هذا كلّه فيما إذا كان المأموم متعدّداً ، وأمّا المأموم الواحد فانّه يجب أن يقف
ــ[168]ــ
عن يمين الإمام وبحذائه كما نطقت به الصحيحة المتقدّمة(1) وغيرها . ونتيجة ذلك هو التفصيل بين الواحد والكثير كما اختاره في الحدائق(2) .
نعم ، يستثنى من ذلك موارد :
منها : المأموم الواحد الذي يكون معرضاً لالتحاق غيره به .
واستدلّ له تارة : برواية محمد بن الفضيل عن أبي الصباح الكناني قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يقوم في الصفّ وحده ، فقال : لابأس ، إنّما يبدو واحد بعد واحد»(3) . ولكنّها ضعيفة السند ، لأنّ محمّد بن الفضيل مردّد بين ابن غزوان الثقة وبين الأزدي الضعيف ، وكلاهما في طبقة واحدة ، ومن المعاريف ، ولكلّ كتاب . فلا يترجّح أحدهما على الآخر .
نعم ، ذكر الأردبيلي في جامع الرواة أنّ محمّد بن فضيل الأزدي هو محمّد بن القاسم بن فضيل الأزدي(4) الذي يروي عن الكناني كثيراً ، وهو ثقة ، وكثيراً ما ينسب الرجل إلى جدّه . وعليه فيكون الرجل موثّقاً على كلّ حال ، سواء أكان هو ابن غزوان أم الأزدي .
ولكن ما ذكره (قدس سره) مجرّد احتمال لا دليل عليه ، بل إنّ انتساب الرجل إلى جدّه خلاف الظاهر ، لا يصار إليه ما لم يثبت بدليل قاطع .
وبالجملة : فكلّ من الأمرين محتمل ، ولا قرينة على التعيين ، فدعوى الاتّحاد بلا برهان ، فيبقى الترديد المزبور على حاله ، ولأجله يحكم بضعف الرواية .
واُخرى : برواية موسى بن بكر «أنّه سأل أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن الرجل يقوم في الصفّ وحده ، قال : لا بأس ، إنّما يبدو الصف واحد
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 164 .
(2) الحدائق 11 : 92 ، 116 .
(3) الوسائل 8 : 406 / أبواب صلاة الجماعة ب 57 ح 2 .
(4) جامع الرواة 2 : 183 .
ــ[169]ــ
بعد واحد»(1) . وهي أيضاً ضعيفة ، لضعف طريق الصدوق(2) إلى موسى بن بكر(3) .
لكن الذي يهوّن الخطب أن الحكم مطابق للقاعدة من غير حاجة إلى ورود النصّ ، لأنّ مادلّ على أن المأموم الواحد يقف على جانب الإمام منصرف عن المقام قطعاً بعد أن كان معرضاً للانضمام وكان الالتحاق تدريجياً بطبيعة الحال . فاطلاق قوله (عليه السلام) : صلّ خلف من تثق بدينه(4) هو المحكّم .
ومنها : ما إذا لم يجد مكاناً في الصفّ فدار الأمر بين أن يقف في صفّ مستقلا أو على جانب الإمام ، فقد دلّ النصّ على أنّه يقف بحذاء الإمام ، وهو صحيح سعيد الأعرج : «عن الرجل يأتي الصلاة فلا يجد في الصفّ مقاماً ، أيقوم وحده حتّى يفرغ من صلاته ؟ قال : نعم لا بأس ، يقوم بحذاء الإمام»(5) .
ومنها : إمامة النساء ، بناءً على جواز إمامتهنّ كما تقدّم(6) ، فانّها تقف في وسطهنّ كما دلّت عليه النصوص .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 8 : 406 / أبواب صلاة الجماعة ب 57 ح 4 .
(2) [لعدم ذكره في مشيخة الفقيه] .
(3) ولكن يمكن تصحيحه على ضوء بعض فوائده الرجالية (دام ظله) في أمثال المقام بأن يقال : إنّ طريق الشيخ إلى موسى بن بكر صحيح [كما في الفهرست : 162 / 705] وحيث إنّ في الطريق ابن الوليد ، وللشيخ الصدوق طريق صحيح إلى جميع كتبه ورواياته كما يظهر من طريق الشيخ إليه [في الفهرست : 156 / 694] فلا جرم يكون طريق الصدوق إلى موسى بن بكر صحيحاً أيضاً .
فالأولى المناقشة في دلالتها بأنّها مطلقة من حيث الصفّ الأول وبقيّة الصفوف ، فلو كان لدليل أنّ المأموم الواحد يقف على جانب الإمام إطلاق يشمل فرض كونه في معرض الانضمام فلا محالة تقع المعارضة بينهما بالعموم من وجه ، ولكنّه لا إطلاق له كما اُفيد في المتن .
(4) راجع ص 50 ، الهامش رقم (3) .
(5) الوسائل 8 : 406 / أبواب صلاة الجماعة ب 57 ح 3 .
(6) [تقدّم جواز إمامتها في صلاة الميت في شرح العروة 9 : 210 ، وسيأتي جوازها في الفرائض في ص 350 وما بعدها] .
ــ[170]ــ
ومنها : صلاة العراة جماعة ، فانّ الإمام لا يتقدّم حينئذ إلاّ بركبتيه للنصوص الدالّة عليه(1) الكاشفة عن جواز المساواة بينهم .
وربما يستثنى أيضاً إقامة جماعة اُخرى في المسجد بعد فراغ الجماعة الاُولى وقبل أن يتفرّقوا ، استناداً إلى رواية أبي علي ، قال : «كنّا عند أبي عبدالله (عليه السلام) فأتاه رجل فقال : جعلت فداك ، صلّيت في المسجد الفجر فانصرف بعضنا وجلس بعض في التسبيح ، فدخل علينا رجل المسجد فأذّن فمنعناه ودفعناه عن ذلك ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : أحسنت ، ادفعه عن ذلك ، امنعه أشدّ المنع ، فقلت : فان دخلوا فأرادوا أن يصلّوا فيه جماعة ؟ قال : يقومون في ناحية المسجد ، ولا يبدو لهم إمام . . .» الخ(2) .
دلّ صدرها على أنّ سقوط الأذان عزيمة لا رخصة كما تقدّم في محلّه(3) . ومحلّ الاستشهاد هو قوله (عليه السلام) في الذيل : «و لا يبدو لهم إمام» أي لا يبرز ولا يتقدّم .
لكن الرواية ضعيفة السند ، فانّ أبا علي الحرّاني لم يوثّق . على أنّ الصدوق رواها مع تبديل لفظة «يبدو» بلفظة «يبدر» بذكر الراء بدل الواو(4) ، أي لايسرع الإمام بل يمكث قليلا كي تتفرّق الجماعة الاُولى ، وعليه فتكون أجنبية عمّا نحن فيه . وكيف ما كان ، فلم يثبت هذا الاستثناء ، وليقتصر فيه على الموارد التي ذكرناها .
والمتحصّل من جميع ما قدّمناه : أنّ ما قوّاه في الحدائق وأصرّ عليه من أنّه لا مخرج عمّا تقتضيه ظواهر النصوص من لزوم وقوف المأموم الواحد بحذاء الإمام ، والزائد عليه خلفه ، هو الصحيح الحقيق بالقبول فيما عدا موارد
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 4 : 450 / أبواب لباس المصلي ب 51 ح 1 .
(2) الوسائل 8 : 415 / أبواب صلاة الجماعة ب 65 ح 2 .
(3) شرح العروة 13 : 300 .
(4) لاحظ الفقيه 1 : 266 / 1215 .
ــ[171]ــ
الاستثناء التي أشرنا إليها .
وأمّا ما عن المشهور ـ وستأتي الإشارة إليه في المتن ـ من عدّ ذلك من المستحبّات ، وأنّه يستحبّ وقوف المأموم الواحد بجانب الإمام والزائد خلفه فلم يظهر لنا وجهه قبال هاتيك النصوص المتقدّمة الظاهرة في الوجوب عدا الشهرة الفتوائية . وفي التعويل عليها في رفع اليد عن تلك النصوص تأمّل ظاهر . فما ذكرناه لو لم يكن أقوى فلا ريب أنّه أحوط .
|