد وضوح عدم احتمال العكس .
أما الأخير فلا سبيل إليه ، إما لعدم جواز استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى ، وإما لأنّه على تقدير جوازه فلا شبهة في أنّه خلاف المتفاهم العرفي .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 228 .
(2) الوسائل 5 : 444/ أبواب الأذان والاقامة ب 35 ح 2 .
(3) محاضرات في اصول الفقه 2 : 138 .
ــ[235]ــ
وأما الأول فهو أيضاً باطل ، لمنافاته مع النصوص الناطقة بجواز ترك الأذان والكاشفة عن عدم الدخل في الحقيقة كما تقدم(1) . فلا جرم يتعيّن الاحتمال الثاني الذي مرجعه إلى أنّ الصلاة من دون الأذان أو من دون الاقامة فاقدة لصفة الكمال ، وكأنّها لأجل قلّة ثوابها تستوجب نفي الحقيقة عنها بقولنا «لا صلاة» ولو على سبيل الادّعاء والتنزيل .
إذن فالموثقة لأن يستدل بها على استحباب الاقامة أولى من أن يستدل بها على الوجوب .
ومنها : النصوص الدالة على اعتبار الطهارة والقيام وعدم التكلم في صحة الاقامة كصحيح الحلبي : « . . . ولا يقيم إلا وهو على وضوء»(2) ، وصحيح محمد ابن مسلم : « . . . ولا يقيم إلا وهو قائم»(3) .
فانها لو كانت مستحبة لما أضرّ بها تخلّف شيء من ذلك ، كما لا يضرّ تخلفها في الأذان ، إذ لا معنى للزوم رعاية قيد في عمل يجوز تركه من أصله . فالاعتبار المزبور كاشف عن اللزوم .
وفيه : مع أنّ اعتبار عدم التكلم غير واضح ، لمعارضة النصوص في ذلك وستعرف أنّ الأظهر الجواز لا سيّما إذا تكلم بما يعود إلى الصلاة كتقديم إمام للجماعة ونحو ذلك ، أنّ اشتراط شيء في صحة عمل لا يكشف عن وجوب ذلك العمل بوجه ، للفرق الواضح بين الوجوب الشرطي والوجوب النفسي . ألا ترى اشتراط النوافل بجملة من شرائط الفرائض كالطهارة والاباحة والستر والاستقبال ما لم يكن ماشياً ، مع جواز ترك النافلة من أصلها .
ومنها : النصوص الدالة على أنّ الاقامة من الصلاة ، فانّ التنزيل كاشف عن الوجوب ، كقول الصادق (عليه السلام) في رواية أبي هارون المكفوف : «يا أبا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 229 .
(2) الوسائل 5 : 391/ أبواب الأذان والإقامة ب 9 ح 2 .
(3) الوسائل 5 : 402/ أبواب الأذان والإقامة ب 13 ح 5 .
ــ[236]ــ
هارون الاقامة من الصلاة ، فاذا أقمت فلا تتكلّم ولا توم بيدك»(1) ، وقوله (عليه السلام) في رواية يونس الشيباني : « . . . إذا أقمت الصلاة فأقم مترسلا فانّك في الصلاة . . .» الخ(2) .
وفيه : مضافاً إلى ضعف تلك النصوص بأسرها ، أنّها قاصرة الدلالة ، إذ [لا] يخلو إمّا أن يراد بها أنّها من الصلاة حقيقة أو تنزيلا .
لا سبيل إلى الأوّل بالضرورة ، لمنافاته مع النصوص المستفيضة الصريحة في أنّ أولها التكبيرة وآخرها التسليم ، ومن ثم لا يبطلها منافيات الصلاة من الاستدبار ونحوه ، فيتعّين الثاني ، ومن البيّن أنّ التنزيل ناظر إلى خصوص الاُمور المذكورة في تلك النصوص كعدم التكلم والايماء باليد المذكورين في رواية أبي هارون ، فيراد أنّ الداخل في الاقامة بمثابة الداخل في الصلاة في أنّه لا ينبغي التكلم ولا الايماء باليد ، فالتنزيل ناظر إلى هذا المقدار لا إلى جميع الآثار ليدل على الوجوب .
ومنها : النصوص الواردة في ناسي الأذان والاقامة حتى دخل الصلاة الآمرة بقطعها لتداركهما ، كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «إذا افتتحت الصلاة فنسيت أن تؤذّن وتقيم ثم ذكرت قبل أن تركع فانصرف وأذّن وأقم واستفتح الصلاة، وإن كنت قد ركعت فأتمّ على صلاتك»(3).
وتقريب الاستدلال بها من وجهين :
أحدهما : أنّ قطع الفريضة محرّم في نفسه ، فلو كانت الاقامة مستحبة كيف ساغ ارتكاب الحرام لادراك ما لا يلزم دركه ، فتجويز القطع خير دليل على الوجوب ، بل كونه أهمّ من حرمة القطع .
ثانيهما : أنّ الصحيحة ظاهرة في وجوب القطع ومقتضى استحباب الاقامة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 5 : 396/ أبواب الأذان والإقامة ب 10 ح 12 .
(2) الوسائل 5 : 403/ أبواب الأذان والإقامة ب 13 ح 9 .
(3) الوسائل 5 : 434/ أبواب الأذان والإقامة ب 29 ح 3 .
ــ[237]ــ
جواز تركها اختياراً ، فكيف يجب قطع الفريضة لدرك ما لا يجب الاتيان به من الأوّل ، فوجوب القطع كاشف قطعي عن وجوب الاقامة .
وفي كلا الوجهين ما لا يخفى .
أمّا الأوّل : فلابتنائه على أن يكون المقام من باب التزاحم وليس كذلك ، وإنّما هو من باب التعارض ، وتخصيص دليل حرمة القطع بغير الناسي ، ولابدع ، إذ الحرمة لم تكن عقلية لتأبى عن التخصيص ، وإنّما هي شرعية وليس هو فيها بعزيز ، وقد ثبت جواز القطع في موارد عديدة كحفظ المال ونحوه . هذا على المشهور من حرمة القطع ، وإلا فالأمر ظاهر .
وأمّا الثاني : فلتوقفه على الالتزام بوجوب القطع ، ولا وجه له ، لمعارضة الصحيحة المتقدمة في موردها بصحيحة زرارة قال : «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل نسي الأذان والاقامة حتى دخل في الصلاة ، قال : فليمض في صلاته فانّما الأذان سنّة»(1) فغايته جواز القطع لدرك فضيلة الاقامة ، وهو لا يكشف عن الوجوب بوجه كما هو واضح .
والمتحصّل من جميع ما قدمناه لحد الآن : أنّ النصوص المتقدمة بمختلف طوائفها لا يمكن الاستدلال بشيء منها على وجوب الاقامة .
نعم يمكن أن يستدل له بوجهين آخرين :
أحدهما : ما ورد في صلاتي المغرب والغداة كموثقة سماعة قال : «قال أبو عبد الله (عليه السلام) : لا تصلّ الغداة والمغرب إلا بأذان وإقامة ، ورخّص في سائر الصلوات بالاقامة ، والأذان أفضل»(2) . وكذا ما ورد في مطلق الصلوات كموثقة عمار الساباطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال : إذا قمت إلى صلاة فريضة فأذّن وأقم وافصل بين الأذان والاقامة بقعود أو بكلام أو بتسبيح»(3)
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 5 : 434/ أبواب الأذان والإقامة ب 29 ح 1 .
(2) الوسائل 5 : 387/ أبواب الأذان والإقامة ب 6 ح 5 .
(3) الوسائل 5 : 397/ أبواب الأذان والإقامة ب 11 ح 4 .
ــ[238]ــ
فانّ ظاهرهما وجوب الاذان والاقامة معاً ، إما مطلقاً أو في خصوص صلاتي المغرب والغداة ، بل ظاهر الثانية وجوب الفصل أيضاً ، وقد خرجنا في الأذان وفي الفصل بما دل على جواز الترك ، فيحمل الأمر فيهما على الاستحباب وتبقى الاقامة على ظاهر الوجوب ، ولا مانع من التفكيك ولا يضر بوحدة السياق ، بناءً على المختار من استفادة الوجوب والندب من حكم العقل المنتزع من الاقتران بالترخيص في الترك وعدمه ، وقد اقترن أحدهما به دون الآخر فيعمل في كل مورد بموجبه .
ثانيهما : صحيحة زرارة الواردة في القضاء عن أبي جعفر(عليه السلام) في حديث «قال : إذا كان عليك قضاء صلوات فابدأ بأوّلهنّ فأذّن لها وأقم ثم صلّها ، ثم صلّ ما بعدها باقامة إقامة لكل صلاة»(1). فانه إذا وجبت الاقامة لصلاة القضاء كما هو ظاهر الصحيحة ففي الأداء بطريق أولى .
ولم أر من استدل بها في المقام مع أنّها أولى من كل دليل وأحسن من جميع الوجوه المتقدمة ، فانّ ظهورها في الوجوب ممّا لا مساغ لانكاره بوجه ، فليتأمل .
وعليه فما ذكره غير واحد من قصور المقتضي وعدم نهوض دليل لاثبات الوجوب موهون بما سمعته من الوجهين لا سيما الأخير منهما ، فالمقتضي تام والدعوى الاُولى ثابتة . فلابد إذن من النظر في : ــــــــــــــــ
(1) الوسائل 5 : 446/ أبواب الأذان والإقامة ب 37 ح 1 .
|