ــ[469]ــ
بل الأقوى عدم جواز الصوم المندوب في السفر أيضاً (1) ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على نفسي أن أصوم حتّى يقوم القائم «فقال : صم ، ولا تصم في السفر» إلخ(1) .
وموثّقة مسعدة بن صدقة : في الرجل يجعل على نفسه أيّاماً معدودة مسـمّاة في كلّ شهر ، ثمّ يسافر فتمرّ به الشهور ، أ نّه لا يصوم في السفر ولا يقضيها إذا شهد(2) .
وموثّقة عمّار : عن الرجل يقول : لله عليّ أن أصوم شهراً ، أو أكثر من ذلك أو أقل ، فيعرض له أمر لابدّ له أن يسافر ، أيصوم وهو مسافر ؟ «قال : إذا سافر فليفطر» إلخ(3) ، ونحوها غيرها .
ولكنّها معارَضـة بمعتبرة ابراهيم بن عبدالحميد : عن الرجل يجعل لله عليه صوم يوم مسمّى «قال : يصوم أبداً في السفر والحضر»(4) .
وبما أنّ المعارضة بالتباين فتكون صحيحة ابن مهزيار المتقدّمة ـ المفصّلة بين نيّة السـفر بخصوصه عند النذر فيجـوز ، وبين الإطـلاق وعدم النيّة فلا يجوز ـ وجهاً للجمع بين الطائفتين فتُحمَل المعتبرة على الفرض الأوّل، والروايات الاُول على الثاني ، فتكون النتيجة : أنّ الصوم المنذور غير جائز في السفر ما لم يكن منويّاً .
(1) وإن نُسِب إلى الأكثر جوازه ، بل أخذه صاحب الوسائل في عنوان بابه فقال : باب جواز الصـوم المندوب في السفر على كراهة (5) . ومعلوم أنّ مراده بالكراهة أقلّيّة الثواب كما هو الحال في سائر العبادات المكروهة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ، (2) ، (3) الوسائل 10 : 199 / أبواب من يصح منه الصوم ب 10 ح 9 ، 10 ، 8 .
(4) الوسائل 10 : 198 / أبواب من يصح منه الصوم ب 10 ح 7 .
(5) الوسائل 10 : 202 .
ــ[470]ــ
وكيفما كان ، فيدّل على عدم الجواز عدّة أخبار :
منها : صحيح البزنطي ، قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الصيام بمكّة والمدينة ونحن في سفر «قال: أفريضة؟» فقلت: لا، ولكنّه تطوّع كما يتطوّع بالصلاة ، قال : «فقال : تقول اليوم وغذاً ؟ » فقلت : نعم «فقال : لا تصم»(1).
وموثّقة عـمّار : عن الرجل يقول : لله عليّ أن أصوم ... إلى أن قال : «لا يحلّ له الصوم في السفر ، فريضة كان أو غيره ، والصوم في السفر معصية»(2) .
وهذه تفترق عن السابقة في عدم إمكان الحمل على الكراهة ، لمكان التعبير بالمعصية ، الظاهر في عدم المشروعيّة ، لا مجرّد النهي القابل للحمل عليها كما في الاُولى .
ونحوهما غيرهما ، لكنّها ضعاف السند، ويعضدهما عمومات المنع، مثل قوله (عليه السلام) : «ليس من البرّ الصيام في السفر»(3) وغير ذلك .
وبإزائها جملة من الأخبار دلّت على الجواز .
منها : مرسلة إسماعيل بن سهل عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال : خرج أبو عبدالله (عليه السلام) من المدينة في أيّام بقين من شهر شعبان : فكان يصوم ، ثمّ دخل عليه شهر رمضـان وهو في السـفر فأفطر ، فقيل له : تصوم شعبان وتفطر شهر رمضان ؟! «فقال : نعم ، شعبان إليّ إن شئت صمت وإن شئت لا ، وشهر رمضان عزم من الله عزّ وجلّ على الإفطار»(4) .
وهي واضحة الدلالة بل صريحة في الجواز في النافلة ، ولكن سندها بلغ من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10 : 202 / أبواب من يصح منه الصوم ب 12 ح 2 .
(2) الوسائل 10 : 199 / أبواب من يصح منه الصوم ب 10 ح 8 .
(3) الوسائل 10 : 177 / أبواب من يصح منه الصوم ب 1 ح 10 .
(4) الوسائل 10 : 203 / أبواب من يصح منه الصوم ب 12 ح 4 .
ــ[471]ــ
الضعف غايته ، فإنّ مجموع من في السند ـ ما عدا الكليني وعدّة من أصحابنا ـ بين مجهول أو مضعّف ، إذ حال سهل معلوم ، ومنصور ضعّفه أصحابنا كما في النجاشي(1) ، وابن واسع مجهول ، وإسماعيل إمّا مهمل أو ضعيف ، مضافاً إلى أ نّها مرسلة فلا تصلح للاستناد بوجه .
ونحوها مرسلة الحسن بن بسّام الجمّال(2) ، المشتملة على نظير تلك القصّة ، بل الظاهر أنّها عينها ، ولعلّ الرجل المرسل عنه فيهما واحد ، وكيفما كان ، فهي أيضاً ضعيفة بالإرسال وجهالة الجمّال وضعف سهل .
فهاتان الروايتان غير قابلتين للاعتماد، ولايمكن الجمع بينهما ـ لو تمّ سندهما ـ وبين ما تقدّم من الصحيح والموثّق بالحمل على الكراهة المنسوب إلى الأكثر واختاره في الوسائل كما مرّ ، لإباء لفظ المعصية الوارد في الموثّقة عن ذلك جدّاً كما تقدم ، فلا بدّ من تقديمهما على هاتين الروايتين ، لموافقتهما مع عمومات المنع ، إذ أنّ التخصيص يحتاج إلى الدليل ، ولا دليل بعد ابتلاء المخصّص بالمعارض .
والعمدة في المقام صحيحة سليمان الجعفري، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : «كان أبي (عليه السلام) يصوم يوم عرفة في اليوم الحار في الموقف ، ويأمر بظلٍّ ، مرتفع فيُضرب له»(3) .
ولكنّها أيضاً حكاية فعل مجمل العنوان ، إذ لم يذكر وجه صومه (عليه السلام)، ولعلّه كان فرضاً ولو بالنذر، فإنّ الصوم يوم عرفة وإن كان مرجوحاً لمن يضعف عن الدعاء فيكون هو أهمّ لدى المزاحمة ، ولكنّه (عليه السلام) لم يضعفه ، فلعلّه كان (عليه السلام) ناذراً ، فليست هي إلاّ في مقام أ نّه (عليه السلام) كان يصوم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رجال النجاشي : 413 / 1102 .
(2) الوسائل 10 : 203 / أبواب من يصحّ منه الصوم ب 12 ح 5 .
(3) الوسائل 10 : 203 / أبواب من يصحّ منه الصوم ب 12 ح 3 .
ــ[472]ــ
إلاّ ثلاثة أيّام للحاجة في المدينة (1) ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا اليوم وأ نّه مشروع ، وأمّا أ نّه كان فريضة بالنذر ونحوه أو نافلة فلا دلالة لها على ذلك بوجه ، فلتحمل على النذر ، جمعاً بينها وبين ما تقدّم من المنع عن الصوم في السفر حتّى النافلة .
ولو سُلّم فغايته أن يكون يوم عرفة مستثنىً عن هذا الحكم ، فلا تكون الصحيحة دليلا على الجواز في كلّ يوم على سبيل الإطلاق كما لا يخفى .
فتحصّل : أنّ الأظهر ما ذكره في المتن من عدم الجواز .
(1) بلا خلاف فيه ، لما رواه الشيخ بسند صحيح عن معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال : إن كان لك مقام بالمدينة ثلاثة أيّام صمت أوّل الأربعاء ، وتصلّي ليلة الأربعاء عند اسطوانة أبي لبابة . وهي اسطوانة التوبة التي كان ربط نفسه إليها حتّى نزل عذره من السماء ، وتقعد عندها يوم الأربعاء ، ثمّ تأتي ليلة الخميس التي تليها ممّا يلي مقام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ليلتك ويومك ، وتصوم يوم الخميس ، ثمّ تأتي الاسطوانة التي تلي مقام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ومصلاّه ليلة الجمعة فتصلّي عندها ليلتك ويومك ، وتصوم يوم الجمعة» إلخ (1) .
وقريب منها ما رواه الكليني بسند صحيح عنه(2) ، وما رواه أيضاً في الصحيح عن الحلبي(3) ، المؤيّد بالمرسل المروي عن مزار ابن قولويه(4) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 14 : 350 / أبواب المزار ب 11 ح 1 .
(2) الوسائل 14 : 351 / أبواب المزار ب 11 ح 4 ، الكافي 4 : 558 / 5 .
(3) الوسائل 14 : 351 / أبواب المزار ب 11 ح 3 .
(4) الوسائل 14 : 352 / أبواب المزار ب 11 ح 5 ، كامل الزيارات : 25 .
ــ[473]ــ
والأفضل إتيانها ((1)) في الأربعاء والخميس والجمعة (1) .
وأمّا المسافر الجاهل بالحكم لو صام فيصحّ صومه ويجزئه (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بل هو الأحوط بل الأظهر، فإنّ النصوص كلّها قد وردت في هذه الأيّام الثلاثة بخصوصها، فالتعدّي إلى غيرها يحتاج إلى إلغاء خصوصيّة المورد ، ولا دليل عليه .
ودعوى القطع بعدم الفرق لا تخلو من المجازفة ، وليست ثمّة رواية مطلقة كي يقال ببقاء المطلق على إطلاقه في باب المستحبّات وحمل المقيّد على أفضل الأفراد .
وعليه فلا موجب لرفع اليد عن مطلقات المنع بعد اختصاص التقييد بمورد خاصّ ، فلا مناص من الالتزام بعدم جواز الصيام فيما عدا تلك الأيّام .
(2) فيختصّ الحكم بالبطلان بالعالم بالحكم كما تقدّم نظيره في الصلاة ، فكما أ نّه لو أتمّ الجاهل بالحكم صحّت صلاته ، فكذا لو صام ، فإنّ الإفطار كالقصر ، والصيام كالتمام .
وقد دلّت عليه عدّة أخبار معتبرة :
منها : صحيحة العيص عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال: من صام في السفر بجهالة لم يقضه»(2).
وصحيحة عبدالرّحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألته عن رجل صام شهر رمضان في السفر «فقال : إن كان لم يبلغه أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نهى عن ذلك فليس عليه القضـاء ، وقد أجزأ عنه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بل الأحوط الاقتصار على ذلك .
(2) الوسائل 10 : 180 / أبواب من يصح منه الصوم ب 2 ح 5 .
ــ[474]ــ
حسبما عرفته في جاهل حكم الصلاة(1) ، إذ الإفطار كالقصر والصيام كالتمام في الصلاة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصوم»(1) .
وبهذه الأخبار ترفع اليد عن إطلاق ما دلّ على البطلان ، كصحيحة معاوية ابن عمّار ، قال : سمعته يقول : «إذا صام الرجل رمضان في السفر لم يجزئه وعليه الاعادة»(2) ، فتُحمَل على العالم .
(1) تقدّم في كتاب الصلاة حكم الجاهل إذا صلّى تماماً وكانت النتيجة : أ نّه إن كان جاهلا بأصل الحكم صحّت صلاته حتّى إذا انكشف الخلاف في الوقت فضلا عن خارجه ، وهل يستحقّ العقاب على ترك التعلّم ؟ فيه كلام مذكور في محلّه، وأمّا إذا كان عالماً بأصل الحكم جاهلا بالخصوصيّات: فإن كان الانكشاف في الوقت أعاد ، وإن كان في خارجه لحق بالناسي ، فلا يجب عليه القضاء .
هذا في الصلاة .
وأمّا الصوم : فبما أ نّه تكليف وحداني مستوعب للوقت فلا تتصوّر في مثله الإعادة .
وإنّما الكلام هنا في القضاء فقط ، وقد عرفت أنّ النصوص المتقدّمة وجملة منها صحاح دلّت على عدم القضاء على من صام في السفر جهلا ، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين الجاهل بأصل الحكم والجاهل بالخصوصيّات ، مثل ما لو تخيّل عدم كفاية المسافة التلفيقيّة في التقصير ، أو عدم لزوم تبييت النيّة ونحو
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10 : 179 / أبواب من يصح منه الصوم ب 2 ح 2 .
(2) الوسائل 10 : 179 / أبواب من يصح منه الصوم ب 2 ح 1 .
ــ[475]ــ
لكن يشترط أن يبقى على جهله إلى آخر النهار. وأمّا لو علم بالحكم في الأثناء فلا يصحّ صومه(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك ، فيصدق أ نّه صام بجهالة حسبما ورد في تلك النصوص ، ولا ينافيه ما ورد في البعض الآخر منها من إناطة عدم القضاء بعدم بلوغه نهي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، لوضوح أنّ المراد بلوغ النهي عن شخص هذا الصوم بماله من الخصـوصيّات ، لا عن طبيعي الصـوم في السفر الذي مرجعه إلى أ نّه إن كان مشرِّعاً في صومه فقد عصى وعليه القضاء ، وإلاّ فلا قضاء عليه ، ومن المعلوم عدم انطباق ذلك على المقام .
وكيفما كان ، فلا ينبغي التأمّل في أنّ مقتضى إطلاق النصّ والفتوى عدم الفرق في المقام بين الجهل بأصل الحكم أو بخصوصيّاته ، فالاعتبار بنفس العلم والجهل ، فإن صام عن علم بطل ، وإن كان عن جهل بأن اعتقد الصحّة ولو لأجل الجهل بالخصوصيّة صحّ ، وهل يعاقب على ترك التعلم ؟ فيه بحث ، وهو كلام آخر كما مرّ .
(1) كما هو الحال في الصلاة أيضاً ، فكما أنّ صحتها تماماً مشروطة باستمرار الجهل إلى نهاية العمل لأ نّها واجب واحد ارتباطي فلو التفت في الأثناء فقد أتمّ بعلم لا بجهالة و مثله غير مشمول للنصوص ، فكذلك في الصوم بمناط واحد ، فلو التفت أثناء النهار قبل الزوال أو بعده فليس له أن يتمّ صومه ، إذ لا دليل على جـوازه بعد أن كان مأموراً بالإفطار بمقتضى إطلاقات السـفر واختصاص نصوص الصحّة بما إذا تحقّق الصيام بتمامه خارجاً عن جهل .
وبالجملة : فالحكم في كلا المقامين مشروط بعدم انكشاف الحال في أثناء العمل .
|