الجهة الثانية : بعدما لم يكن الشكّ بمجرّده مبطلاً ـ كما عرفت ـ فهل يجب التروّي ؟ بل هل يجب الانتظار إلى فوات الموالاة، أو يجوز رفع اليد بمجرّد الشكّ والتبديل بفرد آخر ؟.
ــ[214]ــ
الظاهر هو الجواز وعدم وجوب التروِّي، للإطلاق في أدلّة الإعادة. ودعوى الانصراف إلى الشكّ المستقرّ المنوط بالتروّي بلا بيّنة ولا برهان ، فانّ حال الشكّ وما يرادفه من التعبير بـ «لا يدري» المأخوذ في نصوص المقام بعينه حاله في أدلّة الاُصول العمليّة لا يراد به في كلا المقامين إلاّ مسـمّاه ، الصادق على مجرّد الترديد وعدم اليقين ، لما عرفت من أنّ الشكّ لغة خلاف اليقين ، وأنّ المكلّف الملتفت لا يخلو عن اليقين بالشيء أو عن خلافه ولا ثالث ، فاذا لم يكن متيقّناً فهو شاكّ لا محالة ، فيندرج في موضوع الأدلّة وتشمله أحكامها من غير حاجة إلى التروّي بمقتضى الإطلاق . فالقول بوجوب التروّي ضعيف .
وأضعف منه دعوى وجوب تمديده والانتظار إلى أن تفوت المـوالاة ، فانّ هذا بعيد غايته ، لاحتياجه إلى مؤونة زائدة ، وليس في الأخبار من ذلك عين ولا أثر ، بل المذكور فيها إعادة الصلاة بعد الشكّ . فالتقييد بالصبر مقدار ربع ساعة مثلاً كي تنمحي الصورة وتفوت الموالاة يحتاج إلى الدليل ، وليس في الأدلّة إيعاز إلى ذلك فضلاً عن الدلالة . فهو مدفوع بالإطلاق جزماً ، هذا .
وقد يقال بامتياز المقام عن الشكّ المأخوذ في أدلّة الاُصول ، لاختصاصه بوجه من أجله يحكم باعتبار التروّي ، وهو أنّ قطع الفريضة حرام فيجب الإتمـام . وحيث يحتمل القدرة عليه بعد التروّي ، لجواز تبدّل شكّه بالظنّ أو اليقين ، فرفع اليد عن العمل قبل التروّي إبطال له مع احتمال القدرة على الإتمام الواجب عليه لدى التمكّن منه . فمرجع الشكّ إلى الشكّ في القدرة ، والمقرّر في محلّه لزوم الاحتيـاط في هذه الموارد . فيجب التروّي في المقـام حذراً من أن يكون الإبطال مستنداً إليه .
وفيه أوّلاً : أنّ كبرى عدم جواز رفع اليد عن التكليف المحتمل لدى الشكّ في القدرة وإن كانت مسلّمة لكنّها خاصّة بموارد الاُصول العملية ، فلا تجري البراءة مع الشكّ في القدرة عند كون التكليف فعلياً من بقيّة الجهات .
ــ[215]ــ
والوجه فيه : ما ذكرناه في الاُصول(1) من أنّ القدرة إذا لم تكن دخيلة في الملاك شرعاً وإن كانت شرطاً في التكليف عقلاً ـ كما في إنقاذ الغريق ـ فالملاك موجود على تقديري قدرة المكلّف وعجزه ، وعليه ففي ترك الإنقـاذ فوت للمصلحة الواقعية ، والعقل لا يجوّز تفويت الملاك الملزم ما لم يستند المكلّف إلى عذر شرعي ، فلا بدّ من الإقدام وإعمال القدرة ، فان انكشف التمكّن وإلاّ فهو معذور . فأدلّة البراءة لا تشمل فوت الغرض الواقعي .
وهذا بخلاف موارد الأدلّة اللفظية ، فانّ الإطلاق فيها مؤمّن ، والاستناد إليه معذّر ، لشموله موارد الشكّ في القدرة أيضاً ، سيما مثل المقام الذي لم يكن من التروّي في لسان الأخبار عين ولا أثر كما عرفت ، فانّ الغالب حصول القدرة على الإتمام بعد التروّي كما لا يخفى ، ومع ذلك لم يؤمر به في شيء من الأخبار . فما ذكر إنّما يتمّ في مورد الأصل العملي دون الإطلاق .
وثانياً : لا يتم حتّى في الأصل فيما إذا كان مورد الشكّ من قبيل المقام ، إذ لا شكّ هاهنا في العجز الفعلي ، وإنّما يحتمل تجدّد القدرة فيما بعد . وما سبق من الكلام فانّما هو فيما إذا كان شاكاً في القدرة الفعلية ، وأمّا إذا علم العجز فعلاً واحتمل عروض القدرة فلا مانع من استصحاب عدمها ، فهو عاجز فعلاً وجداناً وفيما بعد تعبّداً ، وكفى به عذراً .
ومقامنا من هذا القبيل ، فانّه عاجز بالفعل عن الإتمام ، لكونه شاكاً بشكّ لايجوز معه المضيّ حسب الفرض ، ويحتمل التمكّن منه بعد التروِّي ، فيستصحب بقاءه على العجز . فلا يتمّ ما اُفيد في مثل المقام حتّى ولو لم يكن هناك إطلاق . ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محاضرات في اُصول الفقه 2 : 360 ، 3 : 277 ، مصباح الاُصول 2 : 400 .
|