فان قلنا بأنّ استصحاب عدم كلّ منهما إلى زمان الآخر يجري ويسقط الاستصحابان بالمعارضة كما عليه القوم في باب الحادثين المتعاقبين ، لم يكن أيّ مناص من إعادة الظهر قصراً ، والجمع بين القصر والتمام في العصر وفي بقية الصلوات الآتية، قضاءً لقاعدة الاشتغال ـ كما عرفت ـ بعد عدم السبيل لإحراز موضوع القصر أو التمام بأصل أو غيره ، وعدم جواز الرجوع إلى قاعدة الفراغ من أجل الابتلاء بالمعارض .
وأمّا إذا بنينا على عدم المعارضة في أمثال المقام كما لا يبعد على ما أشرنا إليه في بحث الخيارات من المكاسب (1) ، وأنّ الجاري فيما نحن فيه هو خصوص أصالة عدم العدول إلى زمان الإتيان بالصلاة التامة دون العكس ، بقي حينئذ على التمام في الصلوات الآتية ، وبنى على صحّة السابقة .
وتوضيحه : أنّ موضوع الحكم بالبقاء على التمام على ما يستفاد من صدر صحيحة أبي ولاد (2) هو كونه ناوياً للإقامة وآتياً بصلاة تامة ، فهو مركّب من ذات هذين الجزأين ، أي الإتيان بالصلاة في زمان يكون ناوياً للإقامة في ذلك الزمان ، من غير دخل شيء آخر وراء ذلك من وصف الاقتران أو الاجتماع أو الانضمام ونحوها من العـناوين البسيطة ، وأحد الجزأين محرز بالوجـدان وهو
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الفقاهة 7 : 228 وما بعدها .
(2) المتقدمة في ص 284 .
ــ[323]ــ
الإتيان بالصلاة التامّة ، فاذا أجرينا أصالة عدم العدول عن نيّة الإقامة إلى زمان الإتيان بالصلاة فقد أحرزنا جزأي الموضوع بضمّ الوجدان إلى الأصل ونتيجته الحكم بالبقاء على التمام ، وبصحّة الصلاة السابقة من غير حاجة إلى قاعدة الفراغ .
ولا يعارض الأصل المزبور بأصالة عدم وقوع الصلاة تماماً حال العزم على الإقامة ، أي إلى زمان العدول كما ذكره في المتن ، لعدم ترتّب الأثر ، إذ لا يثبت بها وقوع هذه الصلاة بعد العدول إلاّ على القول بالأصل المثبت .
فهذا الأصل بنفسه لا أثر له إلاّ بضميمة الإثبات ، الذي لا نقول به ، لعدم كونه متعرّضاً لحال الشخص وناظراً إليه ، بخلاف الأصل المتقدّم ، فانّه ينظر إليه ويتكفّل للبقاء على نيّة الإقامة وعدم العدول عنها إلى زمان الإتيان بشخص هذه الصلاة . وبذلك يتنقّح الموضوع المركّب بضمّ الوجدان إلى الأصل ، الذي نتيجته البقاء على التمام كما عرفت .
وبعبارة واضحة : بعد فرض أ نّه لم يؤخـذ في موضوع الحكم غير تحقّق الصلاة التامة والبقاء على العزم على الإقامة ، فاذا حكم الشارع بالبقاء على العزم بمقتضى الاستصحاب وعلمنا بتحقّق الصلاة خارجاً لم يبق لنا بعد هذا شكّ في تحقّق موضوع الحكم ، فلا مجال لإجراء أصالة عدم تحقّق الصلاة حال العزم على الإقامة كي تتحقّق المعارضة .
ولهذه المسألة نظائر كثيرة ، وفروع عديدة ، بل هي سيالة في كلّ مورد كان موضوع الحكم أو متعلّقه مركّباً من جزأين وقد علمنا بتحقّق أحدهما ، ثمّ علمـنا بتحقّق الجزء الآخر وارتفاع الجزء الأوّل وشـككنا في المتقدِّم منهما والمتأخِّر كما لو علمنا بالفسخ وبانقضاء زمان الخيار الأصلي أو الجعلي، أو علمنا برجوع الزّوج وبانقضـاء زمان العدّة ، أو بوقوع الصلاة من المتطهِّر وبصدور
ــ[324]ــ
الحدث منه ، وشكّ في المتقدّم من هذه الاُمور والمتأخّر ، ونحو ذلك من الأمثلة فانّه يجري فيه الكلام المتقدّم بعينه .
فنقول : إنّ الفسخ أو الرجوع أو الصلاة محرز بالوجدان ، وبقاء الخيار أو العدّة أو الطهارة محرز بالتعبّد الشرعي بمقتضى الاستصحاب الجاري في مواردها وبعد ضمّ الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركّب بجزأيه ، فيثبت أنّ الفسخ الشخصي الصادر منه وكذا الرجوع قد وقع في زمان حكم الشارع فيه ببقاء الخيار أو ببقاء العدّة ، فهو واقع في ظرفه وصادر من أهله في محلّه ، فيترتّب عليه انحلال العقد المنوط بوقوع الفسخ وبقاء الخيار ، أو عود العلقة الزوجية المترتّب على الرجوع وبقاء العدّة ، أو براءة الذمّة عن الصلاة الصحيحة المتوقّفة على الإتيان بها حال الطهارة، وهكذا الحال في سائر الأمثلة .
ولا يعارض الاستصحاب المزبور بأصالة عدم وقوع الفسخ في زمان الخيار أو عدم وقوع الرجوع في زمان العدّة ، أو عدم وقوع الصلاة حال الطهارة ، إذ لا يثبت بها أنّ هذا الفسخ الشخصي أو الرجـوع أو الصلاة وقع بعد انقضاء زمان الخـيار أو زمان العدّة أو زوال الطهارة . فلا يترتّب عليه الأثر إلاّ على القول بالأصل المثبت .
وبعبارة اُخرى : الاسـتصحاب الأوّل رافع للشكّ بمقتضى التعبّد الشرعي ومنقّح للموضوع بعد ضمّه إلى الجزء الآخر المحرز بالوجدان ، فلا يبقى معه شكّ في تحقّق الموضوع كي يكون مجال لإجراء الاستصحاب الثاني الراجع في الحقيقة إلى نفي الموضوع المركّب من المقيّد وقيده .
والسرّ فيه : أنّ المجموع المركّب من المقيّد والقيد وإن كان مشكوكاً فيه وجداناً فمثلاً وقوع الصلاة التامة حال العزم على الإقامة كما فيما نحن فيه مشكوك فيه بالضرورة ، إلاّ أنّ الشكّ لدى التحليل يرجع إلى نفس القيد ، أعني البقاء على
ــ[325]ــ
عزم الإقامة ، وإلاّ فذات المقيّد أي الصلاة التامة محرزة بالوجدان ، فلا معنى لأصالة عدمها .
فالشك في المقيّد بما هو مقيّد ـ الحاصل في المقام ـ وإن كان في حدّ نفسه يتصوّر على نحوين : تارة من أجل الشكّ في ذات المقيّد ، واُخرى في حصول قيده ، إلاّ أ نّه في المقام وأمثاله متمحّض في الثاني ، فيشكّ في كيفية الوجود لا في أصله ، وأنّ الصلاة الواقعة وجداناً هل كانت قبل العدول عن عزم الإقامة أو بعده ، والمفروض أنّ الاستصحاب الأوّل أثبت البقاء على عزم الإقامة ، المنتج بعد ضمّ الوجدان وقوع الصلاة التامة في زمان كان العزم على الإقامة باقياً على حاله . فلا شك في كيفية الوجود وخصوصيته حتّى تصل النوبة إلى إجراء الاستصحاب الثاني .
وعلى الجملة : ذات المقيّد من حيث هو كالصلاة التامة فيما نحن فيه لا شكّ فيه كي يستصحب عدمه ، والمقيّد بما هو مقيّد وإن كان مشكوكاً فيه إلاّ أ نّه لا أثر له ، لعدم كونه موضوعاً للحكم ، بل الموضوع ذات الجزأين كما عرفت . فلم يبق في البين إلاّ الشكّ في نفس القيد ، وهو محرز ببركة الاستصحاب .
وهذا هو السرّ في حلّ المعارضة المتوهّمة في هذه الاستصحابات ، ولولا ذلك لم يجر الاسـتصحاب لإحـراز الجزء أو الشرط في باب المركّـبات من الموضوعات أو المتعلّقات حتّى مع الشكّ وعدم العلم بارتفاع أحد الحـادثين فلا تجوز الصلاة مع الطهارة المستصحبة ، لمعارضتها بأصالة عدم تحقّق الصلاة في زمان الطهارة ، فانّ هذه المعارضة لو تمت لعمّت وجرت في جميع موارد هذه الاستصحابات حتّى المنصوصة منها كهذا المثال ، فتسقط بأسرها ، وهو كما ترى .
وحلّه ما عرفت من أنّ المقيّد بوصف كونه مقيداً وإن كان مشكوكاً فيه إلاّ أ نّه لا أثر له ، وإنّما المأمور به ذات الصلاة وأن تقع في زمان يكون المكلّف
ــ[326]ــ
متطهّراً في ذلك الزمان ، وكلا الجـزأين محرزان حسبما عرفت . ففي كلّ مورد أحرزنا الموضوع المركّب بضمّ الوجـدان إلى الأصل لا يجري فيه استصحاب عدم تحقّق المركّب .
والمقام من صغريات هذه الكبرى ، فانّ الموضوع للبقاء على التمام الإتيان بذات الصلاة التامة وكونه باقياً على عزم الإقامة ، وكلا الأمرين محرزان بضمّ الوجدان إلى الأصل حسبما بيّناه . ولأجله أشرنا في التعليقة أ نّه لا يبعد الحكم بالبقاء على التمام . هذا كلّه فيما لو كان الشكّ في الوقت .
|