بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين الطاهرين الغرّ الميامين .
وبعد : فهذا هو الجزء الثاني من كتاب الصوم من «مستند العروة الوثقى» مع كتاب الاعتكاف، ونسأله تعالى التوفيق لإنهاء بقيّة الأجزاء ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
ــ[1]ــ
فصل
في شرائط وجوب الصوم
وهي اُمور :
الأوّل والثاني : البلوغ ، العقل ، فلا يجب على الصبي والمجنون(1) إلاّ أن يكملا قبل طلوع الفجر (2) ، دون ما إذا كملا بعده (3) فإنّه لا يجب عليهما وإن لم يأتيا بالمفطر ، بل وإن نوى الصبي الصوم ندباً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يدلّنا على اعتبار الكمال من جهة البلوغ والعقل في كافة التكاليف ـ التي منها وجوب الصوم ـ ما دلّ من الروايات على رفع القلم عن الصبي وعن المجنون ، الكاشف عن أنّ المخاطَب في أوامر الله تعالى ونواهيه إنّما هو البالغ العاقل ، وغيره خارج عن موضوع التكليف .
(2) لاندراجهما بالكمال الحاصل قبل فعليّة الخطاب في موضوع التكليف ، المستلزم لشمول الحكم ـ طبعاً ـ لهما كغيرهما من مستجمعي شرائط التكليف .
(3) لا ريب في عدم الوجوب وقتئذ فيما لو كان قد تناول المفطر قبل أن يتّصف بالكمال ، لجواز الإفطار له آنذاك ، ومعه لا مقتضي لتكليفه بعدئذ بالامساك ، بعد وضوح أنّ الصوم عبادة واحدة مركّبة من مجموع الإمساكات المحدودة من طلوع الفجر إلى الغروب ، فإذا أفطر في بعض الوقت ولم يكن
ــ[2]ــ
صائماً فأمر غير الصائم بالإمساك التأدّبي تعبّداً يحتاج إلى الدليل ، ولم يقم عليه دليل إلاّ فيمن أفسد صومه ، غير الشامل لمثل المقام كما هو واضح .
وأمّا لو لم يكن متناولا فالظاهر أنّ الأمر أيضاً كذلك ، لعدم عدّ الإمساك السابق من الصوم بعد عدم كونه مأموراً به حالئذ حسب الفرض ، والاجتزاء بالإمساك بقيّة النهار بتنزيل الباقي منزلة المجموع ، نظير ما ورد في المسافر الذي يقدم أهلـه قبل الزوال من تجديد النيّة في هذا الحـال بدلا عن طلوع الفجر يحتاج إلى الدليل بعد كون الاجتزاء المزبور على خلاف القاعدة ، ولم يرد عليه دليل في المقام .
هذا فيما إذا لم يكن ناوياً للصوم قبل ذلك .
وأمّا إذا كان ناوياً للصوم الندبي وقلنا بمشروعيّة عبادات الصبي ـ كما هو الحقّ ـ فبلغ أثناء النهار ، فهل يجب عليه إكمال هذا الصوم ويحسب له صوماً ، أو لا ؟
احتاط الماتن في المقام بالإتمام والقضاء ـ على ما يقتضيه ظاهر عبارته ـ وإن كان الاحتياط استحبابيّاً .
أقول : يقع الكلام تارةً : من حيث وجوب الإتمام وعدمه ، واُخرى : من ناحية القضاء .
أمّا الكلام من حيث الاتمام : فالظاهر عدم وجوبه ، لعدم الدليل عليه ، فإنّ صومه وإن كان مشروعاً ومأموراً به حسب الفرض إلاّ أ نّه كان على صفة الندب ، إذ المأمور بالصوم الواجب هو من كان بالغاً وقت تعلّق الخطاب ـ أعني : من لدن طلوع الفجر ـ ومن البيّن أنّ الالتزام بانقلاب الأمر الندبي إلى الوجوبي في مرحلة البقاء يحتاج إلى الدليل ، ولا دليل عليه في المقام .
ودعوى أنّ المرفوع إنّما كان هو الإلزام حال الصِبا وحين صغره ، وأمّا بعد
ــ[3]ــ
البلوغ فالإلزام باق على حاله .
مدفوعةٌ بأنّ الصوم تكليف وحداني لا تبعّض فيه متعلّق بالإمساك من الطلوع إلى الغروب على صفة الوجوب أو الاستحباب ، والذي كان ثابتاً سابقاً هو الأمر الاستحبابي ولم يتعلّق الوجوبي من الأوّل .
وأمّا تعلّقه بالإمساك في جزء من النهار والاجتزاء به عن الكلّ فهو إنّما ثبت في موارد خاصّة كالمسافر الذي يقدم أهله قبل الزوال ، وليس المقام منها .
وأمّا قياس المقام بباب الصلاة فيما لو بلغ المصلّى آخر الوقت أثناء الصلاة المحكوم حينئذ بوجوب الإتمام بلا كلام ، ففي غير محلّه .
والوجه فيه : أنّ الصلاة المأمور بها المحدودة ما بين المبدأ والمنتهى طبيعة واحدة ، سواء أكان المتصدّي لها هو الصبي ـ بعد البناء على شرعيّة عباداته ـ أم البالغ ، غاية الأمر أنّ الأمر المتعلّق بها قد يكون وجوبيّاً واُخرى استحبابيّاً ، فالاختلاف إنّما هو من ناحية الأمر دون المأمور به .
ومن ثمّ ذكرنا في كتاب الصلاة : أنّ الصبي لو بلغ في الوقت بعد ما صلّى لم تجب عليه الإعادة .
ولا وجه لدعوى أنّ ما أتى به كان مندوباً، وإجزاؤه عن الواجب يحتاج إلى الدليل .
لما عرفت من وحدة الطبيعة واختصاص الخطاب بإقامة الصلاة ـ بحسب الانصراف العرفي ـ بمن لم يكن آتياً بها ومقيماً لها ، فلا جرم يجتزئ بما أتى به بطبيعة الحال .
وبعبارة اُخرى : المأمور به إنّما هو الكلّي الطبيعي المحدود ما بين الحدّين ، خوطب به صنفٌ وجـوباً وصنفٌ آخر ندباً ، والطبيعة طبيعة واحدة ، فإذا وُجِدت في الخارج صحيحة ومتقرّباً بها إلى الله تعالى لم يكن بعدئذ أيّ مقتض
ــ[4]ــ
للإعادة وإن طرأ وصف الوجوب حسب الفهم العرفي كما لا يخفى .
ومثله : ما لو بلغ أثناء الصلاة مع سعة الوقت فإنّه لا يجب عليه القطع والإعادة ، غايته انقلاب الأمر بقاءً إلى الوجوب ، فيصبح إذن كالبالغ مخيّراً ـ مع الغضّ عن دليل حرمة القطع ـ بين الإكمال والاستئناف كما هو الحال في جميع موارد التخيير العقلي ، فإنّ الواجب ارتباطي وهو ما لم يفرغ عنه مخاطَب بإيجاد الطبيعة وامتثالها ، ويتحقّق إيجادها تارةً بتكميل هذا الفرد وتسليمه ، واُخرى برفع اليد عنه والإتيان بفرد آخر ، فإنّ الصبي البالغ في الأثناء يشاطر البالغين في هذا المناط بعد ما عرفت من اتّحاد الطبيعة ، فيثبت التخيير المزبور في حقّه أيضاً حسبما عرفت .
وأمّا لو بلغ أثناءها مع ضيق الوقت ، فقد يتمكّن من إدراك ركعة واحدة لو قطع واُخرى لا .
لا ينبغي التأمّل في انقلاب الأمر إلى الوجوب في الفرض الأوّل ، لتمكّنه من الإتيان بالطبيعة إما بالإتمام أو الاستئناف على حذو ما عرفت ، غير أ نّه يتعيّن عليه اختيار الأوّل ، نظراً إلى قصور دليل الاجتزاء بالركعة عن الشمول لصورة التعجيز الاختياري ، وأ نّه ما دام يتمكّن من إدراك التمام في الوقت ـ وهو متمكّن منه في المقام بالإتمام ـ لا ينتقل إلى البدل الذي هو وظيفة العاجز بطبعه عن إدراك المبدل منه .
وأمّا في الفرض الثاني ـ كما لو بلغ وهو في الركوع الرابع من صلاة العصر ـ فالظاهر عدم وجوب الإتمام حينئذ ، بل له رفع اليد أو الإتمام ندباً ، إذ الخطاب الوجوبي بالصلاة ذات الأربع إنّما يتوجّه نحو من يتمكّن من الإتيان بها ، إمّا بنفسها أو ببدلها ، ببركة دليل : «من أدرك» ، والمفروض عجزه عن الإتيان بشيء منهما ، فإنّه لدى الشروع لم يكن بالغاً ، وبعد البلوغ لم يكن قادراً على الركعة فضلا عن الأربع .
ــ[5]ــ
نعم ، يمكنه إدراك الأربع بإتمام هذا الفرد الذي كان شارعاً فيه قبل بلوغه ، إلاّ أنّ الكلام في شمول دليل الوجوب لمثله ، لما عرفت من استظهار اختصاصه بمن يتمكّن ولو من الركعة بعد الاتّصاف بالبلوغ .
هذا ، ولو تنازلنا وبنينا على الوجوب في باب الصلاة فلا نكاد نلتزم به في باب الصوم ، للفرق الواضح بين الموردين ، فإنّ الواجب هناك إنّما هو الطبيعي الجامع بين الأفراد الطوليّة المتخلّلة ما بين الحدّين ـ من الزوال إلى الغروب ـ ولقائل أن يقول : إنّ هذا الطبيعي مقدور له ولو بإتمام هذا الفرد فيشمله دليل الوجوب .
وأمّا في المقام فالمأمور به إنّما هو نفس هذا الفرد ، أي الإمساك من الطلوع إلى الغروب الذي قد مضى شطر منه ـ حسب الفرض ـ الممتنع تداركه .
لا أقول : إنّ المأمور به هو الموجود الخارجي ليندفع بما هو التحقيق من تعلّق الأوامر بالطبائع دون الأفراد .
بل أقول : إنّ المأمور به هو طبيعي الإمساكات المنضمّ بعضها إلى بعض والمرتبطة من المبدأ إلى المنتهى ، فليس لطبيعي الصوم في هذا اليوم إلاّ فرد واحد ممتدّ ، ومثله كيف يمكن إيجاده في الخارج بعد ما بلغ ؟! والممكن إنّما هو الإتيان ببقيّة الأجزاء ، غير أنّ الاجتزاء به عن الكلّ يحتاج إلى الدليل ، ولا دليل عليه في المقام حسبما عرفت .
وعلى الجملة : الفرق بين البابين لعلّه في غاية الوضوح ، لفعليّة الأمر بالصلاة سيّما مع إدراك الركعة وله الامتثال إمّا بإتمام هذا الفرد أو بإيجاد فرد آخر . وأمّا في المقام فالأمر الوجوبي غير موجود بعد البلوغ ، للعجز عن تمام المتعلّق ، والاجتزاء بالبعض والضمّ بما سبق وإن أمكن ولكنّه موقوف على قيام الدليل ، ولا دليل عليه في المقام .
ــ[6]ــ
لكن الأحوط مع عدم إتيان المفطر الإتمام والقضاء (1) إذا كان الصوم واجباً معيّناً ((1)) .
ولا فرق في الجنون بين الإطباقي والأدواري إذا كان يحصل في النهار ولو في جزء منه ، وأمّا لو كان دور جنونه في الليل بحيث يفيق قبل الفجر فيجب عليه . ــــــــــــــــــــــــ
(1) قد عرفت حكم الإتمام .
وأمّا الكلام من ناحية القضاء فقد احتاط في المتن بالجمع بينه وبين الإتمام .
ولا يبعد أن يكون هذا سهواً من قلمه الشريف ، لعدم احتمال القضاء بعد فرض الإتمام وعدم تناول المفطر كي يحتاط بالجمع المزبور ، إذ المفروض أ نّه قد أتمّ صومه ، فإن كان مأموراً بالإتمام فقد فعل ، وإلاّ فلم يفت عنه شيء ليقضيه . وإنّما يتّجه القضاء فيما لو أفطر لاحتمال فوت الصوم الواجب عليه وقتئذ، لافيما لم يفطر كما هو مفروض كلامه (قدس سره). وقد عرفت عدم الفوت في هذه الصورة أيضاً ، لعدم وجوب الإتمام ، كما هو الحال في المجنون الذي أفاق أثناء النهار ولم يفطر ، فإنّه لا يجب عليه إتمام الصوم ، لعدم الدليل عليه . ــــــــــــــــ
(1) لا حاجة إلى القضاء مع الإتمام ، والوجه فيه ظاهر .
|