استدل من أنكر اعتبار بلوغ المادّة كراً في نفسها أو بضميمتها إلى ماء الحياض بعموم المنزلة المستفادة من الصحيحة المتقدمة ، لأنها دلت على أن ماء الحمام كالجاري من جميع الجهات والكيفيات . ولا تعتبر الكثرة في اعتصام المادّة بوجه كما أسلفناه سابقاً ، بل قد تكون رشحية كما في بعض الآبار ولا يكون فيها فوران أصلاً ، لأنها رطوبات أرضية تجتمع وتكون ماء .
ــ[230]ــ
والجواب عن ذلك أن الصحيحة المتقدمة أو رواية بكر على تقدير اعتبارها غير ناظرتين إلى تنزيل ماء الحمام منزلة الجاري من جميع الجهات ، بل نظرهما إلى دفع ما ربما يقع في ذهن السائل من عدم اعتصام ماء الحياض باتصالها بمادتها ، لما ارتكز عندهم من عدم تقوى السافل بالعالي لتعددهما وتغايرهما عرفاً ، ومعه لا يبقى وجه لاعتصام ماء الحياض وتوضيح ذلك: أ نّا قدّمنا(1) في بعض المباحث المتقدمة أن العالي لا ينفعل بانفعال الماء السافل ، لأن العالي والسافل وإن كانا متحدين عقلاً لاتصالهما وهو مساوق للوحدة بالنظر الدقي العقلي ، حيث إن المتصل جسم واحد عقلاً إلاّ أن الأحكام الشرعية غير منوطة بالنظر الدقي الفلسفي ، بل المتبع فيها هو الأنظار العرفية ، والعرف يرى العالي غير السافل وهما ماءان متعددان عنده ، ومن هنا لا يحكم بنجاسة العالي فيما إذا لاقى السافل نجساً حتى في المضاف كماء الورد إذا صبّ من إبريق على يد الكافر مثلاً ، فانّه لا يحكم بنجاسة ما في الإبريق لأجل اتصاله بالسافل المتنجس بملاقاة يد الكافر ، وأدلّة انفعال القليل منصرفة عن مثله لعدم ملاقاة العالي للنجاسة عرفاً ، وبالجملة أنهما ماءان فكما لا تسرى قذارة السافل إلى العالي منهما كذلك نظافة العالي لا تسري إلى السافل لتعددهما بالارتكاز .
وعلى هذا كان للسائل أن يتوهّم عدم طهارة المياه الموجودة في الحياض الصغار بمجرد اتصالها بموادها الجعلية التي هي أعلى سطحاً من الحياض فانهما ماءان ، ولا سيما عند جريان الماء من الأعلى إلى الأسفل ، ولعلّ هذا هو المنشأ لسؤالهم عن حكم ماء الحياض . وقد تصدى (عليه السلام) لدفع هذه الشبهة المرتكزة بأن ماء الحياض متصل بالمادّة الجعلية كاتصال المياه الجارية بموادها الأصلية ، فماء الحمام بمثابة الجاري من حيث اتصاله بالمادّة المعتصمة فيتقوّى ما في الحياض بالآخر بالتعبد . ولولا هذه الأخبار لحكمنا بانفعال ماء الحياض الصغار ، فانّه لا خصوصية للماء الموجود في الحياض من سائر المياه ، وبلوغ مادتها كراً لا يقتضي اعتصام ماء الحياض لتعددهما كما عرفت .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 38 .
ــ[231]ــ
وعلى الجملة الأخبار الواردة في اعتصام ماء الحمام ناظرة بأجمعها إلى دفع الشبهة المتقدمة ، وليست بصدد تنزيله منزلة الجاري من جميع الجهات وبيان أن لماء الحمام خصوصية تمنع عن انفعاله بالملاقاة بلغت مادته كراً أم لم تبلغه .
|