ــ[70]ــ
وبين وجود العلّة في السماء وعدمها (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فما ذهب إليه المشهور من حجّيّة البيّنة على الهلال من غير فرق بين ما إذا كانت في السماء علّة أم لا هو الصحيح .
(1) حسبما عرفت آنفاً .
نعم ، يستثنى من ذلك صورة واحدة جرياً على طبق القاعدة من غير حاجة إلى ورود الرواية ، وهي ما لو فرضنا كثرة المستهلّين جدّاً ، وليست في السماء أيّة علّة ، وادّعى من بين هؤلاء الجمّ الغفير شاهدان عادلان رؤية الهلال وكلّما دقّق الباقون وأمعنوا النظر لم يروا ، فمثل هذه الشهادة والحالة هذه ربّما يطمأنّ أو يجزم بخطئها ، إذ لو كان الهلال موجوداً والمفروض أنّ هذين لا مزيّة لهما على الباقين فلماذا اختصّت الرؤية بهما ؟ ! فلا جرم تكون شهادتهما في معرض الخطأ ، ولا سيّما وأنّ الهلال من الاُمور التي يكثر فيها الخطأ ، ويخيّل للناظر لدى تدقيق النظر ما لا واقع له ، وقد شوهد خارجاً كثيراً أنّ ثقةً بل عدلا يدّعي الرؤية ويحاول إراءة الناس من جانب ومن باب الاتّفاق يرى الهلال في نفس الوقت من جانب آخر .
وعلى الجملة : فنفس دليل الحجّيّة قاصر الشمول من أوّل الأمر لمثل هذه الشهادة، لاختصاصها بما إذا لم يعلم أو لم يطمأنّ بخطأ الحجّة ، والسيرة العقلائيّة أيضاً غير شاملة لمثل ذلك البتّة .
فهذه الصورة خارجة عن محلّ الكلام وأجنبيّة عمّا نحن فيه من غير حاجة إلى ورود نصّ خاصّ حسبما عرفت .
ــ[71]ــ
نعم ، يشترط توافقهما في الأوصاف (1) ، فلو اختلفا فيها لا اعتبار بها . نعم ، لو أطلقا أو وصف أحدهما وأطلق الآخر كفى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قد يفرض أنّ كلاًّ من الشـاهدين يخبر عن رؤية الهلال على سبيل الإطلاق .
واُخرى : يقيّده أحدهما خاصّة فيقول : رأيته وكان جنوبيّاً ـ مثلا ـ ويطلق الآخر .
وثالثةً : يقيّد كلّ منهما بقيد يطابق الآخر ، فيقول الآخر في المثال المزبور : إنّه كان جنوبيّاً أيضاً .
وحكم هذه الصور واضح، لصدق قيام البيّنة على شيء واحد كما هو ظاهر .
ورابعةً : يقيّد كلّ منهما بقيد يخالف الآخر ، وهذا على نحوين :
إذ تارةً : يكون القيد من الاُمور المقارنة غير الدخيلة في حقيقة الهلال ، كما لو أخبر أحدهما عن وجود سـحابة قريبة منه بحيث انحلّت شهادته إلى شهادتين : شهادة بأصل وجود الهلال ، وشهادة اُخرى بوجود السحاب قريباً منه ، وأنكر الآخر وجود السحاب .
وهذا أيضاً لا إشكال في عدم قدحه في تحقّق البيّنة الشرعيّة بعد اتّفاقهما على الشهادة بأصل رؤية الهلال ، فغايته إلغاء الضميمة التي هي مورد المعارضة، إذ لا ضير فيه بعد أن كانت أجنبيّة عن نفس الهلال .
وهذا نظير ما لو شهد أحدهما على الطلاق وأنّ المطلّق كان لابساً للباس أصفر ، ويقول الآخر : إنّ لباسه كان أبيض ، فإنّ هذه الحيثيّة أجنبيّة عن حريم الطلاق بالكلّيّة ، فيؤخذ بالشهادة على وقوع أصل الطلاق الذي هو مورد
ــ[72]ــ
للاتّفاق بلا إشكال .
واُخرى : يكون القيد من الخصوصيّات الفرديّة ومتعلّقاً بشخص الهلال وحقيقته ، كما لو شهد أحدهما بأنّه كان جنوبيّاً ، ويقول الآخر بأ نّه كان شماليّاً ، بحيث كانت لكلّ منهما شهادة واحدة متعلّقة بفرد خاص مغاير لما تعلّق بالفرد الآخر ، ونحوه ما لو أخبر أحـدهما بأ نّه كان مطوّقاً ، أو كانت فتحته نحو الأرض ، وقال الآخر بأنّ فتحته نحو السماء ، أو أ نّه لم يكن مطوّقاً ، ونحو ذلك ممّا يتعلّق بخصوصيّات نفس الهلال ـ دون الحالات المقارنة معه ـ بحيث إنّ أحدهما يخبر عن فرد ، ويخبر الآخر عن فرد آخر .
فبطبيعة الحال يقع التكاذب حينئذ بين الشهادتين ، لأنّ ما يثبته هذا ينفيه الآخر وبالعكس ، إذ لا يمكن أن يكون الهلال في آن واحد متّصفاً بخصوصيّتين متضادّتين ، فمن يدّعي الجنوبيّة ينفي الشمالية ، فكلّ منهما مثبت وناف لمدلول الآخر ، فلم يتّفقا على شيء واحد لتتحقّق بذلك البيّنة الشرعيّة .
نعم ، قد يقال : إنّهما وإن اختلفا في المدلول المطابقي وهو الإخبار عن فرد خاصّ من الهلال ، إلاّ أنّهما متّفقان في المدلول الالتزامي وهو الاخبار عن أصل وجود الهلال والكلّي الجامع القابل للانطباق على كلّ من الفردين ، ولا فرق في حجّـية البيّـنة ـ كغيرها ممّا هو من مقولة الحـكاية ـ بين المدلول المـطابقي والالتزامي، فإذا سقطت المطابقة عن الحجّية ـ إمّا لأجل المعارضة ، أو لعدم حصول الشهادة الشرعيّة ـ لا مانع من الأخذ بالمدلول الالتزامي .
ولكنّه يندفع بما تعرّضنا له مستقصىً في مبحث المياه عند التكلّم حول الشهادة على النجاسة وثبوتها بالبيّنة(1) ، وقلنا ثمّة ما ملخّصه : إنّ الدلالة الالتزاميّة كما أنّها تابعة للمطابقيّة في الوجود ـ أي في أصل الدلالة وتحقّقها ـ كذلك تتبعها في
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح العروة 2 : 260 ـ 266 .
ــ[73]ــ
الحجّيّة ، فإنّ ذلك هو مقتضى ما هو المستند لحجّيّة البيّنة وغيرها من السيرة العقلائيّة ونحوها ، فإنّها ناطقة بأنّها تدور مدارها ثبوتاً وسقوطاً ، وجوداً وحجّيّةً ، فمع سقوط المطابقيّة عن الحجّيّة لا دليل على حجّيّة الكلام في الدلالة الالتزاميّة حتّى فيما إذا كان اللزوم بيّناً بالمعنى الأخصّ، بل هي تتبعها في السقوط لا محالة .
فلو فرضنا قيام البيّنة على أنّ الدار التي هي تحت يد زيد لعمرو ، فلا شك في أنّ المال يؤخذ حينئذ منه ويُعطى لعمرو ، لتقدّم البيّنة على اليد .
وهذه الشهادة الدالّة بالمطابقة على أنّ الدار لعمرو لها دلالة التزاميّة باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، وهي أنّها ليست لزيد ، لامتناع اجتماع ملكيّتين مستقلّتين على مال واحد .
وحينئذ فلو فرضنا أن عمرواً اعترف بأنّ الدار ليست له فلا ريب في سقوط البيّنة عندئذ عن الحجّيّة ، لتقدّم الإقرار عليها ، بل على غيرها أيضاً من سائر الحجج حتّى حكم الحاكم .
أفهل يمكن القول حينئذ بأنّ الساقط هو الدلالة المطابقيّة ـ وهو كونها لعمرو ـ دون الالتزاميّة ـ أعني : عدم كونها لزيد ـ فتؤخذ الدار من يده ، ويعامل معها معاملة مجهـول المالك باعتبار أنّ البيّنة أخبرت بالالتزام بأنّها ليست لزيد ولم يعرف مالكها ؟
ليس كذلك قطعاً ، والسرّ فيه ما ذكرناه هناك من أنّ الشهادة على الملزوم وإن كانت شهادة على اللازم ـ ولا سيّما في اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ كالمثال المتقدّم ـ إلاّ أنّها ليست شهادة على اللازم مطلقاً وأينما سرى ، بل حصّة خاصّة منه ، وهي اللازم لهذا الملزوم المجتمع معه في الوجود . فمن يخبر في المثال عن أنّ الدار لعمرو فهو يخبر طبعاً عن عدم كونها لزيد ، ذاك العدم الذي هو لازم
ــ[74]ــ
لملكيّة عمرو ، لا أ نّه يخبر عن عدم ملكيّة زيد على سبيل الإطلاق ، فهو يخبر عن حصّة خاصّة من اللازم التي هي من شؤون الشهادة على الملزوم ، فإذا سقط الملزوم بمقتضى الاعتراف تبعه سقوط اللازم بطبيعة الحال ، فيكون اعتراف المقرّ له إنكاراً للاّزم .
وكذلك الحال في بقية اللوازم ، فمن أخبر عن أنّ هذا ثلج فقد أخبر عن بياضه لا عن طبيعي البياض الجامع بين الثلج والقطن ، بل خصوص هذه الحصّة المقارنة معه ، فإذا علمنا من الخارج أنّ ذاك الجسم لم يكن ثلجاً ليس لنا أن نقول : إنّه أبيض .
وعلى الجملة : الإخبار عن الملزوم في باب الشهادة وغيرها إنّما يكون إخباراً عن اللازم فيما هو لازم له ، أي عن الحصّة الخاصّة الملازمة لهذا الملزوم ، لا عن الطبيعي .
وعليه ، فمن يشهد برؤية الهلال في طرف الجنوب لا يخبر ـ بالدلالة الالتزاميّة ـ عن وجود جامع الهلال ليشاركه في هذا الإخبار من يشهد برؤيته في طرف الشمال فتتحقّق بذلك البيّنة الشرعيّة ، وإنّما يخبر عن الحصّة المقارنة لهذا الفرد ، والمفروض عدم ثبوته ، لكونه شاهداً واحداً ، وهكذا الشاهد الآخر ، فما يخبر به كلّ منهما غير ما يخبر به الآخر . إذن فلم تثبت رؤية الهلال بالبيّنة الشرعيّة ، لعدم تعلّق الشهادتين بموضوع واحد ، لا بالدلالة المطابقيّة ولا الالتزاميّة حسبما عرفت .
ونظير ذلك ما لو ادّعى كلّ من زيد وعمرو أنّ بكراً باعه داره ، ولكلّ منهما شاهد واحد ، فإنّه لا يثبت بذلك تحقّق البيع ، وتردّد المالك بين زيد وعمرو بدعوى توافق الشاهدين على هذا المدلول الالتزامي، إذ ليس اللازم هو الجامع ، بل الحصّة الخاصّة المغايرة للحصّة الاُخرى كما عرفت .
|