ــ[160]ــ
السابع : الارتماس في الماء (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) اختلفت الأنظار في حكم ارتماس الصائم في الماء، فالمشهور بين الأصحاب هو المفطريّة ، بل ادُّعي عليه الاجماع وإن كانت الدعوى موهونة بعد الخلاف المحقّق بينهم .
وذهب جماعة ـ منهم : الشيخ والعلامة والشهيد الثاني والمحقّق في الشرائع وصاحب المدارك(1) وغيرهم ـ إلى الحرمة التكليفيّة من غير أن يكون مفطراً ، فلا يستوجب ارتكابه القضاء ولا الكفّارة ولا يترتّب عليه عدا الإثم .
وقيل بانتفاء الإثم أيضاً ، بل غايته الكراهة ، كما عن السيّد المرتضى وابن إدريس(2) وغيرهما .
وكيفما كان ، فالمتّبع هو الروايات الخاصّة الواردة في المقام ، فنقول : قد ورد في جملة من النصوص المعتبرة النهي عن الارتماس :
كصحيح حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال : لايرتمس الصائم ولاالمحرم رأسه في الماء»(3).
وصحيح الحلبي عنه (عليه السلام) «قال : الصائم يستنقع في الماء ولا يرمس رأسه»(4) وغيرها .
ومعلوم أنّ النهي هنا ظاهرٌ في الإرشاد إلى الفساد ، الذي هو ظهورٌ ثانوي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاستبصار 2 : 85 ، المختلف 3 : 270 ، المسالك 2 : 16 ، الشرائع 2 : 15 ، المدارك 6 : 48 .
(2) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى 3) : 54 ، السرائر 1 : 386 ـ 387 .
(3) الوسائل 10 : 38 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 3 ح 8 .
(4) الوسائل 10 : 37 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 3 ح 7 .
ــ[161]ــ
منعقد في باب المركّبات من العبادات والمعاملات مثل: النهي عن التكلّم في الصلاة وغير ذلك دون الحرمة التكليفيّة .
بل في بعض الأخبار التصريح بمفطريّة الارتماس ، وهي مرفوعة الخصال عن أبي عبدالله (عليه السلام) : «قال : خمسة أشياء تفطر الصائم : الأكل ، والشرب ، والجماع ، والارتماس في الماء ، والكذب» إلخ(1) .
غير أنّ سندها ضعيف ، للرفع .
بل في بعض الروايات المعتبرة ظهورٌ قريب من الصراحة ، وهي صحيحة محمّد بن مسلم : قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : «لايضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال : الطعام والشراب ، والنساء ، والارتماس في الماء»(2) .
إذ من الواضح أنّ المراد الاضرار بالصوم من حيث هو صوم لا بذات الصائم ، ولا معنى له إلاّ الإخلال والإفساد .
وإن شئت قلت : ظاهرُ الصحيحة دخلُ الاجتناب عن تلك الاُمور في طبيعي الصوم وإن كان تطوّعاً ، إذ لا مقتضي للتقييد بالفريضة ، وحيث لا يحتمل حرمة الارتماس في الصوم المندوب تكليفاً بعد فرض جواز إبطاله اختياراً ، فلا مناص من أن يراد بالإضرار : الإبطال ، دون الحرمة التكليفيّة . إذن فلهذه الروايات قوّة ظهور في المفطريّة .
ولكن بإزائها موثّقة اسحاق بن عمّار الظاهرة في عدم الإفطار : قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : رجل صائم ارتمس في الماء متعمّداً ، عليه قضاء ذلك اليوم ؟ «قال : ليس عليه قضاؤه ولا يعودن»(3) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10 : 37 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 3 ح 6 ، الخصال : 286 / 39 .
(2) الوسائل 10 : 31 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 1 ح 1 .
(3) الوسائل 10 : 43 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 6 ح 1 .
ــ[162]ــ
وربّما يناقش في سندها ، نظراً إلى أنّ عمران بن موسى الواقع في الطريق يدور أمره بين أن يكون هو الخشّاب المجهول الحال ، أو الزيتوني الأشعري القمّي المعروف الثقة ، ومع هذا الترديد كيف يحكم بالتوثيق ؟!
هذا ، ولم يستبعد الأردبيلي اتّحادهما ، لقرب مرتبتهما(1) .
ولكنّ الظاهر أنّ عمران بن موسى الخشّاب لا وجود له أصلا ، والمسمّى بهذا الاسم شخصٌ واحد وهو الزيتوني الثقة ، فإنّ جامع الرواة وإن ذكر في ترجمة عمران بن موسى الخشّاب ما يقرب من خمسين رواية إلاّ أ نّه ليس في شيء منها تصريح بالخشّاب ولا الزيتوني ، وكلّها بعنوان عمران بن موسى ، ما عدا رواية واحدة ذكرها الشيخ في التهذيب بعنوان عمران بن موسى الخشّاب(2) ، فتخيّل أنّ جميع تلك الروايات عنه ، وهو وهم نشأ من سقط كلمة «عن» في نسخة التهذيب ، والصحيح عمران بن موسى ، عن الخشّاب الذي هو حسن بن موسى الخشّاب ، ويروي عمران بن موسى عنه كثيراً . فالخشّاب شخصٌ آخر يروي عمران عنه ، لا أ نّه لقب لعمران نفسه كما توهّم .
والذي يكشف عنه بوضوح أنّ الشيخ يروي هذه الرواية عن ابن قولويه في كامل الزيارات ، وهي مذكورة بعين السند والمتن في الكامل(3) ، لكن بإضافة كلمة «عن» ، فالسقط من الشيخ جزماً ، فإنّ جميع نسخ التهذيب على ما قيل خالية عن كلمة «عن» ، فالاشتباه من قلمه الشريف ، والمعصوم من عصمه الله تعالى .
وكيفما كان ، فليس لدينا شخص مسمّى بعمران بن موسى الخشّاب لتوجب
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جامع الرواة 1 : 644 .
(2) التهذيب 6 : 37 .
(3) كمال الزيارات : 29 / 10 .
ــ[163]ــ
جهالته وهـناً في السـند ، وإنّما هو شـخص واحد مسمّى بعمران بن موسى الزيتوني الأشعري القمّي المشهور الذي هو ثقة كما عرفت ، فلا مجال للنقاش في السند بوجه .
إذن ، فهذه الموثّقة الظاهرة ـ بل الصريحة في عدم البطلان ـ تعارض النصوص المتقدّمة ، وقد تصدّى غير واحد للجمع بينهما بأحد وجهين :
الأوّل : ما ذهب إليه جماعة ونُسِب إلى بعض الأكابر من حمل الطائفة الاُولى ـ بقرينة نفي القضاء في هذه الرواية والنهي عن العود الظاهر في مجرّد الحرمة ـ على الحرمة التكليفيّة .
ولكـنّه كما ترى ، لإباء جملة منها ـ ولا سـيّما صحيحة ابن مسلم التي هي كالصريحة في البطلان كما مرّ ـ عن ذلك كما لا يخفى .
الثاني : حمل النهي في تلك الطائفة على الكراهة الوضعيّة ، فإنّ الإضرار بالصوم قد يكون حقيقياً كالأكل والشرب ، وأُخرى مسـامحيّاً كأ نّه يبطل به الصوم كالارتماس ، نظراً إلى أ نّه يسـتوجب مرتبةً من البطلان كمرتبة عدم القبول ـ مثلا ـ فيحمل الإضرار في الارتماس على الإضرار ببعض مراتبه وإن كان أصل الصوم صحيحاً .
ولكن هذا أضعف من الوجه الأوّل ، إذ الكراهة الوضعيّة لا نتعقّل لها معنىً صحيحاً ، وهل بإمكان العرف أن يجمع بين قوله : صحيح ، وقوله : باطل ، أو بين قوله : يعيد ، وقوله : لا يعيد ؟! فإنّ معنى إضرار الارتماس بالصوم أنّ صومه باطل كما لو أكل أو شرب ، ومعنى «ليس عليه قضاؤه» كما في موثّقة اسحاق : أنّ صومه صحيح ، ومعه كيف يمكن الجمع بينهما ؟!
وعلى الجملة : فكراهة البطلان كاستحباب البطلان لا يرجع إلى محصّل ولا يساعده الفهم العرفي بوجه ، إذن لا محيص عن الإذعان باستقرار المعارضة بين
ــ[164]ــ
هذه الموثّقة وبين النصوص المتقدّمة .
وحينئذ ، فإن قلنا بأنّ الطائفة المانعة روايات مسـتفيضة مشهورة بحيث يُعلَم أو يُطمَأن بصدور بعضها عن الإمام (عليه السلام) ولو إجمالا ، وهذه رواية شاذّة لا تنهض للمقاومة معها ، فتطرح بطبيعة الحال .
وإن أغمضنا عن ذلك فلا محالة تصل النوبة إلى الترجيح ، الذي هو منحصر في الترجيح بموافقة الكتاب أو مخالفة العامّة .
أمّا الكتاب : فلدى عرضهما عليه لم نجد فيه شاهداً لشيء منهما ، بل لم يذكر فيه من أحكام الصوم إلاّ الشيء اليسير، كالاجتناب عن الأكل والشرب بمقتضى قوله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ) إلخ(1)، وعن النساء بمقتضى قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ)إلخ(2)، وأمّا غير ذلك ـ ومنه الارتماس ـ فليس فيه منه عين ولا أثر .
وأمّا العامّة : فالذي يظهر منهم ـ كما في الفقه على المذاهب الأربعة(3) ـ أنّ أحداً منهم لم يقل بالبطلان .
نعم ، الحـنابلة منهم ذهـبوا إلى الكراهة إذا لم يكن الارتماس للتبريد أو للغسل(4) .
وهذا هو المناسـب لقوله (عليه السلام) في الموثقـة : «ولا يعودن» أي أ نّه لايبطل ، ولذا لا قضاء عليه ، ولكن لا يعودنّ إلى ذلك لمكان الكراهة . إذن فتكون الموثّقة موافقة لهم فتُحمَل على التقيّة وتُطرَح ، لأنّ الرشد في خلافهم ، ويكون الرجحان للطائفة المانعة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ، (2) البقرة 2 : 187 .
(3) الفقة على المذاهب الأربعة 1 : 513 ـ 516 .
(4) الفقه على المذاهب الأربعة 1 : 518 .
|