أمّا المقام الأوّل : فقد نسب إلى الأكثر اعتبار حدّ الترخص وأ نّه لا فرق فيه بين الوطن وغيره . وناقش فيه غير واحد بعدم الدليل على التعميم . والظاهر عدم الاعتبار .
فانّا لو بنينا على أنّ قصد الإقامة قاطع لموضوع السفر وموجب للخروج عن عنوان المسافر عرفاً كما قيل به وقرّبه غير واحد ، بحيث لا يعمّه دليل التقصير في حدّ نفسه ، لخروجه عنه بالتخصّص لا التخصيص ، صحّ حينئذ ما نسب إلى الأكـثر بل المشهور من الإلحاق بالوطن في اعتبـار حدّ الترخّص لاندراجه في إطلاق صحيحة ابن مسلم : «الرجل يريد السفر متى يقصّر ؟ قال : إذا توارى من البيوت» (1) .
لدلالتها على أنّ كلّ من يريد التلبّس بالسفر بعد أن لم يكن متصفاً به لا يحكم عليه بالتقصير إلاّ بعد التجاوز عن حدّ الترخّص ، فتكون حاكمة على أدلّة القصر .
ومن الواضح أنّ هذا العنوان صادق على المقام ، إذ بعد فرض خروج المقيم عن موضوع المسافر فهو ممّن يريد التلبّس بانشاء سفر جديد بعد أن لم يكن كذلك ، فيشمله الإطلاق بطبيعة الحال . فهذه الصحيحة بنفسها كافية لإثبات اعتبار حدّ الترخصّ لقاصد الإقامة .
وأمّا لو بنينا ـ كما هو الصحيح ـ على عدم خروج المقيم من موضوع المسافر وأنّ الحكم بوجوب التمام عليه تخصيص في أدلّة القصر لا تخصّص ، فهو مسافر يجب عليه التمام كالمسافر في صيد اللهو أو السفر الحرام ونحو ذلك .
فعلى هذا المبنى لا يكون المقيم المزبور مشمولاً للصحيح ، لعدم كونه ممّن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 8 : 470 / أبواب صلاة المسافر ب 6 ح 1 .
ــ[212]ــ
يريد السفر ، بل هو مسـافر بالفعل حقيقة ، لعدم خروجه بقصد الإقامة عن كونه مسافراً وغريباً حسب الفرض ، فحينئذ يطالب بالدليل على اعتبار حدّ الترخّص في حقِّه بعد أن كان مقتضى إطلاق وجوب القصر لكلّ مسافر التقصير بمجرّد الخروج من محلّ الإقامة ولو بخطوة أو خطوتين .
وقد استدلّ لذلك بوجوه :
أحدها : الوجه الاعتـباري بدعوى أنّ الغرض من تشريع حدّ الترخّص تعيين الموضع الذي يجب فيه التمام وتمييزه عن غيره ، المبني على التحاق توابع البلد به ، وأنّ المسافر ما لم يتجاوز ذلك الحدّ كأ نّه لم يخرج بعد من البلد ولم يصدق عليه عنوان المسافر ولو بضرب من الاعتبار ، وإن كان مبدأ المسافة هو البلد نفسه ، وهذا المناط كما ترى يشترك فيه الوطن ومحلّ الإقامة .
وفيه : ما لا يخفى ، فانّ الوجه الاعتباري لا يصلح سنداً للحكم الشرعي . مع أ نّه لا ينبغي التأمل في كونه مسافراً عرفاً حينما يخرج من البلد ، فيطلق عليه المسافر جزماً من لدن حركة السيارة ونحوها . فالحكم تعبّدي محض لا يمكن التعويل فيه إلاّ على الروايات ، وهي العمدة في المقام .
ثانيها : رواية حماد : «إذا سمع الأذان أتمّ المسافر»(1) فقيل : إنّ إطلاقها يشمل الخروج من محلّ الإقامة .
وفيه أوّلاً : أ نّها ضعيفة السند بالإرسال ، فانّ حماداً يرويها عن رجل عن أبي عبدالله (عليه السلام) كما في الحـدائق(2) وفي نفس المصـدر أعني محاسـن البرقي (3) ، فما في الوسائل من حذف كلمة (عن رجل) سقط منه أو من النسّاخ .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 8 : 473 / أبواب صلاة المسافر ب 6 ح 7 .
(2) الحدائق 11 : 405 .
(3) المحاسن 2 : 120 / 1330 .
ــ[213]ــ
فهي ضعيفة وإن عبّر عنها بالصحيحة في غير واحد من الكلمات .
وثانياً : أ نّها قاصرة الدلالة على المطلوب ، لعدم الإطلاق لها جزماً ، أفهل يحتمل أن يكون المراد وجوب التمام على أيّ مسافر في أيّ مكان سمع الأذان فيه حتّى لو كان ماراً في طريقه على قرية فسمع أذانها أو سمع في أثناء الطريق أذان نفسه أو صاحبه ؟ كلا ، فانّ هذا مقطوع البطلان .
بل ظاهرها إرادة مسافر خاص في مكان مخصوص ، وهو المسافر في أوّل سـفره وابتداء تلبّسـه بعنوان المسافر بعد أن لم يكن كذلك ، ولا تعمّ من كان مسافراً من قبل .
وقد عرفت أنّ المقيم مسافر ، ولا يكون بخروجه من محلّ الإقامة منشئاً لسفر جديد ، بل هو إبقاء للسفر واستمرار فيه ، فيخصّص مورد الرواية بمن خرج من وطنه ومسكنه بطبيعة الحال ، ولا تعم المقيم بوجه .
كما لا يحتمل أيضاً أن يكون المراد أنّ من كان محكوماً بالتمام في سفره لا ينقلب إلى القصر ما دام يسمع الأذان ، إذ لا يتم هذا على إطلاقه جزماً ، لضرورة عدم اعتبار حدّ الترخّص في من خرج للصيد أو لطلب الغريم وفي أثناء الطريق بدا له في السفر ، أو سافر للمعصية ثمّ ندم في الأثناء فسافر للطاعة ، ونحو ذلك ممّن كان محكوماً بالتمام لانتفاء شرط من شرائط القصر ثمّ اتفق حصوله ، كمن كان مكارياً وفي أثناء الطريق عزم على السفر لغاية اُخرى كالزيارة مثلاً ، ففي جميع ذلك لا يعتبر حدّ الترخص قطعاً ، ولم ينقل القول به عن أحد ، بل يقصّر من مكانه ومن لدن حصول شرطه .
وعلى الجملة : لا إطلاق للرواية ، وعلى تقديره لا يمكن الأخذ به ، بل هي خاصّة بمن خرج من بلده ووطنه . فلا تشمل الخروج من محلِّ الإقامة كما عرفت .
ثالثها : صحيحة ابن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «سألته عن
ــ[214]ــ
التقصير قال : إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتمّ ، وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصّر ، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك» (1) فاستدلّ باطلاقها كالرواية المتقدّمة .
وهو أيضاً ممنوع ، لعدم الإطلاق لها في نفسها ، بل هي ناظرة مثل الرواية المتقدّمة إلى أوّل الشروع في السفر وابتداء التلبّس به ، لا من كان محكوماً به قبل ذلك . فتختصّ لا محالة بالخروج من الوطن .
بل هذه أولى بمنع الإطلاق ، بقرينة قوله (عليه السلام) في ذيلها: «وإذا قدمت من سـفرك فمثل ذلك» فانّه يجعلها كالصريح في كون الصدر ناظراً إلى ابتداء الشروع في السفر، لعدم كون العود إلى محلّ الإقامة قدوماً من السفر، بل القدوم منه بالدخول في الوطن، فيكون مورد الصدر الخروج منه فقط ، فلا تعمّ الخروج من محلّ الإقامة جزماً .
وأمّا صحيحة ابن مسلم المتقدّمة (2) فقد عرفت أ نّها أوضح في عدم الدلالة على الإطلاق ، لكونها سؤالاً عمن يريد السفر ، فهي ناظرة إلى الحاضر الذي يريد إحداث السفر وإنشاءه ، فأجاب (عليه السلام) بأ نّه لا يقصر إلاّ مع تواري البيوت . فهي أجنبية عمّن كان مسافراً وقد قصد الإقامة .
وعلى الجملة : فشيء من هذه الروايات لا تدلّ بوجه على اعتبار حدّ الترخّص في محلّ الإقامة .
نعم ، الذي يمكن أن يستدلّ به على ذلك ما ورد من أنّ المقيم عشرة بمكّة بمنزلة أهلها، وهي صحيحة زرارة «قال : مَن قدم قبل التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة ، وهو بمنزلة أهل مكّة» (3) فيدعى أنّ عموم التنزيل يقتضي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 8 : 472 / أبواب صلاة المسافر ب 6 ح 3 .
(2) الوسائل 8 : 470 / أبواب صلاة المسافر ب 6 ح 1 ، وقد تقدّمت في ص 211 .
(3) الوسائل 8 : 464 / أبواب صلاة المسافر ب 3 ح 3 .
ــ[215]ــ
شـمول جميع أحكام الوطن وجريانها على المقيم عشرة ، التي منها اعتبار حدّ الترخّص .
ولكن قد مرّ الكلام حول هذه الصحيحة سابقاً (1) ، وقلنا إنّها مهجورة لا يمكن العمل بها حتّى في موردها وهو مكّة فضلاً عن التعدِّي إلى غيرها، لتضمّنها ما لم يقل به أحد من الأصحاب ، حيث حكم (عليه السلام) أوّلاً بالتقصير إذا خرج إلى منى ، وهذا ظاهر ، لكونه قاصداً لعرفات التي هي مسافة شرعية ، وأمّا حكمه (عليه السلام) بالتمام لدى عوده إلى مكة وكذا في رجوعه إلى منى حتّى ينفر ، الذي هو بمقدار فرسخ فلم ينقل القول به عن أحد ، إذ بعد السفر عن مكّة يسقط حكم الإقامة ، لما عرفت من أنّ الفصل بين مكّة ومنى فرسخ واحد ، ومحلّ الإقامة إنّما يكون بمنزلة مكّة ما دام مقيماً لا بعد الخروج وإنشاء السفر ثمّ العود إليه . فالرواية مهجورة .
وعلى تقدير العمـل بها لكونها صحيحة يقـتصر على موردها وهو مكّة فيلتزم بأنّ المقيم فيها بمنزلة أهلها من جميع الجهات ، فبأي دليل يتعدّى عنها إلى غيرها ، ولا بدّ في الحكم المخالف لمقتضى القاعدة من الاقتصار على مورد النص .
فالمتحصّل من جميع ما ذكرناه : أ نّه ليس لدينا أيّ دليل يدلّ على اعتبار حدّ الترخّص في محلّ الإقامة كي يرتكب التخصيص في أدلّة القصر ، لاختصاص الأدلّة من صحيح ابن مسلم وغيره بمن ينشئ السفر ، الذي هو خاص بالوطن فيرجع فيما عداه إلى عمومات القصر على كلّ مسافر ، الصادق بمجرّد الخروج من محلّ الإقامة وإن لم يبلغ حدّ الترخّص . هذا كلّه في الخروج من محلّ الإقامة . ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 91 .
|