الوطن الشرعي \ اعتبار الإقامة ستّة أشهر في منزله في تحقّق الوطن الشرعي 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء العاشر:الصلاة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 5371


ــ[242]ــ

   وعليه فالطائفة الاُولى لو لم يمكن تقييدها بما سيجيء من إقامة ستة أشهر ـ  كما سمعت  ـ إمّا محمولة على التقيّة أو مطروحة بعد الابتلاء بالمعارض والمخالفة مع السنّة القطعية، وهي الروايات المتواترة الدالّة على وجوب القصر لكلّ مسافر كما عرفت .

   ومن ذلك يظهر الحال في موثّقة عمار التي جعل فيها المدار على مطلق الملك وإن لم يكن قابلاً للسكنى كنخلة واحدة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) : «في الرجل يخرج في سفر فيمرّ بقرية له أو دار فينزل فيها ، قال : يتم الصلاة ولو لم يكن له إلاّ نخلة واحدة ، ولا يقصّر ، وليصم إذا حضره الصوم وهو فيها» (1) .

   فاتّضح من جميع ما ذكرناه لحد الآن أ نّه إذا أعرض عن وطنه ولم يكن فيه ملك أصلاً ، أو كان ولم يكن قابلاً للسكنى ، أو كان ولكن لم يسكن فيه ستة أشهر لم يثبت التمـام في شيء من ذلك ، عملاً باطلاقات التقصير السليمة عما يصلح للتخصيص .

   إنّما الكلام في صورة واحدة حكم المشهور فيها بالإتمام حتّى بعد الإعراض وأسموها بالوطن الشرعي ، وهي ما لو كان له ملك قد سكنه ستة أشهر بقصد التوطّن الأبدي ، فانّه يتم كلّما دخله وإن لم يقم عشرة أيام ما دام الملك باقياً .

   ويستدلّ له بصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : «سألته عن الرجل يقصّر في ضيعته ، فقال : لا بأس ما لم ينو مقام عشرة أيام ، إلاّ أن يكون له فيها منزل يستوطنه ، فقلت : ما الاستيطان ؟ فقال : أن يكون فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر ، فاذا كان كذلك يتم فيها متى دخلها» (2) .

   وهذه الصحيحة هي عمدة مستند المشهور، حيث تضمّنت تفسير الاستيطان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 8 : 493 /  أبواب صلاة المسافر ب 14 ح 5 .

(2) الوسائل 8 : 494 /  أبواب صلاة المسافر ب 14 ح 11 .

ــ[243]ــ

بأن يكون له منزل يقيم فيه ستة أشهر .

   وأورد على هذا الاستدلال غير واحد من الأعاظم منهم المحقّق الهمداني (قدس سره) (1) فأنكروا دلالة الصحيحة على الوطن الشرعي ، بل هي ناظرة إلى الوطن العـرفي ، وأ نّه يجوز أن يكون الشخص ذا وطنـين ، بأن يبني على الإقامة في محلّ من قرية أو ضيعة ستة أشهر في كلّ سنة ، وبذلك يصبح هذا المحل وطنه العرفي في قبال الوطن الأصلي، فهي مسوقة لبيان كيفية اتخاذ المتوطّن وطناً ثانياً مستجداً ، وأنّ الوطن كما يكون بالأصل يمكن أن يكون بالاتخـاذ والجعل ، الذي يتحقّق بالإقامة في كلّ سنة ستّة أشهر . فلا دلالة لها على وطن آخر غير العرفي .

   وقرّبوا ذلك بأ نّا لو فرضنا أن ابن بزيع لم يسأل ثانياً عن الاستيطان لكان الإمام (عليه السلام) يقتصر بطبيعة الحال على الجواب الأوّل الذي هو ظاهر في الاسـتيطان العرفي ، ولم يكن أمراً مجهولاً لا لابن بزيع ولا لغـيره من أهل العرف ، غير أ نّه من باب الاتفاق استوضحه ثانياً . فلو كان المراد معنى آخر غير العرفي لكان الجواب مشتملاً على نوع من الإجمال والإبهام غير المناسب لمقام الإمام (عليه السلام) .

   ويؤيّده : التعبير بصيغة المضارع في المفسَّر والمفسِّر ، أعني قوله : «يستوطنه» وقـوله (عليه السلام) : «يقيم» الظاهر في الدوام والاسـتمرار والتلبّس بالحـال بأن تكون الإقامة والاستيطان ستّة أشهر مستمرّة في كلّ سنة كما قيّده بذلك الصدوق في الفقيه(2) الذي لا ينطبق إلاّ على المعنى العرفي .

   فلو كان المراد الوطن الشرعي بأن يناط الإتمام متى دخل بإقامة الأشهر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الفقيه (الصلاة) : 739 السطر 13 .

(2) الفقيه 1 : 287  ذيل ح 1309 .

ــ[244]ــ

الستّة المنقضية وإن أعرض عنها كما يزعمه المشهور كان اللاّزم التعبير بصيغة الماضي ، بأن يقال : استوطنه وأقام فيه ، دون المضارع كما لا يخفى .

   هكذا أورده جماعة من المحقّقين ومنهم المحقّق الهمداني (قدس سره) مصرّاً عليه .

   أقول :  الظاهر أنّ ما فهمه المشهور من دلالة الصحيحة على ثبوت الوطن الشرعي هو الصحيح ، وأنّ الإمام (عليه السلام) بصدد بيان معنى آخر للوطن غير العرفي . ولو فرضنا أنّ ابن بزيع لم يسأل لكان عليه (عليه السلام) البيان والتوضيح ، وقد التفت ابن بزيع إلى أ نّه معنى آخر ولذلك سأل واستوضح .

   بيان ذلك : أنّ الإمام (عليه السلام) لما أجاب أوّلاً بقوله : «لا بأس ما لم ينو مقام عشرة أيام» استثنى من ذلك بقوله (عليه السلام) : «إلاّ أن يكون له ـ أي لصاحب الضّيعة ـ  فيها  ـ  أي في الضّيعة ـ منزل يستوطنه» أي يستوطن المنزل على ما يقتضيه تذكير الضمير .

   وهذا ـ أعني استيطان المنزل ـ أمر لا يعرفه أهل العرف ، ولم يكن معهوداً عند ابن بزيع ولا عند غيره ، ضرورة أنّ المتعارف من مفهوم الاستيطان لدى الإطلاق إنّما هو استيطان البلد أو القرية أو الضيعة لا استيطان المنزل ، إذ لا يتوقّف التوطّن بحسب مفهـومه العرفي على وجود منزل للمتوطّن فضلاً عن الإقامة فيه . فلو فرضنا أنّ شخصاً لم يكن له منزل أصلاً بل يعيش في الطرق والشوارع العامّة ، أو يكون ضيفاً أو كَلاً على غيره في بلدة طيلة حياته لا شكّ أنّ ذاك البلد وطنه ومسكنه .

   ولأجل هذه الجهـة ـ والله العالم ـ التفت ابن بزيـع إلى أ نّه (عليه السلام) بصدد بيان معنى آخر للوطن ، فسأله متعجّباً بقوله : «ما الاستيطان» نظراً إلى أنّ وجود المنزل غير لازم في الوطن العرفي جزماً، وعلى تقديره لا تعتبر الإقامة

ــ[245]ــ

فيه قطعاً ، وقد اعتبر الإمام (عليه السلام) كلا الأمرين بمقتضى لام التمليك في قوله (عليه السلام): «إلاّ أن يكون له...» إلخ وتذكير الضمير في قوله: «يستوطنه» فلأجل ذلك احتاج إلى السـؤال والاسـتيضاح ، لعدم كون الوطن بهذا المعنى معهـوداً عنده ولا عند غيره من أهل العرف والمحاورة كما عرفت .

   ففسّر (عليه السلام) مراده من الاستيطان وأوضحه بقوله (عليه السلام) : «أن يكون فيها ـ أي في الضيعة ـ منزل يقيم فيه ـ أي في المنزل ـ ستّة أشهر» وأ نّه متى تحقّق ذلك يتم فيها ـ أي في الضيعة ـ متى دخلها وإن لم يدخل منزله .

   ولأجل ذلك جعل الضمير في قوله (عليه السلام) : «يقيم فيه» مذكراً ، وفي قوله (عليه السلام) : «يتم فيها» مؤنثاً ، إيعازاً إلى أنّ الاستيطان والإقامة في المنزل ستّة أشهر موضوع للتمام متى دخل الضيعة وإن لم يدخل منزله ، وبذلك تصبح تلك الضيعة وطنه الشرعي ، وهذا كما ترى معنى آخر للوطن غير العرفي إذ العرفي منه لا يتوقّف على المنزل فضلاً عن السكنى فيه .

   ويؤيّده بل يؤكّده ويعيّنه التقييد بستّة أشهر ، ضرورة أنّ هذا غير معتبر في صدق العنوان العرفي ، لتحقّقه بما دون ذلك جزماً كما لو كان له منازل فأقام في كلّ منها في كلّ سنة ثلاثة أشهر أو أربعة ، فانّه لا إشكال في أنّ جميع ذلك أوطان له ، فلو كان (عليه السلام) بصدد بيان الوطن العرفي كان اللازم التنبيه على الفرد الخفي ، أعني إقامة أربعة أشهر أو ثلاثة فانّه المحتاج إلى البيان ، دون الستّة التي هي من أوضح أنحائه وأظهر أفراده من غير حاجة إلى بيانه .

   فالتقييد المزبور كاشف قطعي عن كونه (عليه السلام) بصدد بيان معنى آخر مغاير للوطن العرفي ، وهو ما كان مشتملاً على الملك أوّلاً ، وعلى السكونة فيه ثانياً ، وأن تكون السكونة ستّة أشهر ثالثاً ، وبذلك يتحقّق الوطن الشرعي .

   وملخّص الكلام في المقام : أنّ الإمام (عليه السلام) علّق الحكم بالإتمام على

ــ[246]ــ

استجماع قيود ثلاثة ، لا يعتبر شيء منها في صدق الوطن العرفي ، وهي الإقامة ستّة أشهر، وأن تكون في المنزل كما يقتضيه تذكير الضمير في «يستوطنه» ، وأن يكون المنزل ملكاً له كما يقتضيه لام التمليك في قوله (عليه السلام) : «إلاّ أن يكون له ... » إلخ .

   وبما أنّ من الواضح أنّ الوطن العرفي الاتخاذي لا يكون منوطاً بشيء من ذلك ، لجواز اتخاذ مواطن عديدة شتائية وصيفية وربيعية وخريفية يقيم في كلّ منها في كلّ سنة ثلاثة أشهر ، كجواز التوطّن في بلد لا ملك له فيه أصلاً فضلاً عن السكونة فيه ، فلا يكون المذكور في الصحيحة منطبقاً على الوطن العرفي بوجه .

   وقد عرفت وجه اسـتفسار ابن بزيع والنكتة الباعثة لاسـتيضاحه وأ نّها الاستغراب الناشئ من تقييد الاستيطان بالمنزل، الذي هو أمر لم يتعاهده العرف من معنى الوطن لا ابن بزيع ولا غيره ، وأ نّه كان عليه (عليه السلام) التفسير والبيان وإن لم يسأل معناه ، لكونه مجهولاً عند أهل العرف كما عرفت .

   ومن المعلوم أنّ تفسيره (عليه السلام) راجع إلى مادة الاستيطان ، وإلاّ فهيئة الاستفعال التي هي بمعنى الاتخاذ واضح لا يحتاج إلى السؤال، ففسّر (عليه السلام) نفس الوطن ، وأ نّه عبارة عن الإقامة ستّة أشهر في المنزل المملوك له ، وأ نّه بذلك تصبح القرية أو الضيعة أو البلد وطنه الشرعي ، المحكوم بلزوم الإتمام متى دخل ، فتدلّ الصحيحة على مذهب المشهور بوضوح .

   ومنه تعرف أنّ الاتخاذ والقصد ممّا لابدّ منه ، رعاية لهيئة الاستفعال ، ومتعلّقه الإقامة ستّة أشهر كما يقتضيه رجوع التفسير إلى المادة حسبما ذكرناه .

   وأمّا تعبير الإمـام (عليه السلام) بصيغة المضارع في قوله (عليه السلام) : «يستوطنه» وقوله (عليه السلام) : «يقيم» فالظاهر أنّ الوجه فيه المفروغية عن

ــ[247]ــ

أنّ هذا السائل لم يكن ساكناً في تلك الضيعة قبل ذلك ، فأراد (عليه السلام) بيان قضية حقيقية والتعرّض لحكم كلّي ، وأنّ صاحب الضيعة لا يتم فيها إذا لم يقصد الإقامة فيها عشرة أيام إلاّ بعد أن يقيم ستّة أشهر ، فاذا انقضت تلك المدّة أتمّ متى دخل ، ولذا عبّر بصيغة الماضي بعد ذلك بقوله : «فاذا كان كذلك يتم فيها متى دخلها» .

   إذ من الواضح أ نّه لا يحتمل أن يتم فعلاً إذا كان يقيم ستّة أشهر فيما بعد بحيث تكون الإقامة اللاحقة مناطاً للإتمام الفعلي ، بل لا بدّ من انقضاء تلك المدّة ثمّ بعدئذ يحكم بالإتمام . فالتعبير بالمضارع من أجل أنّ تلك الإقامة في الأشهر الستّة لم تكن مفروضة ومتحقّقة قبل ذلك ، فأراد (عليه السلام) بيان أ نّه إذا كان كذلك فيما بعد يتوجّه إليه الخطاب بالإتمام متى دخل .

   وعلى الجملة : لا ينبغي التأمّل في عدم دلالة المضارع على الاستمرار في المقام لعدم اعتبار شيء من القيود الثلاثة المتقدّمة في الوطن العرفي حسبما عرفت .

   وما أشبه المقام بالاستفتاء من الفقيه والإجابة عنه بالصورة التالية : امرأة في دارنا لها زوج ولها ابنة صغيرة ، وإنّني مبتلى بالنظر إلى شيء من بدنها أو لمسه بغير شهوة ، قال : ليس لك ذلك ، إلاّ أن تعقد على ابنتها ، قلت : وما العقد على ابنتها ، قال : تتزوجها ولو ساعة ، فاذا كان ذلك جاز لك النظر واللمس بغير شهوة متى شئت .

   فانّ من الواضح الجلي عدم إرادة الاسـتمرار والتوالي في العقد والتزويج وإن عبّر عنهما بصيغة المضارع .

   على أنّ في دلالة هذه الصـيغة بمجرّدها على التجدّد والاستمرار نوعاً من التأمّل وإن اشتهرت على الألسن، وربّ شهرة لا أصل لها . وهل يحتمل التجدّد في

ــ[248]ــ

المثال المزبور، أو في مثل قوله تعالى : (فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا ) الآية (1) فتدبّر جيداً هذا .

   ويؤكّد ما ذكرناه ، بل يعيّنه التعبير بصيغة الماضي في صحيحة سعد بن أبي خلف قال : «سأل علي بن يقطـين أبا الحسن الأوّل (عليه السلام) عن الدار تكون للرجل بمصر والضيعة فيمرّ بها، قال: إن كان ممّا قد سكنه أتم فيه الصلاة وإن كان ممّا لم يسكنه فليقصّر» (2) .

   حيث علّق (عليه السلام) الحكم بالتمام على ما إذا سكنه سابقاً وإن أعرض عنه ، غايته أ نّها مطلقة من حيث تحديد السكونة بسـتّة أشهر وأن تكون في منزله المملوك ، فيقيّد بكلا الأمرين بمقتضى صحيحة ابن بزيع .

   وكيف ما كان ، فلا ينبغي التأمل في دلالة الصحيحة بوضوح على ثبوت الوطن الشرعي كما يقوله المشهور ، ويتحقّق بوجود منزل مملوك له في محلّ قد سكنه سـتّة أشهر عن قصد ونيّة كما تقتضيه هيئة الاستيطان ، باعتبـار دلالة الاستفعال على الاتخاذ المتقوّم بالقصد ، فاذا تحقّق ذلك أتمّ المسافر صلاته كلّما دخله إلى أن يزول ملكه .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البقرة 2 : 230 .

(2) الوسائل 8 : 494 /  أبواب صلاة المسافر ب 14 ح 9 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net