إنّما الكلام في إمامتها لمثلها من النساء ، ولا إشكال في الجواز في مثل صلاة الميت التي هي ليست من حقيقة الصلاة في شيء ، وإنّما هي تسبيح وتهليل وذكر وتكبير ، فلا تشملها الأحكام المترتّبة على الصلاة الحقيقية ذات الركوع
ــ[350]ــ
والسجود . مضافاً إلى ورود النصّ الصحيح الدالّ على الجواز صريحاً(1) .
فمحلّ الكلام ما عداها من سائر الصلوات ، فريضة كانت أم نافلة تشرع فيها الجماعة كصلاة الاستسقاء ونحوها . فالمشهور جواز ذلك على كراهة في الفريضة . وعن السيد(2) والجعفي(3) وابن الجنيد(4) المنع في الفريضة والجواز في النافلة ، ومال إليه غير واحد من المتأخّرين ، وربما ينسب هذا القول إلى الصدوق والكليني ، حيث اقتصرا على ذكر الروايات المشتملة على التفصيل المزبور ، بعد ملاحظة ما نبّها عليه في ديباجة الفقيه والكافي من عدم نقلهما إلاّ الرواية التي يعتمدان عليها ، وتكون حجّة بينهما وبين الله .
وكيف ما كان ، فيظهر منهم الاتّفاق على جواز إمامتها لمثلها في النافلة المشروع فيها الجماعة ، ومحلّ الخلاف إنّما هي الفريضة ، فالمشهور على الجواز وغيرهم على المنع .
ويستدلّ للمشهور بطائفة من الأخبار :
منها : موثّقة سماعة «عن المرأة تؤمّ النساء ، فقال : لا بأس به»(5) المؤيّدة بمرسلة ابن بكير : «في المرأة تؤمّ النساء ، قال : نعم ، تقوم وسطاً بينهنّ ولا تتقدّمهنّ»(6) ، وبخبر الصيقل : «. . . ففي صلاة مكتوبة أيؤمّ بعضهنّ بعضاً ؟ قال : نعم»(7) ، فانّ طريق الصدوق إلى الصيقل وإن كان صحيحاً(8) لكن الرجل نفسه لم يوثّق .
ومنها : صحيحة علي بن جعفر : «عن المرأة تؤمّ النساء ما حدّ رفع صوتها
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 8 : 334 / أبواب صلاة الجماعة ب 20 ح 3 .
(2) حكاه عنه في السرائر 1 : 281 .
(3) حكاه عنه في الذكرى 4 : 376 ـ 377 .
(4) حكاه عنه في المختلف 2 : 486 .
(5) ، (6) الوسائل 8 : 336 / أبواب صلاة الجماعة ب 20 ح 11 ، 10 .
(7) الوسائل 8 : 334 / أبواب صلاة الجماعة ب 20 ح 2 .
(8) الفقيه 4 (المشيخة) : 24 .
ــ[351]ــ
بالقراءة والتكبير ؟ فقال : قدر ما تسمع»(1) المؤيّدة بروايته الاُخرى المشاركة لها في المضمون وإن كانت ضعيفة بعبدالله بن الحسن(2) ، وصحيحة علي بن يقطين التي هي بعين المضمون المتقدّم(3) .
فانّ هذه الروايات وإن كانت مسوقة لبيان رفع الصوت ومقدار الجهر ولا نظر فيها إلى جواز الإمامه ابتداءً ، لكن يظهر منها المفروغية من الجواز كما لا يخفى . ومقتضى الإطلاق(4) في هذه النصوص عدم الفرق بين الفريضة والنافلة .
ولكن بازائها ما دلّ على عدم الجواز مطلقاً ، وهي صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال «قلت له : المرأة تؤمّ النساء ؟ قال : لا ، إلاّ على الميّت إذا لم يكن أحد أولى منها ، تقوم وسطهنّ معهنّ في الصفّ ، تكبّر ويكبّرن»(5) .
وهناك طائفة ثالثة تضمّنت التفصيل بين المكتوبة والنافلة ، بالمنع في الأوّل والجواز في الثاني ، وهي :
صحيحة هشام بن سالم : «عن المرأة هل تؤمّ النساء ؟ قال : تؤمهنّ في النافلة ، فأمّا المكتوبة فلا ، ولا تتقدّمهنّ ولكن تقوم وسطهنّ»(6) .
وصحيحة الحلبي(7) : «تؤمّ المرأة النساء في الصلاة ، وتقوم وسطاً بينهنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 8 : 335 / أبواب صلاة الجماعة ب 20 ح 7 .
(2) الوسائل 6 : 95 / أبواب القراءة في الصلاة ب 31 ح 3 .
(3) الوسائل 6 : 94 / أبواب القراءة في الصلاة ب 31 ح 1 .
(4) يشكل انعقاد الإطلاق في الروايات الأخيرة بعد الاعتراف بعدم كونها مسوقة إلاّ لبيان مقدار رفع الصوت ، فانّ غاية ما يترتّب عليه هو المفروغية عن الجواز في الجملة لا بالجملة ، لعدم كونها بصدد البيان من هذه الجهة على الفرض .
(5) الوسائل 8 : 334 / أبواب صلاة الجماعة ب 20 ح 3 .
(6) الوسائل 8 : 333 / أبواب صلاة الجماعة ب 20 ح 1 .
(7) توصيف الرواية بالصحيحة مع أنّ في السند محمد بن عبد الحميد ، ولا توثيق له من غير ناحية وقوعه في أسناد كامل الزيارات (المعجم 17 : 220 / 11055) مبني على ما كان يرتئيه (دام ظلّه) سابقاً من عموم التوثيق ، وأمّا بناءً على ما عدل إليه أخيراً من الاختصاص بالمشايخ بلا واسطة ووضوح عدم كونه منهم ، فهي غير متّصفة بالصحّة .
ــ[352]ــ
ويقمن عن يمينها وشمالها ، تؤمّهنّ في النافلة ، ولا تؤمّهنّ في المكتوبة»(1) .
وصحيحة ابن سنان أو ابن مسكان ـ ولو كان الأوّل فهو عبدالله(2) ـ عن سليمان بن خالد قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن المرأة تؤمّ النساء فقال : إذا كنّ جميعاً أمّتهنّ في النافلة ، فأمّا المكتوبة فلا ، ولا تتقدّمهنّ ولكن تقوم وسطاً بينهنّ»(3) .
فهذه طوائف ثلاث من الأخبار ، دلّت الاُولى على الجواز مطلقاً ، والثانية على المنع مطلقاً ، والثالثة على التفصيل بين المكتوبة فلا تجوز والنافلة فتجوز .
والجمع بين هذه الأخبار يمكن من وجوه :
الأوّل : جعل الطائفة الثالثة مقيّدة للإطلاق في كلّ من الاُوليين ، عملا بصناعة الإطلاق والتقييد ، فيحمل الجواز في الطائفة الاُولى على النافلة ، والمنع في الثانية على المكتوبة ، وتكون الطائفة الثالثة المفصّلة بينهما شاهدة لهذا الجمع . وغير خفىّ أنّ هذا الجمع هو المتعيّن كما في سائر المقامات لو لم يمنع عنه مانع خارجي في خصوص المقام .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 8 : 336 / أبواب صلاة الجماعة ب 20 ح 9 .
(2) ولكنّه لا يروي عن سليمان بن خالد بلا واسطة ، وكذا محمد بن سنان .
والصحيح في السند هكذا : ابن سنان عن ابن مسكان عن سليمان بن خالد كما أثبته في الاستبصار 1 : 426 / 1646 ، ومن المعلوم أنّ ابن سنان الذي يروي عن ابن مسكان هو محمد ، لروايته عنه كثيراً ، ولا رواية لعبدالله عنه في الكتب الأربعة . إذن فالرواية ضعيفة بمحمد بن سنان .
وأمّا ما في الكافي 3 : 376 / 2 ، والتهذيب 3 : 269 / 768 من حذف (ابن مسكان) فهو سقط من القلم أو النساخ ، لما عرفت من أنّ محمد بن سنان لا يروي عن سليمان بلا واسطة ، وإنّما يروي عنه بواسطة ابن مسكان غالباً كما يعلم بمراجعة الطبقات .
(3) الوسائل 8 : 336 / أبواب صلاة الجماعة ب 20 ح 12 .
ــ[353]ــ
الثاني : حمل النهي عن المكتوبة في الأخيرة على الكراهة ، وكذا في الثانية بقرينة الترخيص الذي تضمّنته الطائفة الاُولى ، تحكيماً للنصّ على الظاهر لصراحة الاُولى في الجواز ، فيرفع اليد عن ظهور النهي في المنع ويحمل على الكراهة . ولا تصل النوبة إلى هذا الجمع إلاّ بعد تعذّر الجمع الأوّل ، وإلاّ فهو المتعيّن كما لا يخفى .
الثالث : ما ذكره صاحب الحدائق (قدس سره)(1) وأصرّ عليه من أنّ المكتوبة والنافلة الواردتين في الطائفة الأخيرة وصفان للجماعة ، لا للصلاة نفسها . فالممنوع إمامتها لمثلها في الجماعة الواجبة كما في صلاة الجمعة والعيدين ، دون ما كانت الجماعة مستحبّة وإن كانت ذات الصلاة فريضة كما في الصلوات اليومية .
فمفاد هذه الروايات المفصّلة بين النافلة والمكتوبة جواز إمامتها في الصلاة التي تستحبّ فيها الجماعة كالصلاة اليوميّة ، وعدم جوازها في الصلاة التي تجب فيها الجماعة كالجمعة ، ولا نظر فيها إلى التفصيل في ذات الصلاة بين الفريضة والنافلة . وبهذا جمع بين الطائفتين الاُوليين ، فحمل المجوّزة على الجماعة المستحبّة ، والمانعة على الجماعة الواجبة .
أقول : أمّا الجمع الأخير فهو أبعد الوجوه ، بل في غاية السقوط ، فانّ حمل المكتوبة والنافلة على الجماعة الواجبة والمستحبّة خلاف الظاهر جدّاً ، ولم يعهد إطلاق اللفظين في لسان الأخبار على كثرتها إلاّ وصفاً لذات الصلاة ، وأمّا توصيف الجماعة بهما فلم يوجد ولا في مورد واحد .
وكيف يمكن حمل قوله (عليه السلام) في هذه الصحاح «تؤمّهنّ في النافلة . . .» إلخ على ما ذكره ، فانّ ظاهر الظرفية بل صريحها ملاحظة الإمامة في صلاة متّصفة بالنفل تارة وبالفرض اُخرى ، لا في جماعة كذلك ، إذ لا معنى لقولنا تؤمّهنّ في الجماعة ، كما لا يخفى .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحدائق 11 : 189 .
ــ[354]ــ
فالمراد بالنافلة هي صلاة النافلة ، وبالمكتوبة هي صلاة الفريضة بلا ارتياب . والوجوه التي سردها لتعيين ما استظهره غير خالية من المناقشة ، كما لا يخفى على من لاحظها .
وأمّا الجمع الأوّل : فهو في حدّ نفسه نعم الجمع ، بل هو المتعيّن كما عرفت لولا المحذور اللازم منه في خصوص المقام ، وهو حمل المطلق على الفرد النادر فانّ المراد بالنافلة التي تجوز إمامتها فيها ـ بعد وضوح أنّه لا جماعة في النافلة عدا ما استثني ـ إمّا صلاة الاستسقاء أو الصلاة المعادة .
أمّا الاُولى : فلم يعهد تصدّي النساء لها ، ولعلّها لم تتّفق في الخارج ولا مرّة واحدة ، وعلى تقدير الوقوع فهو في غاية الندرة والشذوذ ، فكيف يمكن حمل المطلق عليها .
وأمّا الثانية : فهي ليست من النافلة في شيء ، بل هي فريضة يستحبّ إعادتها جماعة ، فالاستحباب والنفل وصف للإعادة ، لا للمعادة ولذات الصلاة ، ولذا لا تجري عليها أحكام النافلة . فلو زاد فيها ركناً سهواً بطلت ، ولو عرضها الشكّ في الركعات لحقه أحكام الشكّ في الفريضة من البناء على الأربع ونحوه . فهي عين الفريضة في ماهيّتها ، غير أنّه يستحبّ إعادتها جماعة ، فكيف يمكن إرادتها من النافلة المذكورة في هذه الأخبار .
ومع الغضّ عن ذلك فلا شكّ أنّ الفريضة المعادة جماعة نادرة جدّاً من الرجال فضلا عن النساء .
وعلى الجملة : حمل المطلقات الواردة في الطائفة الاُولى ـ مثل موثّقة سماعة وما يحذو حذوها ، المتضمّنة لجواز إمامة المرأة لمثلها مطلقاً ـ على النافلة التي لا مصداق لها غير صلاة الاستسقاء أو بضميمة المعادة ، اللتين قلّما تتّفقان خارجاً ، حمل للمطلق على الفرد النادر . فلا يمكن المصير إليه .
ومنه تعرف أنّ المتعيّن في المقام إنّما هو الجمع الثاني ، ونتيجة ذلك الالتزام بجواز إمامتها في الفريضة كالنافلة على كراهة ـ بمعنى أقلية الثواب ـ كما عليه المشهور .
|