ــ[197]ــ
فصل
في أحكام الجماعة
[1923] مسألة 1 : الأحوط ترك المأموم القراءة في الركعتين الاُوليين من الإخفاتية إذا كان فيهما مع الإمام ، وإن كان الأقوى الجواز مع الكراهة((1)) (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) اختلف الأصحاب في جواز القراءة خلف الإمام في الركعتين الاُوليين من الإخفاتية بعد الاتّفاق منهم على سقوط وجوبها وضمان الإمام ، فذهب جماعة كثيرون إلى الحرمة ، واختار جمع آخرون الجواز على كراهة .
وليعلم أنّ محلّ الكلام الإتيان بالقراءة بقصد الجزئيّة على حدّ إتيانها في بقيّة الصلوات ، وأمّا الإتيان لا بعنوان القراءة الصلاتية بل بقصد القرآن والذكر لمكان اشتمالها على التحميد والدعاء والذكر والثناء فلا ينبغي الإشكال في جوازه ، لانصراف نحو قوله (عليه السلام) : «يكله إلى الإمام» الوارد في النصوص(2) عن مثل ذلك ، بل هو ناظر إلى القراءة الصلاتية كما هو ظاهر .
وكيف ما كان ، فمنشأ الخلاف اختلاف الروايات الواردة في المقام ، فمقتضى جملة منها المنع ، وهي على طوائف :
منها : ما تضمّن المنع عن القراءة خلف الإمام مطلقاً كصحيحة زرارة ومحمّد
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فيه إشكال بل منع . ومحلّ الكلام هو الإتيان بها بقصد الجزئيّة .
(2) [كما في صحيحة سليمان بن خالد الآتية في ص 200] .
ــ[198]ــ
ابن مسلم ، قالا «قال أبو جعفر (عليه السلام) : كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) يقول : من قرأ خلف إمام يأتمّ به فمات بعث على غير الفطرة»(1) .
دلّت على بطلان الصلاة وأنّ وجودها كالعدم ، فلو اكتفى بها ولم يتداركها بعث على غير الفطرة ، لكونه في حكم تارك الصلاة فيما لو اقتصر عليها . كما يكشف عمّا ذكرناه من التقييد بالاقتصار قوله (عليه السلام) : «فمات» ، إذ لايحتمل أن تكون القراءة خلفه بمجرّدها من المحرّمات الذاتية . فالحرمة تشريعية محضة ، وهي مساوقة للبطلان .
وكيف ما كان ، فقد دلّت بالإطلاق على المنع عن القراءة خلف الإمام خرجنا عن ذلك في الأوّلتين من الجهرية إذا لم يسمع قراءة الإمام ولا همهمته بمقتضى النصوص الدالّة على الجواز(2) فتبقى الإخفاتية تحت إطلاق المنع .
ونحوها صحيحة يونس بن يعقوب قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الصلاة خلف من أرتضي به أقرأ خلفه ؟ قال : من رضيت به فلا تقرأ خلفه»(3) .
ومنها : ما تضمّن المنع إلاّ في الجهرية ـ بنحو القرينة المتّصلة دون المنفصلة كما في السابقة ـ كصحيحة الحلبي : «إذا صلّيت خلف إمام تأتمّ به فلا تقرأ خلفه ، سمعت قراءته أم لم تسمع ، إلاّ أن تكون صلاة تجهر فيها بالقراءة ولم تسمع فاقرأ»(4) . وهذه أظهر من الطائفة السابقة في المنع ، لمكان اتّصال القرينة الموجب لاختصاص الظهور بالإخفاتية كالحجّية .
ومنها : ما تضمّن المنع في خصوص محلّ الكلام صريحاً ـ أعني الأوّلتين من الإخفاتية ـ كصحيحة عبدالرحمن بن الحجاج : «عن الصلاة خلف الإمام أقرأ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 8 : 356 / أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 4 .
(2) الآتية في ص 205 وما بعدها .
(3) الوسائل 8 : 359 / أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 14 .
(4) الوسائل 8 : 355 / أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 1 .
ــ[199]ــ
خلفه ؟ فقال : أمّا الصلاة التي لا تجهر فيها بالقراءة فانّ ذلك جعل إليه ، فلا تقرأ خلفه»(1) . دلّت على اختصاص الجعل بالإمام ، فلم تكن القراءة مجعولة على المأموم ، فالإتيان بها بعنوان الجزئية كما هو محلّ الكلام تشريع محرّم .
وربما يستدلّ أيضاً بما رواه الشيخ باسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان عن ابن سنان يعني عبدالله الحسن باسناده عن أبي عبدالله (عليه السلام) : «إذا كنت خلف الإمام في صلاة لا يجهر فيها بالقراءة حتّى يفرغ وكان الرجل مأموناً على القرآن فلا تقرأ خلفه في الأوّلتين»(2) .
وقد عبّر عنها في الحدائق(3) وغيره بالصحيحة . لكن السند بهذا النحو المذكور في الوسائل ـ الطبعة الجديدة ـ غير خال عن الخدش ، فانّ عبدالله الحسن لا وجود له في كتب الرجال ، بل الموجود إمّا عبدالله بن سنان بن طريف الثقة ، أو محمد بن الحسن بن سنان الضعيف ، الذي هو محمد بن سنان المعروف ، ينسب إلى جدّه ، حيث توفي أبوه الحسن وهو طفل ، وكفله جدّه سنان فنسب إليه . فابن سنان بعنوان عبدالله الحسن لا واقع له . على أنّ إسناده إلى أبي عبدالله (عليه السلام) غير معلوم فيلحق بالمرسل ، هذا .
ولكن السند المزبور خطأ ، والنسخة مغلوطة . والصواب كما في الطبعة القديمة من الوسائل هكذا : يعني عبدالله ، بدون زيادة كلمة (الحسن) ولا كلمة (باسناده) ، فتصبح الرواية صحيحة السند ، لكونها عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) . وقد أوردها في التهذيب وكذا في موضع آخر من الوسائل(4) هكذا : عن صفوان عن ابن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) .
وقد دلّت هذه الروايات بطوائفها الثلاث على المنع عموماً أو خصوصاً كما
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 8 : 356 / أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 5 .
(2) الوسائل 8 : 357 / أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 9 ، التهذيب 3 : 35 / 124 .
(3) الحدائق 11 : 129 .
(4) الوسائل 6 : 126 / أبواب القراءة في الصلاة ب 51 ح 12 .
ــ[200]ــ
عرفت ، ومع ذلك فقد ذهب جمع منهم الماتن إلى الجواز مع الكراهة ، نظراً إلى معارضتها بروايات اُخرى دلّت على الجواز ، الموجبة لحمل النهي في الروايات المتقدّمة على الكراهة جمعاً ، وهي روايات ثلاث :
الاُولى : صحيحة سليمان بن خالد ـ التي قيل بظهورها في نفسها في الكراهة ـ قال «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : أيقرأ الرجل في الاُولى والعصر خلف الإمام وهو لا يعلم أنّه يقرأ ؟ فقال : لا ينبغي له أن يقرأ ، يكله إلى الإمام»(1) .
فانّ موردها الإخفاتية ، بقرينة ذكر الاُولى والعصر وكذا قوله : «وهو لا يعلم» ، إذ ليس المراد عدم العلم بأصل قراءة الإمام ، كيف وهو لا يجامع الوثوق بدينه المعتبر في صحّة الائتمام ، مع منافاته لقوله (عليه السلام) : «يكله إلى الإمام» ، لظهوره في المفروغية عن قراءته ولذا أوكله إليه ، وإلاّ فلا معنى للإيكال مع الشكّ في الامتثال كما هو ظاهر . فالقراءة مفروضة لا محالة ولو من أجل الحمل على الصحّة .
بل المراد عدم العلم الفعلي من طريق السماع لأجل كون الصلاة إخفاتية فانّ البعيد عن الإمام حينئذ بمقدار مترين مثلا لا يسمع قراءته غالباً ، فقوله : «لا يعلم» بمعنى لا يسمع .
وكيف ما كان ، فقد حكم (عليه السلام) بأنّه لا ينبغي له أن يقرأ ، وهذا التعبير ظاهر في الجواز مع الكراهة .
أقول : مبنى الاستدلال على ظهور كلمة «لا ينبغي» في الكراهة ، وهو في حيّز المنع ، فانّ لفظ «ينبغي» وإن كان ظاهراً في الرجحان والاستحباب لكن كلمة «لا ينبغي» غير ظاهرة في الكراهة ، فانّها وإن كانت كذلك في الاصطلاح الحادث بين المتأخّرين لكنّها في لسان الأخبار ظاهرة فيما هي عليه من المعنى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 8 : 357 / أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 8 .
ــ[201]ــ
اللغوي ، أي لا يتيسّر ولا يجوز ، المساوق للمنع وعدم الإمكان ، ومنه قوله تعالى : (لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ)(1) أي يمتنع ولا يتيسّر لها ذلك .
وعليه فالصحيحة ظاهرة في التحريم ، وملحقة بالروايات السابقة الدالّة على المنع ، لا أنّها معارضة لها .
ومع التنزّل فلا أقلّ من عدم ظهورها في الكراهة ، بل في الجامع بينها وبين الحرمة ، وحيث لا قرينة في المقام على التعيين فيحكم عليها بالإجمال ، فتسقط عن الاستدلال .
الثانية : رواية البصري عن جعفر بن محمد (عليه السلام) : «أنّه سأل عن القراءة خلف الإمام ، فقال : إذا كنت خلف الإمام تولاّه وتثق به فانّه يجزيك قراءته ، وإن أحببت أن تقرأ فاقرأ فيما يخافت فيه . . .» إلخ(2) .
وفيه : أنّها ضعيفة السند جدّاً ، لاشتماله على جمع من الضعفاء والمجاهيل وإن تمّت دلالتها . فهي ساقطة ، ولا تصل النوبة إلى الجمع الدلالي كي يحمل النهي في تلك الأخبار الصحيحة على الكراهة .
ودعوى الانجبار بعمل المشهور ممنوعة صغرى وكبرى كما مرّ مراراً . مضافاً إلى عدم تحقّق الشهرة في المقام بنحو يكون القول الآخر شاذاً ، فانّ القائلين بالحرمة أيضاً كثيرون ، والمسألة ذات قولين ، وليست شهرة في البين كي يدّعى الانجبار بها .
الثالثة : ـ وهي العمدة ـ صحيحة [الحسن بن] علي يقطين عن أخيه عن أبيه ـ في حديث ـ قال: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الركعتين اللّتين يصمت فيهما الإمام أيقرأ فيهما بالحمد وهو إمام
يقتدى به ؟ فقال : إن قرأت
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يس 36 : 40 .
(2) الوسائل 8 : 359 / أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 15 .
ــ[202]ــ
فلابأس ، وإن سكتّ فلا بأس»(1) . وفي بعض النسخ : «إن قرأ فلا بأس ، وإن سكت فلا بأس» .
وتقريب الاستدلال يتوقّف على مقدّمات :
الاُولى : أنّ المراد بالصمت ليس هو السكوت ، إذ ليس في الصلوات ركعة يسكت فيها الإمام . وحمله على السكوت عن القراءة كما عن الوافي(2) بعيد جدّاً كما لا يخفى ، بل المراد هو الإخفات ، فانّه أقرب المجازات بعد تعذّر الحقيقة . فقوله : «يصمت» بمثابة قوله : يخفت ، لما بينهما من المشاكلة والمشابهة .
الثانية : أنّ المراد من الركعتين هما الاُوليان من الإخفاتية دون الأخيرتين فانّ الجهر والإخفات إنّما يطلقان بلحاظ القراءة التي موطنها الركعتان الاُوليان غالباً .
الثالثة : أنّ الصحيحة ناظرة إلى السؤال عن وظيفة المأموم ، وأنّه هل يقرأ الحمد خلف إمام يقتدى به في الركعتين الأوّلتين من الإخفاتية ، فأجاب (عليه السلام) بالتخيير ، وأنّه إن قرأ فلا بأس وإن سكت فلا بأس ، أو إن قرأت فلا بأس وإن سكت فلا بأس . فينتج بعد ضمّ المقدّمات جواز القراءة في الأوّلتين من الإخفاتية .
أقول : أمّا المقدّمة الاُولى فحقّ لا مساغ لإنكارها كما عرفت .
وأمّا الثانية فغير واضحة ، بل لعلّ الصحيحة ظاهرة في الأخيرتين ، إذ لو اُريد الاُوليان ـ والمفروض أنّ الصلاة إخفاتية ـ لم يكن وجه لتخصيص الخفت بهما ، لكون ركعاتها حينئذ إخفاتية بأجمعها ، فلا يحسن التعبير بالركعتين اللتين يصمت فيهما .
بل كان الأولى أن يعبّر هكذا : عن الركعتين من الصلاة التي يصمت فيها . وإنّما يحسن تخصيص الخفت بالركعتين وإسناده إليهما فيما لو اُريد بهما
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 8 : 358 / أبواب صلاة الجماعة ب 31 ح 13 .
(2) الوافي 8 : 1204 ذيل ح 8055 .
|