اللّبن في الضرع :
(1) لدلالة جملة من الأخبار المعتبرة على ذلك ، كما دلت بدلالتها الالتزامية على طهارة داخل الضرع أيضاً لملاصقته اللبن أو أنه نجس ولكنه غير منجس لملاقيه ، وقد ذهب إلى طهارة اللبن الشيخ (1) والشهيد (2) وصاحب الغنية (3) والصدوق (4) وغيرهم من الأعلام (قدس الله أسرارهم) بل ادعى الشهيد (قدس سره) ندرة القول بالنجاسة . وعن الخلاف الاجماع على طهارته (5) وذهب جماعة آخرون ومنهم العلاّمة (6) والمحقق (7) وابن ادريس (8) (قدس سرهم) إلى نجاسته .
والذي يمكن أن يستدل لهم به وجوه ثلاثة :
أحدها : أن نجاسـة اللبن هي التي تقتضيه القاعدة أعني منجسية النجس لملاقيه وحيث إن اللبن لاقى الضرع وهو من أجزاء الميتة فيتنجس لا محالة .
وثانيها : رواية وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) «إن علياً سئل عن شاة ماتت فحلب منها لبن ؟ فقال علي (عليه السلام) : ذلك الحرام محضاً» (9) .
وثالثها : رواية الجرجاني المتقدمة التي دلت على حصر المستثنيات في خمسة وهي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النهاية : 585 .
(2) الذكرى : 14 السطر 4 .
(3) الغنية : 401 .
(4) الفقيه 3 : 219 / 1011 .
(5) الخلاف 1 : 519 م / 262 .
(6) التذكرة 1 : 64 .
(7) جامع المقاصد 1 : 167 .
(8) السرائر 3 : 112 .
(9) الوسائل 24 : 183 / أبواب الأطعمة المحرمة ب 33 ح 11 .
ــ[430]ــ
الصوف من السخال ـ إن جز ـ والشعر والوبر والإنفحة والقرن وقال في ذيلها ولا يتعدّى إلى غيرها إن شاء الله . ومن الظاهر أن اللبن غير الخمسة المذكورة في الرواية . وهذه الوجوه بأجمعها ضعيفة .
أمّا الوجه الأول : فلأن قاعدة منجسية النجس ليست من القواعد العقلية غير القابلة للتخصيص ، وإنما هي من القواعد التعبدية وهي غير آبية عن التخصيص كما خصصناها في غير اللبن ، فاذا وردت رواية صحيحة على طهارة اللبن فلا محالة تكون موجبة لتخصيصها وليس في ذلك أي محذور .
وأمّا الوجه الثاني : فلأن الرواية ضعيفة جداً فان وهب بن وهب عامي وآية في الكذب بل قيل إنه أكذب البرية فلا يعتمد على روايته أو تحمل على التقية على تقدير صدورها لذهاب أكثر العامة إلى نجاسة اللبن والإنفحة وغيرهما مما يخرج من الميتة (1) .
وأمّا الوجه الثالث : فلأنها ليست إلاّ رواية مطلقة فنقيدها بغير اللبن كما قيدناها بما دلّ على طهارة بقية المستثنيات . هذا على أنها أيضاً غير منقحة سنداً بل ومضطربة متناً ، وعليه فالقول بطهارة اللبن هو الأقوى .
والعجب من شيخنا الأنصاري (قدس سره) حيث إنه بعدما استدلّ على طهارة اللّبن بما يقرب مما قدمناه آنفاً استقرب القول بنجاسة اللبن وقواه وحاصل ما أفاده في وجهه : أن رواية وهب وإن كانت ضعيفة إلاّ أنها منجبرة بمطابقتها للقاعدة المتسالم عليها أعني منجسية النجس وموافقة القاعدة جابرة لضعفها . وأمّا الروايات الواردة في طهارة اللبن وإن كانت بين صحيحة وموثقة إلاّ أنها مخالفة للقاعدة ، وطرح الأخبار الصحيحة المخالفة لاُصول المذهب وقواعده غير عزيز ، إلاّ أن تعضد بفتوى الأصحاب كما في الإنفحة أو بشهرة عظيمة توجب شذوذ المخالف ، وليس شيء من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كالحنابلة والشافعية والمالكية حيث ذهبوا إلى نجاسة كل ما يخرج من الميتة سوى البيض فان الأولين ذهبا إلى طهارته على تفصيل في ذلك ، وأمّا الحنفية فقد ذهبوا إلى طهارة كل ما يخرج من الميتة من لبن وانفحة وغيرهما مما كان طاهراً حال الحياة راجع ج 1 من الفقه على المذاهب الأربعة ص 11 ـ 15 .
ــ[431]ــ
خصوصاً إذا كان ((1)) من غير مأكول اللحم (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك متحقِّقاً في المقام فالعمل على رواية وهب هو المتعين (2) .
وهذا من غرائب ما صدر منه (قدس سره) لأن الرواية الضعيفة وإن قيل بانجبارها بعمل الأصحاب نظراً إلى أنهم أهل الخبرة والاطلاع ، فعملهم برواية يكشف عن وجود قرينة معها لم تصل إلينا وهي التي دلتهم على صحتها ، إلاّ أن انجبار ضعف الرواية بمطابقتها للقواعد التي ليست إلاّ عبارة عن العموم أو الاطلاق مما لم يقل به أحد ولم يعده هو (قدس سره) من موجبات الانجبار في محلّه . نعم ، العموم أو الاطلاق في نفسه أمر معتبر إلاّ أن الاعتبار أمر وانجبار ضعف الرواية به أمر آخر .
كما أن دعوى عدم العمل بالروايات الصحيحة المخالفة للقواعد ما لم تعتضد بعمل الأصحاب مما لا يمكن المساعدة عليه ، فان كسر الرواية الصحيحة باعراض الأصحاب وإن كان مورد الخلاف بينهم إلاّ أن كسرها بمخالفة القاعدة مما لا نرى له وجهاً ، وليست الروايات الواردة في المقام معرضاً عنها عندهم كيف وقد اعتمد عليها جماعة من الأصحاب ، حيث ذهب أكثرهم إلى طهارة اللّبن حتى اعترض الآبي في كشف الرموز على دعوى ابن ادريس أن النجاسة مذهب المحصلين بأن الشيخين مخالفان والمرتضى واتباعه غير ناطقين فما أعرف من بقي معه من المحصلين (3) .
وعلى الجملة الرواية إذا كانت معتبرة في نفسها ولم تكن معرضاً عنها عندهم فلا يضرها مخالفتها العموم أو الاطلاق ، بل القاعدة تقتضي أن تكون الرواية مخصصة للعموم أو مقيدة للاطلاق وتخصيص العمومات بالروايات غير عزيز ، فالانصاف أن روايات الطهارة مما لا غبار عليه ولا وجه للقول بنجاسته .
اختصاص الحكم بالحيوان المحلل :
(1) وهل تختص طهارة اللبن بما إذا كان من الحيوانات المحللة ؟
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بل الأظهر فيه النجاسة .
(2) كتاب الطهارة : 345 السطر 32 .
(3) كشف الرموز 2 : 368 .
ــ[432]ــ
ولا بدّ من غسل ظاهر الإنفحة الملاقي للميتة (1) هذا في ميتة غير نجس العين وأمّا فيها فلا يستثنى شيء (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قد يقال إن اللبن كالبيضة فكما أن طهارتها غير مختصة بما إذا كانت من الحيوانات المحللة فكذلك الحال في اللبن . ولكن الظاهر أن اللبن كالإنفحة وتنحصر طهارته بما إذا كان من الحيوانات المحللة ، ولا يمكن قياسه بالبيضة لأنها كما مرّ خارجة من أجزاء الميتة وأدلة نجاستها لا تشمل البيضة من الابتداء ، وهذا بخلاف اللّبن لأنّه وإن كان أيضاً خارجاً من الميتة إلاّ أنه لا محالة يتنجس بملاقاة أجزائها لميعانه كالانفحة إلاّ فيما دلت الرواية على طهارة اللبن ، فانّها بالدلالة الالتزامية تدل على عدم منجسية ما يلاقيه من النجس أو على عدم نجاسته ، والرواية إنما دلت على طهارته فيما يؤكل لحمه كالشاة . وأمّا إطلاق بعض الأخبار فهو منصرف إلى الحيوانات المحللة ، لأنها ناظرة إلى الانتفاع بمثل اللبن والإنفحة مطلقاً كما هو قوله (عليه السلام) «لا بأس به» ولو من حيث أكله لأنه المنفعة الظاهرة منهما دون بقية الانتفاعات وهو إنما يسوغ في الحيوان الحلال .
(1) ظاهره أن الإنفحة عنده (قدس سره) اسم لمجموع الظرف والمظروف وقد عرفت أنه المظنون وعليه لا بدّ من غسل ظاهرها لنجاستها العرضية الحاصلة من ملاقاة الميتة .
عدم الاستثناء في ميتة نجس العين
(2) وذلك لأن الأدلة الدالة على نجاسة أي حيوان كالكلب والخنزير قد دلت على نجاسة جميع أجزائه ، فان شعر الكلب مثلاً وإن لم يصدق عليه عنوان الكلب إلاّ أن معروض النجاسة ليس هو الهيئة التركيبية وإنما معروضها كل واحد واحد من أجزائه ، ولم يدل دليل على استثناء شيء من أجزاء الحيوانات النجسة .
وقد خالف في ذلك السيد المرتضى (قدس سره) وذهب إلى طهارة شعر الكلب والخنزير بل التزم بطهارة كل ما لا تحلّه الحياة كالعظم والوبر والقرن وغيرها (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناصريات : 182 السطر 16 .
ــ[433]ــ
[ 165 ] مسألة 1 : الأجزاء المبانة من الحي ممّا تحلّه الحياة كالمبانة من الميتة (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه : أن الموت لو لم يكن موجباً للنجاسة فعلى الأقل ليس من مقتضيات الطهارة ، ونحن إنما التزمنا بطهارة ما لا تحله الحياة من أجزاء الحيوانات الطاهرة بعد موتها من جهة طهارته حال حياتها ، والموت إنما يعرض على ما له الحياة وأمّا ما لا روح فيه كالجماد فلا معنى لموته ، فما لا تحلّه الحياة من أجزاء الحيوانات الطاهرة باق على طهارته وحاله بعد طرو الموت على الحيوان كحاله قبله ، وقد ورد (1) أن النابت لا يكون ميتاً . وأمّا الحيوانات النجسة فأجزاؤها محكومة بالنجاسة من الابتداء وحالها قبل عروض الموت وبعده سيان لما عرفت من أن الموت ليس من أحد أسباب الطهارة .
وأمّا صحيحة زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر هل يتوضأ من ذلك الماء ؟ قال لا بأس» (2) فلا دلالة لها على عدم نجاسة شعر الخنزير بوجه ، بل ظاهرها مفروغية نجاسة الحبل عند السائل ولذا كان يسأله (عليه السلام) عن حكم التوضؤ بما يستقى به من البئر فعدم البأس إما من جهة عدم انفعال الماء القليل بملاقاة النجس أو من جهة عدم إصابة الحبل أو الماء المتنجس به لماء الدلو ، وقد تقدم تفصيل الجواب عن هذه الرواية في بحث انفعال الماء القليل (3) .
|