ــ[162]ــ
الرابع : الشكّ بين الاثنتين والأزيد قبل إكمال السجدتين (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تواترها إجمـالاً كما مرّ من أ نّها مقطوعة الصدور ، فامّا أن تطرح هذه رأسـاً لعدم حجّية الرواية الواقعة في قبال السنّة القطعية ، أو أ نّها تحمل على التقية لموافقتها لمذهب العامّة ، حيث عرفت أنّ المتسالم عليه بينهم هو البنـاء على الأقلّ عملاً بالاستصحاب .
ومع الإغماض عن ذلك وتسليم اسـتقرار التعـارض المؤدِّي إلى التساقط فالمرجع حينئذ إطلاق صحيحة صفوان الدالّة على البطلان ، التي عرفت (1) أ نّها المرجع الوحيد والأصل الثانوي المجعول في باب الشكّ في الركعات ، خرج منه موارد خاصّة يبني فيها على الأكثر ، وليس منها الشكّ بين الواحدة والأزيد قطعاً ، لمخالفته لضرورة الإسلام من الخاصّة والعامّة كما مرّ . فيبقى مشمولاً تحت الإطلاق .
وملخّص ما ذكرناه لحد الآن : أنّ الشكّ في الصلوات الثنائية والثلاثية مطلقاً ، وكذا الرباعية بين الواحدة والثنتين أو الواحدة والأزيد محكوم في كلّ ذلك بالبطلان ، للروايات المستفيضة المعتبرة . ومعارضها مطروح لموافقته للعامّة بل لعدم حجّيته في نفسه . ومع الغض فالمرجع القاعدة الثانوية المستفادة من صحيحة صفوان وغيرها الدالّة على البطلان .
(1) كما دلّت عليه عدّة من الروايات المتظافرة ـ وجملة منها صحاح ـ المتضمّنة عدم دخول الشكّ في الأولتين ولزوم سلامتهما عنه ، وفي بعضها أ نّهما فرض الله لا بدّ من حفظهما والاستيقان بهما .
منها : صحيحة زرارة «كان الذي فرض الله على العباد عشر ركعات وفيهنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 151 .
ــ[163]ــ
القراءة ، وليس فيهنّ وهم ... » إلخ (1) .
فانّ المراد بالركعة في المقام ليس هو الركوع قطعاً ، بل الركعة التامّة ، وإن اُطلقت عليه أحياناً في لسان الأخبار كما ورد في صلاة الآيات من أ نّها عشر ركعات (2) وكذا في غيرها (3) .
أمّا أوّلاً : فلاستعمال الركعة في نفسها في ذلك في اصطلاح المتشرّعة وفي كثير من الروايات ممّا ورد في باب أعداد الفرائض ونوافلها وغيره ، فهذا الإطلاق هو الشائع الذائع في لسان الشارع وتابعيه ، فينصرف إليه اللفظ عند الإطلاق .
وثانياً : أنّ المراد بها في خصوص المقام إنّما هي الركعة التامّة بقرينة قوله : «وفيهنّ القراءة» لوضوح عدم كون ظرفها الركوع ، فدلّت الصحيحة بوضوح على لزوم إحراز الركعتين الأولتين بكاملهما وسلامتهما عن الشكّ .
ومنها : صحيحة البقباق (4) وموثّقة عنبسة بن مصعب (5) الذي مرّ أ نّه من رجال كامل الزيارات، وصحيحة أبي بصير(6) . وكلّها صريحة في المطلوب، وبها يخرج عن إطلاق قوله (عليه السلام) : إذا شككت فابن على الأكثر (7) . وهذا ممّا لا إشكال فيه .
إنّما الكلام فيما ذكره الماتن وغيره من الفقهاء من تقييد الشكّ بما قبل إكمال السجدتين ، وأ نّه يبني على الأكثر لو طرأ الشكّ بعد إكمالهما ، فانّ هذا العنوان لم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 8 : 187 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 1 ح 1 .
(2) الوسائل 7 : 492 / أبواب صلاة الكسوف والآيات ب 7 ح 1 ، 2 وغيرهما .
(3) الوسائل 6 : 319 / أبواب الركوع ب 14 ح 2 ، 3 وغيرهما .
(4) ، (5) ، (6) الوسائل 8 : 190 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 1 ح 13 ، 14 ، 15.
(7) الوسائل 8 : 212 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 8 ح 1 وغيره .
ــ[164]ــ
يرد في شيء من الروايات ، وإنّما المذكور فيها حفظ الركعتين عن الشكّ ، المراد بهما الركعة التامّة الكاملة كما عرفت . فيقع الكلام في أنّ إكمال الركعة بماذا يتحقّق وما هو الحدّ المقرّر في صدق حفظ الركعتين عن الشكّ المذكور في النصوص .
ذكر جماعة ـ ولعلّه الأشهر ـ أنّ محقّق الإكمال هو رفع الرأس عن السجدة الثانية ، إذ ما لم يرفع لم يفرغ عن الركعة ، بل هو بعد فيها ، وما لم يتحقّق الفراغ يصدق عروض الشكّ في الأولتين ، وأ نّه شاكّ في أنّ ما بيده ثانية أم ثالثة فتبطل بمقتضى النصوص المتقدّمة المانعة عن دخول الشكّ فيهما ، بخلاف ما لو طرأ الشكّ بعد الرفع ، إذ يصحّ أن يقال حينئذ إنّه حفظ الأولتين ، وإنّما الشك في الزائد عليهما ، فيحكم بالصحّة .
ولكنّ شيخنا الأنصاري (قدس سره) ذهب إلى أنّ محقّق الإكمال هو الفراغ عن الذكر الواجب في السجدة الأخيرة وإن لم يرفع بعد رأسه عنها ، وأ نّه بذلك يحرز الركعتين ، ولا يضرّه الشكّ بعدئذ .
وذكر (قدس سره) في وجه ذلك أنّ الطبيعي إنّما يتحقّق بصرف الوجود سواء طال زمان الفرد أم قصر ، إذ لا يختلف الحال بذلك فيما به يتحقّق الطبيعي . وعليه فمتى فرغ من وظيفة السجدة الأخيرة فقد تحقّق طبيعي الركعتين وإن لم يفرغ بعد من شخص هذا الفرد لإطالة السجود ، فلا نضايق من صدق أنّ المصلّي بعد في السجدة ، إذ عدم خروجه بذلك عن الركعتين وكونه فيهما عرفاً ممّا لا ينكر ، لكن ذلك لا ينافي صدق تحقّق الركعتين وتيقّنهما الذي هو مناط الصحّة في الأخبار ، إذ لا منافاة بين تحقّق الماهية وعدم الفراغ عن الشخص (1) .
وقد استغرب المحقّق الهمداني (قدس سره) (2) هذا الكلام نظراً إلى أنّ الكلّي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كتاب الصلاة : 239 السطر 21 .
(2) مصباح الفقيه (الصلاة) : 564 السطر 4 .
ــ[165]ــ
حدوثاً وبقاءً وجوداً وعدماً تابع للفرد ، فكيف يصحّ أن يقال مضى الكلّي وبقي الشخص ، فانّه لا وجود للكلّي بغير وجود فرده .
أقول : الذي ينبغي أن يقال في المقام ولعلّه مراد الشيخ (قدس سره) : إنّه إن كان المستفاد من النصوص أنّ الموضوع للبطلان دخول الشكّ في الأولتين بحيث تكون الأولتان ظرفاً لعروض الشكّ في قبال غير المبطل منه وهو الشكّ الحادث والمصلّي في الأخيرتين ، تمّ ما أفاده الهمداني (قدس سره) ، فانّ الركعة التي بيده مردّدة بين الثانية والثالثة ، فكانت إحدى الأولتين معرضاً وظرفاً لطروء الشكّ ، إذ لم يحرز بعد فراغه عن الأولتين حسب الفرض ، فلا مناص من الحكم بالبطلان .
وإن كان المستفاد منها أنّ الموضوع للبطلان تعلّق الشك بالأولتين وعدم إحرازهما لا ظرفية الركعتين للشكّ ، تمّ ما أفاده الشيخ (قدس سره) ، ضرورة أ نّه حافظ للاُوليين ومتيقّن بهما ولو كان هو بعدُ في الأولتين ، فقد حدث الشكّ ـ وهو في ركعة أحرز معها الأولتين ـ في أ نّها هي الثانية أم الثالثة . فالشكّ متعلّق لا محالة بالإتيان بالزائد لا بالإتيان بالأولتين .
ولا ينبغي الشكّ في أنّ المستفاد من النصوص إنّما هو المعنى الثاني ، أعني كون الأولتين متعلّقاً للشكّ لا ظرفاً له .
والذي يكشف عن ذلك عدّة من الأخبار ، فانّه وإن سلّم الإجمال في بعضها الآخر كموثّقة عنبسة ونحوها إلاّ أنّ مثل صحيحة زرارة كالصريح فيما ذكرناه لقوله (عليه السلام) : «فمن شكّ في الأولتين أعاد حتّى يحفظ ويكون على يقين»(1) حيث يظهر منها أنّ المنـاط في الصحّة إحراز الأولتين وحفظهما واليقين بهما الحاصل كلّ ذلك في المقام ، أعني قبل رفع الرأس من السجدة الأخيرة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وقد تقدمت في ص 159 .
ــ[166]ــ
وكذا قوله (عليه السلام) في صحيحة البقباق : «إذا لم تحفظ الركعتين الأولتين فأعد» ، حيث دلّ على أنّ المبطل عدم حفظ الأولتين ، غير المنطبق على المقام فانّه عالم بهما وحافظ ولو كان ظرف شكّه ومركز عروضه هي الركعة المحتمل كونها الثانية . فما ذكره الشيخ (قدس سره) هو الصحيح .
نعم ، هناك رواية واحدة قد يستفاد منها ما ذكره الهمداني (قدس سره) من إناطة الصحّة برفع الرأس وعدم كفاية الفراغ من الذكر ، وهي صحيحة زرارة التي استشهد هو (قدس سره) بها ، قال «قلت له : رجل لا يدري اثنتين صلّى أم ثلاثاً ، قال : إن دخل الشكّ بعد دخوله في الثالثة مضى في الثالثة ثمّ صلّى الاُخرى ولا شيء عليه ويسلّم» (1) .
فانّ الدخول الحقيقي في الثالثة المتحقّق بالقيام غير مراد قطعاً ، إذ مجرّد عروض الشكّ بعد إكمال السجدتين وإن لم يكن قائماً كاف في الحكم بالبناء على الأكثر إجماعاً ، وإنّما الخلاف في كفايته قبل رفع الرأس ، وأنّ الإكمال هل يتحقّق قبل ذلك أو لا ، بل المراد الدخول المجازي ، أعني الدخول في المقدّمات ولو بضرب من العناية، التي منها رفع الرأس عن السجدة الأخيرة. فالدخول المزبور كناية عن رفع الرأس .
وعليه فتدلّ الصحيحة بمقتضى مفهوم الشرط على البطلان فيما لو كان الشكّ عارضاً قبل رفع الرأس ، سواء أكان فارغاً عن الذكر أم لا .
وفيه أوّلاً : أنّ الشرط لا مفهوم له في مثل المقام ممّا كان مسوقاً لبيان تحقّق الموضوع ، فانّ انتفاء الحكم لدى انتفاء الشكّ من باب السالبة بانتفاء الموضوع فهو نظير قولك : إن ركب الأمير فخذ ركابه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 8 : 214 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 9 ح 1 .
ــ[167]ــ
نعم ، لو كانت العبارة هكذا : إن دخل الشكّ وكان بعد دخوله في الثالثة ... إلخ تمّ ما اُفيد وانعقد المفهوم ، فانّ مفهومه حينئذ أنّ الشك المفروض وجوده لو كان قبل الدخول في الثالثة ـ أي قبل رفع الرأس ـ بطلت صلاته ، لكن العبارة ليست كذلك .
نعم ، للصحيحة مفهوم من حيث الوصف ـ لا الشرط ـ بالمعنى الذي ذكرناه في الاُصول(1) أعني الدلالة على أنّ الطبيعي لم يكن على إطلاقه وسريانه موضوعاً للحكم ، وأنّ القيد مبنيّ على الاحتزاز . فتدلّ على أنّ الشكّ بين الثنتين والثلاث لم يكن على إطلاقه محكوماً بالصحّة ، ويكفي في ذلك بطلانه لو كان في حال القيام ، أو قبل الفراغ عن ذكر السجدة الأخيرة ، لا أ نّها تدلّ على أ نّه كلّما كان الشكّ قبل رفع الرأس عن الأخيرة فهو محكوم بالبطلان كي تدلّ على المفهوم بالمعنى المصطلح .
وثانياً : مع الغضّ عن ذلك فالصحيحة في نفسها غير خالية عن شائبة من الإجمـال ، فانّ المفروض في السؤال الشكّ بين الثنتين والثلاث فما معنى قوله (عليه السلام) في الجواب : «إن دخل الشكّ بعد دخوله في الثالثة»، فانّه إن اُريد به الثالثة المحتملة فهو حاصل بمقتضى فرض الترديد بين الثنتين والثلاث المذكور في السؤال ، وحكمه البطلان إذا كان قبل الإكمال بلا إشكال ، فكيف حكم (عليه السلام) بالصحّة .
وإن اُريد بها الثالثة اليقينية أي الدخول في ركعة اُخرى يقطع معها بتحقّق الثلاث فينقلب الشكّ حينئذ إلى الثلاث والأربع ، ويخرج عمّا افترضه السائل من الشكّ بين الثنتين والثلاث ، نعم كان كذلك قبل ذلك لا بالفعل ، فلا يرتبط بالسؤال .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محاضرات في اُصول الفقه 5 : 133 .
|