ــ[46]ــ
وأمّا في الواجب غير المعيّن (1) ، فيمتد وقتها اختياراً من أوّل الليل إلى الزوال دون ما بعده على الأصحّ ، ولا فرق في ذلك بين سبق التردّد أو العزم على العدم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المسألة الثانية : في الصوم الواجب غير المعيّن من قضاء أو كفّارة أو نذر ونحوها ، وتدلّ على جواز تجديد النيّة وامتداد وقتها إلى الزوال ولو اختياراً ـ فضلا عن الغفلة والنسيان ـ طائفة من الأخبار ذكرها صاحب الوسائل في الباب الثاني من أبواب وجوب الصوم ونيّته ، ولعلّ منها يظهر حكم المعيّن كما ستعرف .
فمنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال : قلت له : إنّ رجلا أراد أن يصوم ارتفاع النهار ، أيصوم ؟ «قال : نعم»(1) .
وهذه الصحيحة لا يبعد ظهورها في النافلة ، لمكان التعبير بـ : «أراد» الظاهر في أنّ له أن لا يريد ، والمنصرف في مثله هو التطـوّع ، ولو بُني على إطلاقها شملت الواجب غير المعيّن ، حيث إنّه بميله وإرادته يطبّق الواجب على هذا اليوم ويجعله مصداقاً له .
فهذه الصحيحة إمّا خاصّة بالنافلة أو عامّة لها ولغير المعيّن ، لأجل تعليق الحكم على رغبته وإرادته .
ومنها : صحيحة عبد الرّحمن بن الحجّاج عن أبي الحسن (عليه السلام) : في الرجل يبدو له بعدما يصبح ويرتفع النهار في صوم ذلك اليوم ليقضيه من شهر رمضان ولم يكن نوى ذلك من الليل «قال : نعم ، ليصمه وليعتدّ به إذا لم يكن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10 : 10 / أبواب وجوب الصوم ب 2 ح 1 .
ــ[47]ــ
أحدث شيئاً»(1) .
فإنّ التعبير بقوله : «يبدو» ظاهرٌ في عدم كون القضاء متعيّناً عليه . فموردها الواجب غير المعيّن .
ولو بنينا على أنّ قضاء رمضان لا يتضيّق أبداً ، بل غايته الفداء كما لا يبعد ، فالأمر أوضح ، إذ عليه لا يتصوّر الوجوب التعييني في القضاء .
ومنها : رواية صالح بن عبدالله عن أبي إبراهيم (عليه السلام) ، قال : قلت له : رجل جعل لله عليه الصيام شهراً، فيصبح وهو ينوي الصوم ، ثمّ يبدو له فيفطر، ويصبح وهو لا ينوي الصوم ، فيبدو له فيصوم «فقال : هذا كلّه جائز»(2) .
وموردها أيضاً هو الواجب بنذر غير معـيّن بقرينة حكمه (عليه السلام) بجواز الإفطار ، ولكنّها ضعيفة بصالح ، فإنّه لم يوثّق .
ومنها : صحيحة محمّد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال : قال علي (عليه السلام) : إذا لم يفرض الرجل على نفسه صياماً ثمّ ذكر الصيام قبل أن يطعم طعاماً أو يشرب شراباً ولم يفطر فهو بالخيار ، إن شاء صام وإن شاء أفطر»(3) .
ولا يبعد ظهورها في الواجب غير المعـيّن ، لمكان التعبير بالفرض وبالذكر الكاشف عن أنّ عليه فرضاً ولكنّه لم يفرضه ، أي لم يطبّقه ولم يعيّنه في هذا اليوم ، لعدم قصده الصوم ، ثمّ ذكر الصيام ، فحكم (عليه السلام) بأ نّه مخيّر في التطبيق وعدمه ، ومع الغضّ عن ذلك فلا شكّ أنّ اطلاقها يشمل الواجب غير المعيّن كالمندوب .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10 : 10 / أبواب وجوب الصوم ب 2 ح 2 .
(2) الوسائل 10 : 11 / أبواب وجوب الصوم ب 2 ح 4 .
(3) الوسائل 10 : 11 / أبواب وجوب الصوم ب 2 ح 5 .
ــ[48]ــ
ومنها : صحيحة عبدالرّحمن بن الحجاج، قال: سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن الرجل يصبح ولم يطعم ولا يشرب ولم ينو صوماً وكان عليه يوم من شهر رمضان ، أله أن يصوم ذلك اليوم وقد ذهب عامّة النهار ؟ «فقال : نعم ، له أن يصوم ويعتدّ به من شهر رمضان»(1) .
وهي ظاهرة الدلالة ، وقد رويت بسندين :
أحدهما : ضعيف ، لاشتماله على علي بن السندي ، فإنّه لم يوثّق . نعم ، ذكر الكشي توثيقاً له عن نصر بن صباح(2)، ولكنّ نصراً بنفسه ضعيفٌ فلا أثر لتوثيقه .
والسند الآخر : معتبر ، ولأجله يحكم بصحّة الرواية .
ومنها : صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال : كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يدخل إلى أهله فيقول: عندكم شيء؟ وإلاّ صمت، فإن كان عندهم أتوه به وإلاّ صام»(3) .
ولا يخفى أنّ أحمد بن محمّد المذكور في السند يراد به أحمد بن محمّد بن عيسى لا أحمد بن محمّد بن خالد البرقي ، وإلاّ لقال : عن أبيه ، لا عن البرقي كما لا يخفى .
وعلى التقديرين فالرواية معتبرة السند .
وأمّا من حيث الدلالة فلا يبعد أنّ موردها الصوم تطوّعاً ، إذ من البعيد جدّاً أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان عليه صوم قضاء أو كفّارة ونحوهما ، فسياق العبارة يقتضي إرادة التطوّع ، ويؤكّده أنّ الدخول إلى الأهل يكون بحسب الغالب
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10 : 11 / أبواب وجوب الصوم ب 2 ح 6 .
(2) رجال الكشي : 598 / 1119 .
(3) الوسائل 10 : 12 / أبواب الصوم ب 2 ح 7 .
ــ[49]ــ
بعد صلاة الظهر لأجل صرف الغذاء كما هو المتعارف ، وإلاّ فيبعد الدخول قبل ذلك لصرف الطعام ، ولا سيما مع التعبير بلفظ «كان» الظاهر في الاستمرار وأنّ ذلك كان من عادته (عليه السلام) وديدنه .
وستعرف إن شاء الله تعالى أنّ نيّة الصوم بعد الزوال خاصّ بالمندوب ، وعليه فلا تُعتبَر هذه الرواية مستنداً في المقام وإن كانت صحيحة السند ، ويكفينا غيرها .
ومنها : صحيحة اُخرى لهشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال : قلت له : الرجل يصبح ولا ينوي الصوم ، فإذا تعالى النهار حدث له رأي في الصوم «فقال : إن هو نوى الصوم قبل أن تزول الشمس حُسِب له يومه ، وإن نواه بعد الزوال حُسِب له من الوقت الذي نوى»(1) .
فإنّ الذيل المتضمّن للاحتساب من الوقت الذي نوى خاصٌّ بالنافلة بطبيعة الحال ، فتدلّ على مشروعيّة النيّة بعد الزوال وأ نّه يثاب عليها ، من غير أن يكون ذلك من الصوم الحقيقي في شيء ، إذ لم يعهد صوم نصف اليوم أو ثلثه ـ مثلا ـ كما هو ظاهر . وأمّا الصدر المتضمّن لاحتساب اليوم بتمامه فإطلاقه يشمل الواجب غير المعيّن كالنافلة .
ومنها : مرسلة البزنطي(2) ، غير أنّ ضـعفها من جهة الإرسـال يمنع عن صلاحيّة الاستدلال .
ومنها : ما رواه الشيخ بإسناده عن عمّار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) : عن الرجل يكون عليه أيّام من شهر رمضان ويريد أن يقضيها ، متى يريد أن ينوي الصـيام ؟ «قال : هو بالخيار إلى أن تزول الشمس ، فإذا زالت
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (2) الوسائل 10 : 12 / أبواب وجوب الصوم ب 2 ح 8 ، 9 .
ــ[50]ــ
الشمس فإن كان نوى الصوم فليصم ، وإن كان نوى الإفطار فليفطر» إلخ(1) .
وهي واضحة الدلالة في جواز تجديد النيّة في الواجب غير المعيّن ، غير أنّ سندها لا يخلو من الخدش ، وإن عُبِّر عنها بالموثّقة في كلمات غير واحد ـ منهم المحقّق الهمداني (قدس سره)(2) وغيره ـ اغتراراً بظاهر السند ، غفلةً عن أنّ الشـيخ لا يروي عن علي بن الحسن بن فضّال بلا واسطة ، بل له إليه طريق لا محالة، وحيث إنّ في الطريق علي بن محمّد بن الزبير القرشي ولم يوثّق فالرواية محكومة بالضعف .
والمتلخّص من جميع ما ذكرناه : أ نّه لا شكّ في جواز تجديد النيّة في الواجب غير المعيّن بمقتضى هذه النصوص .
وأمّا المسألة الثالثة : ـ أعني : الواجب المعيّن ـ : فلا يظهر حكمه من هذه النصوص، وإن ادّعى المحقّق الهمداني (قدس سره) أنّ إطلاق بعضها شامل له(3) ، إذ ليس فيها ما يشمله بوجه ، للتعبير فيها بـ : «يريد» أو : «بدا له» ونحو ذلك ممّا هو ظاهر في غير المعـيّن ، فالمعـيّن وكذا شهر رمضـان خارج عن منصرف هذه النصوص قطعاً .
ومع ذلك كلّه فالظاهر إلحاق المعيّن بغير المعيّن في غير صورة العلم والعمد ، أمّا معه فباطلٌ كما تقدّم(4) ، فلو كان جاهلا أو ناسياً بأنّ هذا هو اليوم الثالث من الاعتكاف ، أو اليوم الأوّل من الشهر وقد نذر صوم اليوم الأوّل منه ، فلم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10 : 13 / أبواب وجوب الصوم ب 2 ح 10 ، التهذيب 4 : 280 / 847 ، الاستبصار 2 : 121 / 394 .
(2) مصباح الفقيه 14 : 311 .
(3) مصباح الفقيه 14 : 313 .
(4) لاحظ ص 41 .
ــ[51]ــ
يكن ناوياً للصوم ثمّ التفت أثناء النهار ، جاز بل وجب عليه تجديد النيّة ، ويجتزئ بصومه ، وذلك لاستفادة حكمه من النصوص المتقدّمة بالأولويّة القطعيّة ، إذ لو جاز تجديد النيّة في فرض كون المأمور به هو الطبيعي الجامع وأمكن تطبيقه على هذا الفرد الناقص ـ الفاقد للنيّة في مقدار من اليـوم ـ مع إمكان الإتيان به بعـدئذ في فرد آخر كامل ، فجوازه فيما لو كان مأموراً بهذا الفرد بخصـوصه غير القابل للتبديل بفرد آخر بطـريق أولى ، إذ لا يحتمل الصحّة والإجزاء في الأوّل وعدمها في الثاني ، بل هذا أولى منه بالصحّة كما لا يخفى .
نعم ، يختصّ الحكم بالمعيّن من غير رمضان ولا ينسحب إليه ، لاختصاص مورد الأولويّة بالواجب الذي ينقسم إلى قسمين : معيّن وغير معيّن كالنذر والقضاء ونحوهما ، فيقال حينئذ : إنّه لو ثبت الحكم في غير المعيّن ففي المعيّن منه بطريق أولى كما عرفت .
وأمّا صوم رمضان فهو معيّن دائماً ولا ينقسم إلى القسمين ، ومثله لا يكون مورداً للأولويّة كما لا يخفى ، فلا دليل على جواز تجديد النيّة فيه ، بل الأظهر لزوم القضاء وإن وجب الإمساك كما تقدّم سابقاً(1) .
والمتلخّص من جميع ما ذكرناه : أ نّه في الواجب غير المعيّن بل المعيّن من غير رمضان يجوز تجديد النيّة ، ولا فرق في ذلك بين ما إذا لم يكن ناوياً للصوم ، أو كان ناوياً للعدم بأن كان بانياً على الإفطار ثمّ بدا له أن يصوم قبل أن يفطر ، لإطلاق النصوص المتقدّمة ، بل أن منصرف أكثرها هو الثاني ، فإنّ إرادة الغفلة أو النسيان من قوله في كثير منها : أصبح ولم ينو الصوم ، بعيد ، وأبعد منه إرادة التردّد ، بل الظاهر من عدم نيّة الصوم بمقتضى الفهم العرفي هو نيّة الإفطار وعدم الصوم ، ولو لم تكن النصوص ـ ولو بعضها ـ ظاهرة في ذلك فلا أقلّ من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 45 .
ــ[52]ــ
الإطلاق كما ذكرناه . إذن لا فرق بين القسمين كما ذكره في المتن .
إنّما الكلام في أنّ هذا الحكم ـ أعني : جواز تجديد النيّة ـ هل هو ثابتٌ إلى ما قبل الغروب ، أو أ نّه محدود بالزوال ؟
المعروف والمشهور بين القدماء والمتأخرين هو الثاني ، فلا يجوز له التجديد لو كان التذكّر أو الالتفات بعد الزوال ، ونُسِب الأوّل إلى ابن الجنيد(1) ، فساوى بين الواجب والمندوب في ذلك كما ستعرف .
استُدلّ على القول المشهور برواية عمّار المتقدّمة(2) ، المصرّحة بالتحديد إلى الزوال، ولكنّك عرفت أنّ الرواية ضعيفة السند وإن عُبِّر عنها بالموثقة في كلمات الهمداني وغيره ، غفلةً عن أنّ الشيخ لا يرويها عن ابن فضّال بلا واسطة ، ولا بواسطة مشهورة معروفة ، بل له اليه طريق كغيره من أصحاب المجاميع والكتب ، كما نبّه عليه في آخر كتابي التهذيب والاستبصار(3) ، حيث ذكر أنّ ما يرويه عنهم فإنّما يرويه عن كتبهم بالطرق التي وصلت إليه من مشايخه ، ثمّ ذكر طرقه لكي تخرج الرواية بذلك عن الإرسال ، وحيث إنّ في طريقه إلى ابن فضّال علي ابن محمد بن الزبـير القرشي ولم يوثّق ، فتصـبح الرواية ضـعيفة فتسـقط عن صلاحيّة الاستدلال .
نعم ، يمكن أن يسـتدّل له بصحيحة هشام بن سالم المتقـدّمة(4) ، المتضمّنة للتفصيل بين تجديد النيّة قبل الزوال وما بعده ، وأ نّه على الأوّل يُحسَب له يومه ، فيكون ذلك بمنزلة النيّة من طلوع الفجر ، وأمّا على الثاني فلا يُحسَب له إلاّ من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحدائق الناضرة 13 : 19 ، جواهر الكلام 16 : 198 .
(2) في ص 49 .
(3) التهذيب (شرح المشيخة) 10 : 55 / 29 ، الاستبصار (شرح المشيخة) 4 : 318 / 2 .
(4) في ص 49 .
ــ[53]ــ
الوقت الذي نوى ، الذي هو أقلّ من نصف اليوم بطبيعة الحال ، لدخول ما بين الطلوعين في الصوم .
وحيث إنّ من المعلوم أنّ هذا المقدار لا يجزئ في الصوم الواجب من قضاء أو كفّارة ونحوهما ، فلا جرم يختصّ الذيل بالنافلة ، لعدم تنزيله منزلة صوم اليوم الكامل كما في الصدر ، فيكون مفاده : أنّ هذا العمل أمر مشروع ويثاب عليه وإن لم يكن من الصوم الحقيقي في شيء .
ونتيجة ذلك تحديد الحكم بما قبل الزوال كما عليه المشهور هذا .
وربّما يعارض ذلك بصحيحة عبدالرحمن بن الحجاج المتقدمة(1) ، حيث حكم (عليه السلام) فيها بجواز تجديد النيّة بعد ذهاب عامّة النهار ، الملازم بطبيعة الحال لما بعد الزوال ، وإلاّ فعند الزوال لم يذهب إلاّ نصف النهار ، لا عامّته أي أكثره .
ولكنّه يندفع بما عرفت من دخول ما بين الطلوعين في نهار الصوم وإن لم يكن داخلا في النهار المحسوب مبدؤه من طلوع الشمس ، وبهذا الاعتبار صحّ التعبير بذهاب عامّة النهار فيما لو جدّد النيّة قبيل الزوال بمقدار نصف ساعة ـ مثلا ـ إذ يزيد حينئذ على ما بعد الزوال بمقدار ساعة تقريباً ، فيكون ما مضى أكثر ممّا بقى .
فغاية ما هناك أن تكون هذه الصحيحة مطلقة بالإضافة إلى ما قبل الزوال وما بعده ، لا أ نّها تختصّ بالثاني ، فإذن يقيّد الإطلاق بصحيحة هشام المتقدّمة المصرّحة بالتحديد بالزوال ، فهما من قبيل المطلق والمقيّد القابل للجمع العرفي ، وليسا من قبيل المتعارضين ليتصدّى للعلاج .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 48 .
|