ــ[5]ــ
ومن أفطر فيه لا مستحلاًّ عالماً عامداً (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد تقدّم في كتاب الطهارة (1) عند البحث عن الكفر والإسلام : أنّ إنكار الضروريّ بمجرّده ومن حيث هو لا يستوجب الكفر ، وإنّما يستوجبه من حيث رجوعه إلى تكذيب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، المؤدّي إلى إنكار الرسالة ، وهو يختصّ بما إذا كان المنكر عالماً بالحكم وبضروريّته ، فلا يحكم بكفر الجاهل بأحدهما ، لكونه جديد العهد بالإسلام ، أو نحوه ممّن ليس له مزيد اطّلاع بالأحكام . وعليه، فيعتبر في الحكم بالارتداد صدور الإنكار ممّن يعلم بضروريّة الحكم ، وحينئذ فإن كان فطرياً يُقتَل ، وإن كان ملّياً يُستتاب ، فإن تاب وإلاّ يُقتَل إن كان رجـلا ، أمّا المرأة فلا تُقتَل أصلا ، بل تُحبَـس ويُضـيَّق عليها في المأكل والمشرب وتعزَّر عند أوقات الصلاة إلى أن يقضي الله عليها .
(1) هذا في قبال المنكر المستحلّ المتقدّم بيان حكمه آنفاً .
ثمّ إنّ المفطر غير المستحلّ تارةً : يكون معذوراً كالمريض والمسافر ، واُخرى غير معذور كالفسّاق ، وثالثةً مشتبه الحال .
أمّا الأوّل : فلا إشكال فيه .
وأمّا الأخير ـ الذي هو مردّد بين المعذور وغيره ـ : فلا يجري عليه شيء ، لما هو المعلوم من الشرع من أ نّه لا يقام الحدّ بمجردّ الاحتمال ، وقد اشتهر أنّ الحدود تُدرأ بالشبهات ، وهذه الجملة وإن لم ترد في شيء من الروايات ما عدا رواية مرسلة ولفظها هكذا : «الحدّ يدرأ بالشبهة»(2) ، ولكن الحكم متسالمٌ عليه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع شرح العروة 3 : 54 ـ 55 .
(2) لاحظ الوسائل 28 : 47 / أبواب مقدّمات الحدود ب 24 ح 4 و ص 130 / أبواب حدّ الزنا ب 27 ح 11 .
ــ[6]ــ
بينهم، إذ من المعلوم من الشرع أ نّه ليس بناء الإسلام على إجراء الحدّ في موارد الشبهة ، كما يظهر ذلك بملاحظة الموارد المتفرّقة التي منها مورد صحيحة بريد العجلي الآتية المتضمّنة للسؤال عن موجب الإفطار ، فإنّها تدلّ على أ نّه لو ادّعى شبهةً يُقبَل قوله ويُدرأ عنه الحدّ أو التعزير ، وإلاّ فما هي فائدة السؤال ؟!
إنّما الكلام في غير المعذور ممّن يفطر عصياناً ، فقد ذكر في المتن : أ نّه يعزَّر بخمسة وعشرين سوطاً، فإن عاد عُزِّر ثانياً، وإن عاد قُتِل في الثالثة ، والأحوط في الرابعة من أجل الاحتياط في باب الدماء .
أقول : أمّا أصل التعزير فقد دلّت عليه صحيحة بريد العـجلي ، قال : سُئل أبو جعفر (عليه السلام) عن رجل شهد عليه شهود أ نّه أفطر من شهر رمضان ثلاثـة أيام «قال : يُسأل هل عليك في إفـطارك إثم ؟ فإن قال : لا ، فإنّ على الإمام أن يقتله ، وإن قال : نعم ، فإنّ على الإمام أن ينهكه ضرباً»(1) .
وأمّا التحديد بخمسة وعشرين سوطاً فلم يرد إلاّ في رواية مفضّل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في رجل أتى امرأته وهو صائم وهي صائمة «فقال عليه السلام : إن كان استكرهها فعليه كفّارتان ، وإن كانت طاوعته فعليه كفّارة وعليها كفّارة ، وإن كان أكرهها فعليه ضرب خمسين سوطاً نصف الحدّ ، وإن كان طاوعـته ضُرِب خمسة وعشرين سـوطاً وضُرِبت خمسـة وعشرين سوطاً»(2) .
ولكن موردها الجماع ، ولا دليل على التعدّي إلى سائر المفطرات ، على أنّها ضعيفة السند من جهات ولا أقلّ من جهة مفضّل الذي هو ثابت الضعف ، من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10 : 248 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 2 ح 1 .
(2) الوسائل 10 : 56 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 12 ح 1 .
ــ[7]ــ
يعـزَّر بخمسة وعشرين سوطاً ((1)) ، فإن عاد عُزِّر ثانياً ، فإن عاد قُتِل على الأقوى (1) ، وإن كان الأحوط قتله في الرابعة ((2)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أجل تضعيف النجاشي وغيره إيّاه صريحاً (3) .
نعم، قد عمل بها المشهور. فإن قلنا: إنّ الرواية الضعيفة تنجبر بعمل المشهور فلا بأس بالعمل بها في موردها ، وإن أنكرنا هذه الكبرى ـ كما هو المعلوم من مسلكنا ـ فالرواية ساقطة .
إذن لا دليل على تحديد التعزير بخمسة وعشرين ، بل هو موكول إلى نظر الإمام ، فله التعزير كيفما شاء ما لم يبلغ حدّ الحدّ الشرعي .
ثمّ إنّ التعزير كما هو ثابت في المرّة الاُولى ثابتٌ في المرّة الثانية أيضاً ، بمقتضى إطلاق الدليل ، أعني : صحيح بريد المتقدّم .
(1) قد عرفت ثبوت التعزير في المرّتين الاُوليين .
وأمّا في الثالثة فيجب قتله كما عليه المشهور .
وقد دلّت عليه صريحاً موثّقة سماعة ، قال : سألته عن رجل أخذ في شهر رمضان وقد أفطر ثلاث مرّات وقد رُفِع إلى الإمام ثلاث مرّات «قال : يُقتَل في الثالثة»(4) .
ويدل عليه أيضاً عموم صحيح يونس عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) «قال : أصحاب الكبائر كلّها إذا اُقيم عليهم الحدّ مرّتين قُتِلو في الثالثة»(5) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لم يثبت التقدير بحدٍّ خاص إلاّ في رواية ضعيفة في خصوص الجماع .
(2) في كونه أحوط إشكال بل منع .
(3) رجال النجاشي : 416 / 1112 .
(4) الوسائل 10 : 249 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 2 ح 2 .
(5) الوسائل 28 :19 / أبواب مقدّمات الحدود ب 5 ح 1 .
ــ[8]ــ
وإنّما يُقتَل في الثالثة أو الرابعة إذا عُزِّر في كلٍّ من المرّتين أو الثلاث (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومورده وإن كان هو الحدّ ، إلاّ أ نّه لا خصوصيّة له ، إذ يُفهَم منه عرفاً أنّ من اُجري عليه حكم الله مرّتين ـ سواء أكان هو الحدّ أم التعزير ـ يُقتَل في الثالثة .
فبمقتضى الموثّقة الواردة في خصوص المقام والصحيحة الواردة في مطلق الكبائر يُحكَم بوجوب القتل في المرّة الثالثة ، إمّا من بعد التعزيرين أو من بعد الحدّين حسب اختلاف الموارد .
وأمّا ما ذكره في المتن من أنّ الأحوط قتله في الرابعة فلا وجه له بعد نهوض الدليل على وجوب القتل في الثالثة كما عرفت ، ولا تعطيل في حدود الله ، فلا سبيل للاحتياط وإن كان مورده الدماء .
نعم ، روى الشـيخ في المبسوط مرسـلا : «إنّ أصحاب الكبائر يُقتَـلون في الرابعة» (1) .
ولكن المرسـل ليس بحجّـة ، ولا سيّما مع عدم الجـابر ، على أ نّه معـارَضٌ بالصحيح المتقدّم وفي خصوص المقام بالموثّق كما سبق ، فلا ينهض للمقاومة معهما .
(1) فلا يجزئ مجرّد الارتكاب الخارجي بلغ عدده ما بلغ ما لم يُرفع الأمر إلى الإمام مرّتين ويجري عليه التعزير في كلٍّ منهما، فحينئذ يُحكم بالقتل في الرفع الثالث ، كما دلّت عليه موثقة سماعة المتقدّمة ، حيث حكم فيها بالقتل في الثالثة من الرفع لا من مجرّد الإفطار ، وكما تدلّ عليه أيضاً صحيحة بريد المتقدّمة ،
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المبسوط 7 : 284 .
ــ[9]ــ
وإذا ادّعى شبهةً محتملةً في حقّه دُرِئ عنه الحدّ (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حيث إنّ المفروض فيها الإفطار ثلاثة أيام ، فقد حصل منه الإفطار ثلاث مرات على الأقل كلّ يوم مرّة ، ولو فرض أكثر زاد عليه بكـثير ، ومع ذلك حكم (عليه السلام) بالتعزير ، لكونه أوّل مرّة يُرفع أمره إلى الإمام ، فليس الإفطار ثلاثة أيّام بنفسه موضوعاً للقتل، بل الموضوع هو الرفع كما صرّح به في الموثق ، وكذا ما تقدّم في الصحيح من أنّ أصحاب الكبائر يقتلون في الثالثة ، أي في الثالثة من الرفع ، لا من ارتكاب الكبيرة ، للتصريح بإجراء الحدّ عليهم مرّتين .
(1) قدّمنا أنّ الحكم المزبور من القتل أو التعزير مخصوص بغير المشتبه ، أمّا هو فلا شيء عيله ، وقلنا : إنه يمكن استفادة ذلك من نفس صحيحة بريد .
وتقريب الاستدلال : إنّه (عليه السلام) حكم بالسؤال من المفطر وأ نّه هل عليك في إفطارك إثم أم لا ؟ وأ نّه يعزَّر مع الاعتراف ، ويُقتَل مع الإنكار . ومن المعلوم أنّ إنكار الآثم على نحوين ، فتارةً : ينكره للاستحلال ، واُخرى : لأجل أ نّه يرى نفسه معذوراً لشبهة يدّعيها محتملة في حقّه ، ولا ريب في اختصاص القـتل بالأوّل ، ضرورة أ نّه مع الاعتراف لم يُحكَم بالقـتل فكيف يُحكَم به مع دعوى العذر ؟! وإذ خصّ (عليه السلام) التعزير بالمعترف فمدّعي العذر لا تعزير أيضـاً عليه كما لم يكن عليه قتل ، فلابدّ أن يطلق سراحه ويخلّى سـبيله ، فلا يُقتَل ولا يعزَّر .
وبالجملة : فالأقسام ثلاثة : منكرٌ مستحلٌ يُقتَل ، ومعترفٌ بالفسـق يعزَّر ، ومن لا هذا ولا ذاك ـ الذي لم تتعرّض له الصحيحة ـ يخلّى سبيله ولا شيء عليه .
|