ــ[62]ــ
الرابع : مضىّ ثلاثين يوماً من هلال شعبان أو ثلاثين يوماً من هلال رمضان ، فإنّه يجب العموم معه في الأوّل والإفطار في الثاني .
الخامس : البيّنة الشرعيّة (1) ، وهي خبر عدلين سواء شهدا عند الحاكم وقبل شهادتهما أو لم يشهدا عنده أو شهدا وردّ شهادتهما ، فكلّ من شهد عنده عدلان يجوز بل يجب عليه ترتيب الأثر من الصوم أو الإفطار ، ولا فرق بين أن تكون البيّنة من البلد أو من خارجه ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولاشك في عدم الثبوت بخبر العدل الواحد وإن بنينا ـ كما هو الصحيح ـ على أنّ خبره ـ بل خبر مطلق الثقة ـ حجّة في الموضوعات إلاّ ما خرج بالدليل ـ مثل : موارد القضاء ونحو ذلك ـ نظراً إلى أنّ عمدة المستند في الحجّيّة السيرة العقلائيّة التي لا يفرّق فيها بين الموضوعات والأحكام .
وذلك للروايات الكثيرة التي لا يبعد دعوى بلوغها حدّ التواتر الإجمالي ، الناطقة بعدم ثبوت الهلال ـ كالطلاق ـ بخبر العدل الواحد فضلا عن الثقة ، التي ذكر جملة وافرة منها صاحب الوسائل في المقام ، وجملة اُخرى منها في كتاب الشهادات ، وقد صرّح فيها أيضاً بعدم الثبوت بشهادة النساء ، بل لابدّ من شهادة رجلين عادلين ، فإنّ شهادة امرأتين وإن كانت معتبرة في سائر المقامات ـ مثل : الدعوى على الأموال ونحو ذلك ، وتكون قائمة مقام شهادة رجل واحد ـ لكن لا عبرة بها ، ولا بشهادة الرجل العدل الواحد في المقام ، ولا في باب الطلاق ، بمقتضى هذه النصوص كما عرفت .
(1) وقع الكلام في حجّيّة البيّنة ، أعني : شهادة رجلين عادلين في المقام ، وأ نّه هل يثبت الهلال بذلك أو انّ حجّيّتها مختصّة بغير المقام ؟
ــ[63]ــ
المعروف والمشهور هو الحجّيّة .
ونسب المحقّق إلى بعض إنكار الحجّيّة هنا مطلقاً ، وأ نّه لا بدّ من الشياع المفيد للعلم(1) .
وهذا القول شاذّ نادر ، بل لم يعرف من هو القائل وإن كان المحقّق لا ينقل ـ طبعاً ـ إلاّ عن مستند صحيح .
وذهب جماعة إلى التفصيل بين ما إذا كانت في السماء علّة من غيم ونحوه ، وما إذا لم تكن ، فتكون البيّنة حجّة في الأوّل دون الثاني .
وكيفما كان ، فالمتّبع هو الدليل .
فنقول : الروايات الدالّة على حجّيّة البيّنة على قسمين :
أحدهما : ما دلّ على الحجّيّة بلسان مطلق ونطاق عامّ من غير اختصاص بالمقام .
وقد تقدّم الكـلام حول ذلك مسـتقصىً في كتاب الطهارة عند التكلّم في ثبوت الطهارة والنجاسة بالبيّنة، وقلنا: إنّه استُدلّ على ذلك بقوله (عليه السلام) في موثّقة مسعدة بن صدقة : «والأشياء كلّها على هذا حتّى تستبين أو تقوم به البيّنة» وقد ناقشنا ثمّة وقلنا: أ نّه لا وجه لحمل هذه اللفظة على البيّنة الشرعيّة ، لعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة ولا المتشرعيّة لهذه الكلمة ، بل هي محمولة على المعنى اللغوي ـ أعني : مطلق الحجّة ـ كما هي مستعملة في ذلك في الكتاب العزيز كثيراً، مثل قوله تعالى: (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ ا لْبَيِّنَةُ)(2) وقوله تعالى: (بِالْبَيِّناتِ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشرائع 1 : 229 .
(2) البيِّنة 98 : 1 .
ــ[64]ــ
وَالزُّبُرِ )(1) إلى غير ذلك(2) .
وممّا يرشدك إلى أنّ المراد بها في الموثّقة ليس هو خصوص البيّنة الشرعيّة أ نّه على هذا لم يكن الحصر حاصراً، لإمكان ثبوت الأشياء بغير هذين ـ أعني : الاستبانة وقيام البيِّنة ـ مثل : الإقرار وحكم الحاكم ونحو ذلك ، فيكشف ذلك عن أنّ المراد مطلق الحجّة . ويكون حاصل المعنى : أنّ الأشياء كلّها على هذا حتّى تستبين ، أي تتّضح بنفسها بالعلم الوجداني ، أو أن تقوم به الحجّة المعتبرة ـ أي الطريق العلمي من الخارج ـ فإنّ البيِّنة بمعنى ما يتبيّن به الأمر .
فتحصّل : أنّ هذه الموثّقة بمجـرّدها قاصرة الدلالة على حجّيّة البيّنة الشرعيّة ، أعني : شهادة العادلين .
بل الذي يدلّ على حجّـيّتها على الإطلاق إلاّ ما خرج بالدليل ـ مثل : الشهادة على الزنا المتوقّفة على شهادة أربعة عدول ، ومثل : الدعوى على الميّت المحتاجة إلى ضمّ اليمين ـ قوله (صلّى الله عليه وآله) : «إنّما أقضي بينكم بالأيمان والبيِّنات» بضميمة ما ثبت من الخارج بدليل قاطع أ نّه (صلّى الله عليه وآله) كان يقضي بالبيّنة، أعني: بشهادة رجلين عادلين أو رجل وامرأتين .
فبعد ضمّ الصغرى إلى الكبرى نستنتج أنّ شهادة العدلين ممّا يتبيّن بها الأمر ويثبت بها الحكم والقضاء ، فيكشف ذلك عن ثبوت كلّ شيء بها إلاّ ما خرج بالدليل كما عرفت ، ويتحقّق بذلك صغرى للموثّقة المتقدّمة .
فيكفي هذا الدليل العام لإثبات حجّيّة البيّنة في المقام .
نعم ، لا اعتداد بشهادة المرأة هنا حسبما عرفت .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النحل 16 : 44 .
(2) شرح العروة 2 : 261 ـ 263 .
ــ[65]ــ
القسم الثاني : ما دل على حجّيّة البيّنة في خصوص المقام ، وهي الروايات الكثيرة المتظافرة ـ التي لا يبعد فيها دعوى التواتر الإجمالي ـ المصرّحة بذلك .
منها صحيحة الحلبي : «إنّ علياً (عليه السلام) كان يقول : لا اُجيز في الهلال إلاّ شهادة رجلين عدلين»(1) .
وصحيحة منصور بن حازم : «فإن شهد عندكم شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه»(2) ، ونحوهما غيرهما .
ولكن بإزائها روايات قد يتوهّم معارضتها لما سبق، لدلالتها على عدم حجّيّة البيّنة فيما إذا لم تكن في السماء علّة ، ومن أجلها مال في الحدائق إلى هذا القول(3) . وهذه روايات أربع وإن لم يذكر في الجواهر ما عدا اثنتين منها ، بل قد يظهر من عبارته عدم وجود الزائد عليهما، لقوله (قدس سره): ما عدا روايتين(4) ، فلاحظ .
وكيفما كان ، فالروايات التي يتوهّم فيها المعارضة ـ إمّا لاجل الدلالة على عدم الحجّيّة مطلقاً ، أو في خصوص عدم وجود العلّة ـ أربع كما عرفت :
إحداها : رواية حبيب الخزاعي ، قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : «لا تجوز الشهادة في رؤية الهلال دون خمسين رجلا عدد القسامة ، وإنّما تجوز شهادة رجلين إذا كانا من خارج المصر وكان بالمصر علّة فأخبرا أنّهما رأياه ، وأخبرا عن قوم صاموا للرؤية وأفطروا للرؤية»(5) .
ولكن الرواية ضعيفة السند أوّلا ، لا من أجل إسماعيل بن مرار ، لوجوده في
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10 : 286 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 1 .
(2) الوسائل 10 : 287 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 4 .
(3) الحدائق 13 : 245 ـ 246 .
(4) الجواهر 16 : 356 ـ 358 .
(5) الوسائل 10 : 290 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 13 .
ــ[66]ــ
أسـناد تفسـير علي بن إبراهيم بل من أجل حبيب الخزاعي كما في التهذيب والاستبصار وجامع الرواة (1) ، أو الجماعي كما في الجـواهر(2) ، وعلى أىّ حال فالرجل مجهول .
وأضاف في الوسائل نسخة : الخثعمي(3) . ولكن الظاهر أ نّه سهو من قلمه الشريف .
وكيفما كان ، فهذا الرجل وإن كان موثّقاً إلاّ أ نّه لم يثبت أ نّه الراوي ، لعدم ثبوت هذه النسخة لو لم يثبت عدمها، فغايته أنّ الرجل مردّد بين الموثّق وغيره ، فالرواية محكومة بالضعف على كلّ تقدير .
وثانياً : إنّها قاصرة الدلالة وغير صالحة للمعارضة ، لأنّ ظاهرها لزوم التعويل في أمر الهلال على العلم أو العلمي ، وعدم جواز الاتّكال على الاحتمال أو التظنّي ، إذ في فرض استهلال جماعة كثيرين وليس في السماء علّة لو ادّعى الهلال حينئذ رجلان قد يُطمأنّ بخطأهما فلا تكون مثل هذه البيّنة مشمولة لدليل الحجّيّة . فلا ينافي ذلك حجّيّة البيّنة في نفسها ، ولأجل ذلك أجاز (عليه السلام) شهادة الرجلين مع وجود العلّة ، وكون المخبر من خارج البلد لانتفاء المحذور المزبور حينئذ كما هو ظاهر .
وثالثاً : مع التسليم فغايته معارضـة هذه الرواية مع الروايات الخاصّة المتقدّمة الناطقة بحجّيّة البيّنة في خصوص الهلال ، فيتساقطان ، ويرجع بعدئذ إلى عمومات حجّيّة البيّنة على الإطلاق حسبما تقدّم .
الثانية : رواية أبي العـبّاس عن أبي عبدالله (عليه السلام) : «قال : الصوم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التهذيب 4 : 159 / 448 ، الاستبصار 2 : 74 / 227 ، جامع الرواة 1 : 178 .
(2) الجواهر 16 : 354 .
(3) لم ترد هذه الإضافة في الوسائل المحقّق جديداً .
ــ[67]ــ
للرؤية والفطر للرؤية ، وليس الرؤية أن يراه واحد ولا اثنان ولا خمسون»(1) .
وهي أيضاً ضعيفة بالقاسم بن عروة ، فإنّه لم يوثّق . نعم ، ورد توثيقه في الرسالة الساسانيّة(2) ، ولكن الرسالة لم يثبت بطريق صحيح أنّ مؤلّفها الشيخ المفيد (قدس سره) .
ومع الغضّ عن السند فالدلالة أيضاً قاصرة ، لأنّها في مقام بيان أنّ دعوى الرؤية بمجرّدها لا أثر لها وإن كان المدّعي خمسين رجلا ، لجواز تواطئهم على الكذب ، فإنّ غاية ذلك الظنّ وهو لا يغني من الحقّ ، فلا يسوغ التعويل عليه ، بل لا بدّ من الاعتماد على العلم أو ما هو بمنزلته ، فلا تنافي بينها وبين ما دلّ على حجّيّة البيّنة وأنّها بمثابة العلم تعبّداً .
وعلى الجملة : فالرواية ناظرة إلى عدم كفاية الظنّ ، وكأنّها ـ على ما أشار إليه في الجواهر في ذيل رواية اُخرى(3) ـ تعريضٌ على العامّة ، حيث استقرّ بناؤهم قديماً وحديثاً على الاستناد على مجرّد دعوى الرؤية ممّن يصلّى ويصوم ، ومعلومٌ أنّ هذا بمجرّده غير كاف في الشهادة .
فهذه الرواية أجنبيّة عن فرض قيام البيّنة ، ولذا لم يفرض فيها أنّ الخمسين كان فيهم العدول .
الثالثة : صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) : «قال : إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، وليس بالرأي ولا بالتظنّي ولكن بالرؤية . قال : والرؤية ليس أن يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد : هو ذا هو ، وينظر تسعة فلا يرونه ، إذا رآه واحد رآه عشرة آلاف ، وإذا كانت علّة فأتمّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10 : 290 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 12 .
(2) المسائل الصاغانية (مصنفات الشيخ المفيد 3) : 72 .
(3) الجواهر 16 : 356 .
ــ[68]ــ
شعبان ثلاثين» .
وزاد حمّاد فيه : وليس أن يقول رجل : هو ذا هو ، لا أعلم إلاّ قال : ولا خمسون(1) .
والمذكور في الوسائل هنا : أيّوب ، والصحيح : أبي أيّوب ، كما صرّح به لدى تعرّضه للرواية في الباب الثالث من أحكام شهر رمضان الحديث 2 ، فكلمة «أبي» سقطت في نسخة الوسائل لا في خصوص هذه الطبعة(2) .
وكيفما كان ، فحال هذه حال الرواية السابقة ، فإنّ سياقها يشهد بأنّها في مقام بيان عدم الاكتفاء بالظنّ وعدم الاعتماد على الرأي الناشئ من كبر الهلال أو ارتفاعه ونحو ذلك ، فلا أثر لكلّ ذلك وإن كثر المدّعون حتّى زادوا على الخمسين ـ مثلا ـ ما لم يُطمأنّ بصدقهم ، واحتمل تواطؤهم على الكذب ، ولذا لم يفرض فيها أنّ في المدّعين عدولا أو ثقات . وأين هذا من حجّيّة البينة ؟! فإنّه لا تنافي بين هذه وبين دليل الحجّيّة بوجه كما هو ظاهر جدّاً .
بقي الكلام في الرواية الرابعة ، وهي صحيحة أبي أيّوب إبراهيم بن عثمان بن الخزّاز عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال : قلت له : كم يجزئ في رؤية الهلال ؟ «فقال : إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدّوا بالتظنّي ، وليس رؤية الهلال أن يقوم عدّة فيقول واحد : قد رأيته ، ويقول الآخرون : لم نره ، إذا رآه واحد رآه مائة ، وإذا رآه مائة رآه ألف ، ولا يجزئ في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علّة أقلّ من شهادة خمسين ، وإذا كانت في السماء علّة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر»(3) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10 : 289 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 11 .
(2) هذه الكلمة موجودة في الوسائل المحقّق جديداً .
(3) الوسائل 10 : 289 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 10 .
ــ[69]ــ
فربّما يقال بأنّها معارضة لما سبق ، لدلالتها على أنّ السماء إذا لم تكن فيها علّة لا تقبل شهادة الاثنين حينئذ ولا الأكثر .
ولكن التأمّل يقضي بعدم المعارضة ، لأنّها بصدد بيان عدم جواز العمل بالظنّ كما عنون (عليه السلام) كلامه بذلك ، فالمقصود إنّما هو المنع عن التظنّي في فريضة رمضان ولزوم تحصيل العلم ، ولذا لم تفرض العدالة في الأقلّ من الخمسين ، ولابدّ من حمل هذا العدد على المثال ، وإلاّ فلا يمكن أن يقال : إنّ الخمسين يوجب العلم، وتسعة وأربعين لا يوجبه ، فالمراد التمثيل بعدد يستوجب حصول العلم عادةً .
وكيفما كان ، فهي مسوقة لبيان عدم حجّيّة الظنّ ، لا عدم حجّيّة البيّنة ، فلا تنافي دليل اعتبارها بوجه .
وممّا يؤكّد ذلك أ نّه (عليه السلام) حكم بقبول الشهادة إذا كانت في السماء علّة فيما إذا قدم الشاهدان من خارج المصر ، إذ نسأل حينئذ : أنّ المحلّ الذي يقدم الشاهدان منه هل في سمائه أيضاً علّة أو لا ؟ فعلى الأوّل كان حاله حال البلد فكيف لا تقبل شهادة الرجلين من البلد وتقبل من خارجه ؟ ! وعلى الثاني ـ وهو المتعيّن ـ يلزمه قبول الشاهدين من البلد أيضاً إذا لم يكن في سمائه علّة ، إذ التفكيك بينهما بقبول شاهدي الخارج دون الداخل مع تساويهما في عدم العلّة غير قابل للتصديق .
فلا تعارض الصحيحة حجّيّة البيّنة أبداً ، بل تؤكّدها حسبما عرفت .
ولو تنازلنا وسلّمنا المعارضة فحيث لا يمكن حمل نصوص الحجّيّة على ما إذا كانت في السماء علّة وكانت البيّنة من الخارج ، للزوم التخصيص بالفرد النادر كما لا يخفى ، فلا مناص من التساقط ، والمرجع بعدئذ إطلاقات حجّيّة البيّنة العامّة .
|