ــ[9]ــ
أحدها : وهو أعلاها (1) أن يقصد امتثال أمر الله ، لأ نّه تعالى أهل للعبادة والطاعة ، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنـين (عليه السلام) بقوله : إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك .
الثاني : أن يقصد شكر نعمه التي لا تحصى .
الثالث : أن يقصد به تحصيل رضاه والفرار من سخطه .
الرابع : أن يقصد به حصول القرب إليه (2) .
الخامس : أن يقصد به الثواب ورفع العقاب ، بأن يكون الداعي إلى امتثال أمره رجاء ثوابه وتخليصه من النار .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وأسماها ، ولا ينالها إلاّ الأوحدي ، لخلوّها عن أيّة جهة ترجع إلى العبد .
ومجمل القول حول هذه الدرجات : أنّ العبادة بما أ نّها عمل اختياري صادر من عاقل مخـتار ، وكل ما كان كذلك لا بدّ فيه من وجـود غاية باعثـة على ارتكاب العمل ، فهذه الغاية في المقام إما أ نّها ملحوظة في جانب العامل العابد ، أو في ناحية المعبود .
والثاني إما أ نّه لحاظ كماله الذاتي وأهليته للعبادة ، وهو أرقى المراتب ، أو من أجل حبّه الناشئ من نعمه وإحسانه . والأوّل إمّا أ نّه تحصيل رضاه ، أو التقرّب منه ، أو طمع في ثوابه ، أو خشية من عقابه .
(2) من الواضح جداً أنّ المراد بالقرب ليس هو القرب المكاني الحقيقي ، بل ولا الادعائي التنزيلي ، لوضوح أنّ القرب بين شيئين يتضمن التضايف بحيث أنّ أحدهما إذا كان قريباً كان الآخر أيضاً كذلك واقعاً أو تنزيلاً .
ومن البيِّن أ نّه سبحانه قريب من جميع البشر ، بل هو أقرب إلينا من حبل
ــ[10]ــ
وأمّا إذا كان قصده ذلك على وجه المعاوضة من دون أن يكون برجاء إثابته تعالى فيشكل صحته(1)، وما ورد من صلاة الاستسقاء وصلاة الحاجة إنّما يصح إذا كان على الوجه الأوّل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوريد ، وكل شيء حاضر عنده حضوراً ذاتياً ، بيد أنّ البعض منّا بعيد عنه لكونه غريقاً في الذنوب والخطايا المستوجب لعدم توجهه والتفاته إليه ، فهو قريب من عباده تنزيلاً ، وهم بعيدون عنه .
بل المراد من القرب الذي يتوخّاه العبد في عبادته هو طلب الحضور بين يدي الرب والشهود عنده بحيث كأ نّه يراه ويشاهده شهوداً قلبياً لا بصرياً . ويستفاد من كثير من الأدعية والروايات أنّ الغاية القصوى من العبادات هو لقاء الله تعالى ، والوصول إلى هذه المرتبة التي هي أرقى المراتب التي يمكن أن يصل إليها الانسان ، وربما يتفق الوصول إليها بعد التدريب ومجاهدة النفس والتضلّع في العبادة المستتبعة ـ بعد إزالة الملكات الخبيثة ـ لصفاء القلب وقابليته لمشاهدة الرب والسير إليه ، فيروم العابد بعبادته النيل إلى هذه المرتبة التي هي المراد من التقرب منه تعالى .
(1) بل لا ينبغي التأمل في البطلان ، ضرورة أنّ الثواب أو دفع العقاب لا يترتّبان على ذات العمل لكي تصح المعاوضة والمبادلة بينهما ، بل على العمل المتصف بالعبادية والصادر بقصد الامتثال والطاعة ، فلو صلى ليدخل الجنة بطلت ، إذ ليس لذات العمل هذا الأثر ، بل المأتي به مضافاً إلى المولى . ومجرد قصد دخول الجنة لا يحقِّق الاضافة كما هو واضح ، وإنما يتجه لو كان على سبيل الداعي على الداعي .
وهكذا ما ورد في صلاة الاستسقاء أو الحاجة أو صلاة الليل ، من الخواص والآثار من طلب الرزق ونحوه ، فانّها لا تترتب على ذات الصلاة ، بل المأتي بها
ــ[11]ــ
[ 1414 ] مسألة 1 : يجب تعيين العمل إذا كان ما عليه فعلاً متعدِّداً ولكن يكفي التعيين الاجمـالي كأن ينوي ما وجب عليه أوّلاً من الصلاتين مثلاً ، أو ينوي ما اشتغلت ذمّته به أوّلاً أو ثانياً ، ولا يجب مع الاتحاد(1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصفة العبادة ، فلا يصح قصدها إلاّ على النحو الذي عرفت .
وبالجملة : الغايات المتقدمة من الثواب أو دفع العقاب أو شكر النعمة كلها غايات للامتثال ومن قبيل الداعي على الداعي ، لا يكاد يترتّب شيء منها إلاّ بعد اتصاف العمل بالعبادية ، والاتيان به بهذا العـنوان ، فبدونه ولو كان بنيّـة صالحة كالتعليم فضلاً عن الرياء لا أثر له بوجه ، فلو صلى أحد لا لكماله الذاتي ، ولا لحبّه الناشئ من نعمه ، ولا بداعي التقرب وإدراكه لذة الاُنس ، بل لأمر آخر دنيوي أو اُخروي ، لم يترتب عليه أيّ أثر ، بل لا بدّ وأن تكون ثمّة واسطة بين العمل وبين تلك الغاية، وهي الاضافة إلى المولى على سبيل العبودية حسبما عرفت .
(1) قد يكون الثابت في الذمة تكليفاً واحداً ، وقد يكون متعدداً .
فالأوّل : كما في صيام شهر رمضان حيث لا يصلح هذا الزمان لغير هذا النوع من الصيام ، فيكفي فيه الاتيان بذات العمل مع قصد الأمر ، فلو نوى في المثال صوم الغد متقرّباً كفى ولا حاجة إلى التعيين ، بعد أن كان متعيناً في نفسه وغير صالح للاشتراك مع غيره ليفتقر إلى التمييز والتشخيص ، وهذا ظاهر .
وأمّا الثاني : كما في صلاتي الظهر والعصر ، فبما أنّ إحداهما تغاير الاُخرى ثبوتاً ـ وإن اشتركتا في جميع الخصوصيات إثباتاً ـ كما يكشف عن هذه المغايرة قـوله (عليه السلام) : « ... إلاّ أنّ هذه قبل هذه ... » (1) إلخ الدال على اعتبار
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 4 : 126 / أبواب المواقيت ب 4 ح 5 .
ــ[12]ــ
الترتيب ، وإلاّ لم يكن مجال للاستثناء ، لوضوح أنّ كل من يأتي بثمان ركعات فبطبيعة الحال تكون الأربع الاُولى قبل الأربع الثانية ، كما أنّ الركعة الاُولى قبل الثانية ، وهي قبل الثالثة وهكذا ، فلو لم يكن تغاير وتباين ذاتي بينهما لم يكن وقع لهذا الكلام .
وأيضاً يكشف عنها: النصوص الواردة في العدول من اللاحقة إلى السابقة(1) كما لا يخفى .
فلا جرم لزم المتصدي للامتثال مراعاة عنوان العمل وقصد تعيينه مقدّمة لتحقيقه وامتثال أمره ، فلو نوى ذات الأربع ركعات ولو متقرّباً من غير قصد عنوان الظهر ولا العصر بطل ولم يقع امتثالاً لشيء منهما .
وبعبارة اُخرى : إنّما يكتفى بقصد الأمر فيما إذا كان متعلقه ذات العمل ، وأمّا إذا كان متعلقه العنوان كالظهرية لم يكن بدّ من قصده ، وإلاّ لم يكن المأتي به مصداقاً للمأمور به .
ومن هذا القبيل فريضة الفجر ونافلته ، حيث استكشفنا من اختلاف الآثار الّتي منها عدم جواز الاتيان بالنافلة لدى ضيق الوقت ، أنّ لكل منهما عنواناً خاصّاً ، فلو أتى بذات الركعتين من غير قصد شيء من العنوانين بطل ولم يقع مصداقاً لشيء منهما .
ومن هذا القبيل أيضاً الأداء والقضاء ، حيث استفدنا من النصوص(2) الدالة على لزوم تقديم الحاضرة على الفائتة ، أو أفضليته ـ حسب الاختلاف في المسألة ـ أنّ لكل منهما عنواناً به يمتاز عن الآخر ، فلا مناص إذن من قصده ، وبدونه لم يقع امتثالاً لشيء منهما .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع الوسائل 4 : 290 / أبواب المواقيت ب 63 .
(2) الوسائل 4 : 274 / أبواب المواقيت ب 57 .
|