الثامن : البقاء على الجنابة عمداً إلى الفجر الصادق (2) ،
ـــــــــــــــــــ (2) على المعروف والمشهور ، بل ادّعي عليه الاجماع في كلمات غير واحد ، بل تكرّر نقل الإجماع في كلمات بعضهم ، وإن نسب الخلاف إلى بعض كالصدوقين والكاشاني والأردبيلي والداماد(3) ، لكنّه ضعيف لا يعبأ به فكأن المسألة من المتسالم عليها بينهم تقريباً ، وقد ادّعى في الرياض تواتر الأخبار بذلك(4) .
وكيفما كان ، فلا إشكال في أنّ الأخبار الدالّة على البطلان متظافرة وهي على طوائف ثلاث ، لا يبعد بلوغ المجموع حدّ التواتر ولو إجمالا .
ـــــــــــــ (3) لاحظ الحدائق 13 : 113 ـ 114 .
(4) الرياض 5 : 316 .
ــ[186]ــ
منها : ما دلّ على لزوم القضاء فيمن بقي على الجنابة ناسياً حتّى مضى الشهر كلّه ، أو أيّام منه ، وفي بعضها أ نّه لو اغتسل للجمعة قضى ما تقدّمه لاجتزائه عن الجنابة ، فإنّها تدلّ على البطلان ولزوم القضاء لو تعمّد البقاء بطريق أولى ، وإلاّ فلو لم يكن البقاء عامداً موجباً للبطلان لم يكن وجهٌ للقضاء عند النسيان ، فيستفاد منها أنّ حكم الصوم بالإضافة إلى نسيان الجنابة كحكم الصلاة بالنسبة إلى نسيان النجاسة في الثوب أو البدن ، فكما أنّ الثاني موجب للبطلان فكذا الأوّل .
وسنتعرّض لهذه النصوص عند تعرّض الماتن للمسألة إن شاء الله تعالى .
ومنها : ما دلّ على القضاء ـ بل الكفّارة أيضاً ـ فيمن تعمّد النوم جنباً حتّى مطلع الفجر ، فإنّها تدلّ أيضاً على البطلان مع تعمّد البقاء .
نعم ، يعارضها ما دلّ على عدم البأس بذلك ، لكنّه محمول على النومة الاُولى ، أو على غير صورة العمد .
وسيأتي التعرّض لهذه النصوص أيضاً في محلها .
ومنها : ما دلّ على البطلان في خصوص المقام ـ أعني : البقاء على الجنابة عامداً ـ كصحيحة أبي بصير : في رجل أجنب في شهر رمضان بالليل ثمّ ترك الغسل متعمّداً حتّى أصبح « قال : يعتق رقبة ، أو يصوم شهرين متتابعين ، أو يطعم ستّين مسكيناً» إلخ(1) .
فإنّ الحكم بالكفّارة ظاهرٌ عرفاً في البطلان ، لبعد كونه تعبّديّاً بحتاً مع فرض صحّة الصوم .
وأصرح منها صحيحة المروزي ـ أعني : سليمان بن حفص ، وما في بعض
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10 : 63 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 16 ح 2 .
ــ[187]ــ
النسخ من ذكر جعفر بدل حفص غلط ، لعدم وجوده في الرجال بتاتاً ، والرجل المزبور موثّق ، لوجوده في أسانيد كامل الزيارات ـ «قال : إذا أجنب الرجل في شهر رمضان بليل ولا يغتسل حتّى يصبح فعليه صوم شهرين متتابعين مع صوم ذلك اليوم» إلخ(1) ، فإنّها قد تضمّنت القضاء صريحاً .
نعم ، بإزائها روايات قد يتوهّم معارضتها لما سبق من الطوائف الثلاث :
منها : صحيحة حبيب الخثعمي عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال : كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يصلّي صلاة الليل في شهر رمضان ثمّ يجنب ثمّ يؤخرّ الغسل متعمّداً حتّى يطلع الفجر»(2).
ولكن مضمـونها ـ كما ترى ـ غير قابل للتصديق ، فإنّ التعـبير بـ «كان» ظاهرٌ في الاستمرار والدوام، فكأنّه (صلّى الله عليه وآله) كان يواظب على ذلك ، ولا شكّ في أ نّه أمرٌ مرجوح على الأقل .
نعم ، وقوعه اتّفاقاً مرّة أو مرّتين لا بأس به ، أمّا الاستمرار عليه فغير محتمل ، فلابدّ من ردّ علمها إلى أهلها أو حملها على التقيّة .
كما قد يؤيّدها رواية إسماعيل بن عيسى ، قال : سألت الرضا (عليه السلام) عن رجل أصابته جـنابة في شهر رمضـان فنام عمداً حتّى يصبح ، أيّ شيء عليه ؟ «قال : لا يضرّه هذا ولا يفطر ولا يبالي ، فإن أبي (عليه السلام) قال : قالت عائشة : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أصبح جنباً من جماع غير احتلام» إلخ(3) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10 : 63 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 16 ح 3 .
(2) الوسائل 10 : 64 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 16 ح 5 .
(3) الوسائل 10 : 59 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 13 ح 6 .
ــ[188]ــ
فإنّ الاستشهاد بكلام عائشة ظاهرٌ في التقيّة كما لا يخفى .
ومع الغضّ عمّا ذُكر فهي خبر واحد لا تنهض للمقاومة مع النصوص المتقدّمة التي لا يبعد فيها دعوى التواتر ولو إجمالا كما مرّ ، فتكون هذه على خلاف السنّة القطعيّة ، ومثلها يسقط عن الحجّيّة .
فهذه الرواية وإن كانت صحيحة السند فإنّ حبيب بن معلّى الخثعمي وثّقه النجاشي صريحاً وقال : إنّه ثقة ثقة(1) إلاّ أنّ مضمونها غير قابل للتصديق أوّلا .
وثانياً : إنّها موافقة لمذهب العامّة ، لأنّ المتسالم عليه بينهم جواز البقاء على الجنابة عامداً ، فهي محمولة على التقيّة لا محالة .
وثالثاً : إنّها على خلاف السنّة القطعيّة ، فلا بدّ من طرحها أو ردّ علمها إلى أهلها .
ومنها : رواية حمّاد بن عثمان : أ نّه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل أجنب في شهر رمضان من أوّل الليل وأخّر الغسل حتّى يطلع الفجر «فقال : كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يجامع نساءه من أوّل الليل ثمّ يؤخِّر الغسل حتّى يطلع الفجر ، ولا أقول كما يقول هؤلاء الأقشاب يقضي يوماً مكانه»(2) .
وهذه الرواية لم يذكرها الصدوق في الفقيه ، وإنّما ذكرها في المقنع(3) الذي هو كتاب فتوى ، وإن كانت فتاواه متخذة غالباً من مضامين الأخبار . وكيفما كان ، فقد ذكرها فيه مرسلا ، لعدم ذكره الواسطة بين حمّاد والإمام (عليه السلام) ، مع أنّها لا بدّ من وجودها ، فهي ضعيفة السند أوّلا .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لاحظ رجال النجاشى : 141 / 368 .
(2) الوسائل 10 : 57 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 13 ح 3 . والأقشاب : جمع قَشِب ، وهو من لا خير فيه من الرجال ـ مجمع البحرين 2 : 143 (قشب) .
(3) المقنع : 189 .
ــ[189]ــ
وثانياً : يرد عليها ما أوردناه على الرواية السابقة من أنّ مضمونها غير قابل للتصديق ، بل أنّ مضمون هذه مقطوع العدم ، إذ المفروض فيها جنابته (صلّى الله عليه وآله) من أوّل الليل حتّى مطلع الفجر ، لا من بعد صلاة الليل كما في السابقة . إذن فمتى كان يصلّي الليل ووجوبها عليه من مختصاته (صلّى الله عليه وآله وسلم) ؟!
ولا يبعد أن يكون المراد على تقدير صحّة الرواية هو الإنكار بأن يكون معنى قوله : «كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) » إلخ : أكان رسول الله ، على سبيل الاستفهام الإنكاري ، وأنّ هذا الأمر هو الذي يقوله هؤلاء الأقشاب . أمّا أنا فلا أقول ذلك ، بل أقول : إنّه يقضي يوماً مكانه ، فيكون قوله (عليه السلام) «يقضي يوماً» إلخ ، جملة ابتدائيّة إنشائيّة لا مقولا للقول . وعليه ، فتكون الصحيحة على خلاف المطلوب أدلّ .
وثالثاً : مع الغضّ عن كلّ ما ذكر فهي خبر واحد لا تقاوم النصوص السابقة القطعيّة الصدور كما مرّ ، فلا مناص من الطرح .
ومنها : صحيحة العيص بن القاسم ، قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل أجنب في شهر رمضان في أوّل الليل فأخّر الغسل حتّى طلع الفجر «فقال : يتمّ صومه ولا قضاء عليه»(1) .
ونحوها رواية أبي زينبة(2) وإن لم تكن نقيّة السند .
والعمدة هي الصحيحة .
والجـواب : أنّها وإن كانت صحيحة السند ظاهرة الدلالة إلاّ أنّ دلالتها بالاطلاق الشامل للعمد ولغير العمد ، إذ ليست هي صريحة في الأوّل .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ، (2) الوسائل 10 : 58 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 13 ح 4 ، 5 .
ــ[190]ــ
في صوم شهر رمضان أو قضائه(1)، دون غيرهما من الصيام الواجبة والمندوبة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نعم ، لو كان المذكور فيها : «يطلع الفجر» بصيغة المضارع ، بدل : «طلع» ، لكان لدعوى الاختصاص بالأوّل وجه وأ نّه أخّر الغسل لغاية طلوع الفجر ، أي لأنّ «يطلع الفجر» كمن ينتظره ويترصّده ، لكن المذكور «طلع» بصيغة الماضي ، ومثله صادق على من أخّر الغسل برجاء بقاء الوقت فاتّفق الطلوع من غير أن يكون متعمّداً في التأخير ، فيقيَّد هذا الإطلاق بالنصوص المتقدّمة كصحيحة أبي بصير الدالّة على البطلان في صورة العمد ، وتحمل هذه على غير العامد ، عملاً بصناعة الإطلاق والتقييد .
فإن تمّ هذا النوع من الجمع الدلالي فهو ، وإلاّ فلا إشكال في أنّ الترجيح مع تلك النصوص لوجهين :
أحدهما : أنّها قطعيّة الصدور ، بل هي متواترة ولا أقلّ إجمالا كما مرّ ، وهذه خبر واحد لا تنهض للمقاومة ، وقد ذُكِر في بحث التعارض . أنّ أوّل المرجّحات عرض الرواية على الكتاب والسنّة القطعية ، فيطرح المخالف لهما .
ثانيهما : أنّ هذه الصحيحة موافقة لمذهب العامّة ، وتلك النصوص مخالفة ، فتُحمل هذه على التقيّة .
فتحصّل : أنّ ما عليه المشهور ـ بل المتسالم عليه تقريباً من بطلان الصوم بالبقاء على الجنابة متعمّداً إلى طلوع الفجر ، وأ نّه يجب عليه القضاء حينئذ بل الكـفّارة أيضاً ـ هو الصـحيح ، وخلاف الصـدوقين ومن حذا حذوهما شاذٌّ لا يُعبأ به .
(1) إذ مضافاً إلى القاعدة المقرّرة المستفاد من بعض النصوص من مساواة القضاء مع الأداء في الماهيّة واتّحادهما في الأجزاء والشرائط ما لم يقم دليل على
|