ــ[320]ــ
الثاني : صوم قضاء شهر رمضان (1) إذا أفطر بعد الزوال ، وكفّارته إطعام عشرة مساكين لكلّ مسكين مدّ ، فإن لم يتمكّن فصوم ثلاثة أيّام ، والأحوط إطعام ستّين مسكيناً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التصحيح والعمل بروايته الذي لا يجدي بالنسبة إلينا .
وعليه ، فتصبح الرواية ضعيفة بهذا الرجل وبمن تقدّمه ـ أعني : ابن قتيبة ـ فهي غير قابلة لتقييد المطلقات الدالّة على التخيير في الكفّارة من غير فرق بين الحلال والحرام .
(1) لا إشكال في جواز الإفطار في صوم قضاء شهر رمضان فيما قبل الزوال ، وعدم جوازه فيما بعده ، فله تجديد النيّة إمساكاً أو إفطاراً إلى أن تزول الشمس ، وبعده يجب عليه البناء على مانوى ، فلا يجوز له الإفطار بعدئذ .
والظاهر أنّ هذا الحكم ـ أعني : التفصيل بين ما قبل الزوال وما بعده في جواز الافطار وعدمه ـ متسالمٌ عليه ، وتدل عليه جملة من الاخبار ، كموثّقة أبي بصير : عن المرأة تقضي شهر رمضان فيُكرهها زوجها على الإفطار «فقال : لا ينبغي له أن يُكرهها بعد الزوال»(1) .
وموثّقة عمّار: عن الرجل يكون عليه أيام من شهر رمضان ويريد أن يقضيها ، متى يريد أن ينوي الصيام ؟ «قال : هو بالخيار إلى أن تزول الشمس ، فإذا زالت الشمس فإن كان نوى الصوم فليصم ، وإن كان نوى الإفطار فليفطر» إلخ(2) . وغيرهما .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10 : 16 / أبواب وجوب الصوم ونيته ب 4 ح 2 .
(2) الوسائل 10 : 13 / أبواب وجوب الصوم ونيته ب 2 ح 10 .
ــ[321]ــ
فالإفطار بعد الزوال محرّم بلا إشكال .
أمّا الكلام في الكفّارة وفي مقدارها فالمعروف المشهور وجوبها وأنّها إطعام عشرة مساكين لكل مسكين مدّ ، ونُسِب الخلاف إلى العماني فأنكر الوجوب(1) ، وهو شاذّ .
ويُستدلّ على وجوبها بعدّة من الأخبار ، منها : رواية بريد العجلي : في رجل أتى أهله في يوم يقضيه من شهر رمضان «قال : إن كان أتى أهله قبل زوال الشمس فلا شيء عليه إلاّ يوم مكان يوم ، وإن كان اُتي أهله بعد زوال الشمس فإنّ عليه أن يتصدّق على عشرة مساكين» إلخ(2) .
وهي وإن كانت واضحة الدلالة إلاّ أن سندها ضعيف بالحارث بن محمّد الواقع في الطريق ، فإنّه قد ورد في الروايات بعناوين مختلفة : الحارث بن محمّد ، الحارث بن محمّد الأحول ، الحارث بن محمّد بن النعمان ، وغير ذلك ، وكلّها عناوين لشخص واحد ، روى عن بريد العجلي ويروي عنه الحسن بن محبوب ، ولكنّه مجهول لم يوثّق ، فالرواية ضعيفة إلاّ على القول بالانجبار بعمل المشهور . وقد ذكرنا مراراً أنّ ذلك يتوقّف على أمرين : إثبات اعتماد المشهور على الرواية ، وكونه موجباً للجبر، وعلى تقدير تحقّق الصغرى في المقام فالكبرى غير مسلّمة عندنا .
ومنها : صحيحة هشام بن سـالم : رجل وقع على أهله وهو يقضي شهر رمضان «فقال : إن كان وقع عليها قبل صلاة العصر فلا شيء عليه ، يصـوم يوماً بدل يوم ، وإن فعل بعد العصر صام ذلك اليوم وأطعم عشرة مسـاكين ، فإن لم يمكنه صام ثلاثة أيّام كفارةً لذلك»(3) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحدائق 13 : 214 ، المختلف 3 : 319 / 65 .
(2) الوسائل 10 : 347 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 29 ح 1 .
(3) الوسائل 10 : 347 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 29 ح 2 .
ــ[322]ــ
وهذه معتبرة السند واضحة الدلالة ، غير أنّها تضمّنت التحديد بالعصر بدلا عن الزوال ، وهذا لا قائل به ، والوجه فيه وضوح أنّ المراد بالعصر وقت صلاة العصر لا فعلها خارجاً ، كما عبّر في الشرطية الثانية بقوله : «بعد العصر» أي بعد دخول وقته .
فإمّا أنّ كلمة العصر تصحيفٌ عن الظهر لسهو إمّا من الراوي أو من الشيخ (رحمه الله)(1) الذي يكثر منه الاشتباه بسبب الاستعجال في التأليف وكثرته ، بل قال صاحب الحدائق في حقّه (قدس سره) ـ وإن لم يخل كلامه من المبالغة ـ : إنّه قلما توجد رواية في التهذيبين خالية من الخلل في السند أو المتن(2) .
أو يقال : إنّ المـراد بالعصر هو ما بعد زوال الشمس ، نظراً إلى اشتراك الصلاتين في الوقت ، إلاّ أنّ هذه قبل هذه ، بل لا يبعد أن يقال : إنّ هذا الوقت يُعتبَر في نظر العرف عصراً كما أنّ ما قبل الزوال يُعتبَر صباحاً .
وكيفما كان ، فالصحيحة ظاهرة في المطلوب إلاّ من هذه الجهة التي لا بدّ من توجيهها بمثل ما عرفت .
ثمّ إنّ هذه الصحيحة والرواية السابقة قد دلّتا على وجوب الكفّارة وعلى تحديدها بإطعام عشرة مساكين وبإزائهما ما دلّ على عدم الكفّارة أصلا ، وما دلّ أنّ كفّارته كفّارة شهر رمضان ، فتُعارضان هاتين الطائفتين .
أمّا ما دلّ على نفي الكفّارة رأساً ـ الذي نُسِبَ القول به إلى العماني كما مرّ ـ فهو ذيل موثّقة عمّار المتقدّمة ، قال فيها : ... سُئل : فإن نوى الصوم ثمّ أفطر بعد ما زالت الشمس ؟ «قال : قد أساء وليس عليه شيء إلاّ قضاء ذلك اليوم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التهذيب 4 : 279 / 845 ، الاستبصار 2 : 120 / 392 .
(2) لاحظ الحدائق 13 : 215 .
ــ[323]ــ
الذي أراد أن يقضيه»(1) .
وقد ذكرنا غير مرّة أنّ طريق الشيخ إلى ابن فضّال وإن كان ضعيفاً إلاّ أنّ طريق النجاشي صحيح وشـيخهما واحد وهو كاف في التصحيح . وقد دلّت على نفي الكـفّارة ، وأ نّه ليس عليه إلاّ القضاء ، فيُحمَل ما دل على الكفّارة ـ كصحيحة هشام المتقدّمة ـ على الاستحباب .
وفيه أوّلا : إنّها إنّما تنفي الكفّارة بالإطلاق لا بالصراحة ، فمن المحتمل أن تكون ناظرة إلى نفي قضاء آخر ، بمعنى : أن يكون هناك قضاءان : قضاءٌ لشهر رمضان ، وقضاءٌ لقضائه الذي أفسده بالإفطار بعد الزوال ، فيكون المنفي هو القضاء الثاني لا الكفّارة ، وأ نّه ليس عليه من القضاء إلاّ الأوّل كما قد يؤيّده التوصيف بقوله (عليه السلام) : «ذلك اليوم الذي أراد أن يقضيه» وهذا الحكم ـ وإن أصبح الآن من الواضحات ، بحيث لا مجال لاحتمال تعدّد القضاء ـ لعلّه في عصر صدور هذه الأخبار وفي بدء الأمر كان محتملا ، فإنّ تعلّم الأحكام تدريجي ، وكثيرٌ من الأحكام الواضحة لدينا اليوم كان يسأل عنها أكابر الأصحاب ، وإنّما بلغ حدّ الوضوح بعد تلك الأسئلة والأجوبة وورود النصوص المتكاثرة كما لا يخفى ، فمن الجائز أن يكون الإمام (عليه السلام) قد تصدّى في هذه الرواية إلى أنّ هذا القضاء لا ينشأ منه قضاء آخر ، ولم يكن (عليه السلام) بصدد نفي الكـفّارة ، فغايته الدلالة على النفي بالإطلاق الذي لا يقاوم التصريح بالثبوت في صحيحة هشام ، فيجمع بينهما بذلك ، أو يقال : بأنّها ناظرة إلى نفي سائر أقسام الكفّارة .
وثانياً : لو سلّم كونها صريحـة في نفي الكفّـارة على وجه لم يمكن الجمع
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10 : 348 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 29 ح 4 .
ــ[324]ــ
المزبور ، فلا ريب في كونها معارضة حينئذ مع صحيحة هشام الصريحة في الكفّارة ، ولا مجال للجمع بالحمل على الاستحباب كما ذُكِر ، فإنّه إنّما يتّجه في مثل ما لو ورد الأمر بشيء وورد في دليل آخر أ نّه لا بأس بتركه ، فيرفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب ، ويحمل على الاستحباب ، دون مثل المقام ، فإنّ الأمر بالكـفّارة ونفيها يعدّان في العرف من المتعارضين ، إذ مورد الكفّارة ارتكاب الحرام ولا سيّما مع التصريح بعدم الجواز وأ نّه قد أساء كما في الموثّقة ، فكيف يمكن حمل الأمر بها على الاستحباب الكاشف عن عدم ارتكاب الذنب؟! فاستحباب الكفّارة ممّا لا محصّل له كما لا يخفى ، فليس مثل هذين الدليلين من الظاهر والنصّ ليرفع اليد عن أحدهما بالآخر كما في سابقه ، بل هما عرفاً من المتعارضين ، ولا شكّ أنّ الترجيح حينئذ مع صحيحة هشام : إمّا لأنّ مضمونها متسالم عليه بين الفقهاء ، إذ لم يُنسَب الخلاف في ثبوت الكفّارة إلاّ إلى العماني كما سمعت ، فتُطرح الموثّقة حينئذ ، لكونها مهجورة وعلى خلاف السنّة القطعيّة . أو لأجل أنّها ـ أي الموثّقة ـ محمولة على التقيّة ، لموافقة مضمونها مع العامّة ، فإنّ جمهور العامّة لا يرون الكفّارة ، وإنّما هي من مختصّات الإمامية ، ولا يبعد أن يكون هذا هو الأوجه .
وأمّا ما دلّ على أنّ الكفّارة هي كفّارة شهر رمضان فروايتان كما ستعرف .
وقد نُسِب هذا القول إلى الصدوق وإلى والده(1) ، ولكن العبارة المنقولة عن رسالة ابن بابويه وعن المقنع للصدوق(2) لا تفيد ذلك ، بل الظاهر من العبارتين التخيير بين الكفّارتين، لأنّهما عبّرا بعبارة الفقه الرضوي كما نصّ عليه في الحدائق (ج 13 ص 213) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المختلف 3 : 418 .
(2) رسالة ابن بابوية (ضمن رسالتان مجموعتان) : 82 ، المقنع : 200 .
ــ[325]ــ
وأمّا في كتاب الفقيه فقد ذكر كلتا الروايتين ، ذكر أوّلاً ما دلّ على أ نّه عشرة مساكين ، ثمّ قال : وروي أ نّه كفّارة شهر رمضان(1) ـ مشيراً بذلك إلى الرواية الآتية ـ وبما أ نّه (قدس سره) التزم بصحّة روايات كتابه ، وأ نّه لا يروي فيه إلاّ ما يراه حجّة بينه وبين الله ، فالظاهر أ نّه عمل بهما .
وعلى الجملة : فالمستفاد من كلاميهما أنّهما يقولان بالتخيير ، ولعلّه من أجل رفع اليد عن ظهور كلّ من الروايتين في الوجوب التعييني وحملهما على التخييري .
وكيفما كان ، فلا يمكن المصير إلى هذا القول لا تعييناً ولا تخييراً ، فإنّ ما دلّ على أنّها كفّارة الإفطار في شهر رمضان روايتان كما عرفت :
إحداهما : رواية حفص بن سوقة، عمّن ذكره ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) : في الرجل يلاعب أهله أو جاريته وهو في قضاء شهر رمضان فيسـبقه الماء فينزل «قال : عليه من الكفّارة مثل ما على الذي جامع في شهر رمضان»(2) .
والاُخرى : موثّقـة زرارة : عن رجل صام قضاءً من شهر رمضـان ، فأتى النساء «قال : عليه من الكفّارة ما على الذي أصاب في شهر رمضان ، لأنّ ذلك اليوم عند الله من أيّام رمضان»(3) .
أمّا الرواية فمرسلة لا يمكن الاعتماد عليها حتّى على مسلك الانجبار ، إذ لا عامل بها ما عدا الصدوقين كما عرفت .
وأمّا الموثّقة فلا مناص من إسقاطها ورفع اليد عنها ، فإنّ ظاهرها بمقتضى التنزيل كون اليوم من شهر رمضان، ولم يلتزم به أحد لا الصدوقان ولا غيرهما،
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الفقيه 2 : 96 / 430 و 431 .
(2) الوسائل 10 : 39 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 4 ح 2 .
(3) الوسائل 10 : 348 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 29 ح 3 .
ــ[326]ــ
إذ مقتضى ذلك عدم الفرق في القضاء بين ما قبل الزوال وما بعده ، كما هو الحال في شهر رمضان ، وليس كذلك قطعاً .
وبعبارة اُخرى : ليس مفاد الموثّق حكماً تعبّديّاً ، بل هو مشتمل على التنزيل الذي لا قائل به كما عرفت ، فظاهره غير ممكن الأخذ ، ورفع اليد عن هذا الظاهر والحمل على إرادة التنزيل بلحاظ ما بعد الزوال لا تساعده الصناعة كما لا يخفى، فلا بدّ من طرحها أو حملها على التقيّة ، لأنّ مضمونها منسوب إلى بعض العامّة ـ كقتادة(1) ـ حيث إنّه نسب إليه القول بالكفّارة وإن أفطر قبل الزوال ، فلعلّ الموثّقة صدرت تقيّةً منه ، فيبقى ما دلّ على أنّ الكفّارة إطعام عشرة مساكين بلا معارض .
وممّا ذكرناه تعرف أنّ القول بالتخيير ـ كما استظهرناه من عبارة الصدوقين ـ أيضاً مناف للأخذ بهذا الموثّق ، إذ كيف يمكن الحكم بالتخيير بعد ما اشتمل عليه الموثّق من التنزيل المزبور ، فإنّ الحكم في المنزل عليه تعييني لا تخييري بين الخصال وبين إطعام عشرة مساكين كما هو ظاهر .
ثمّ إنّه نُسِب إلى ابن البَرّاج وابن إدريس وغيرهما : أنّ كفارته كفّارة اليمين : إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة(2) ، ونُسِب إلى أبي الصلاح : أنّها صيام ثلاثة أيّام أو إطعام عشرة مساكين(3) ، ولم يوجد لهما أيّ مدرك أو رواية ولو ضعيفة ، وهما أعرف بما أفتيا به .
فتحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّ ما عليه المشهور واختاره في المتن من أنّ الكفّارة إطعام عشرة مساكين هو الصحيح .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحدائق 13 : 214 .
(2) ، (3) المختلف 3 : 418 .
|