وأمّا ما ذكره (قدس سره) بعد ذلك من أ نّه مع الشكّ يرجع إلى الاستصحاب إن أمكن وإلاّ فإلى أصالة الاحتياط ، فالظاهر أنّ هذين الأمرين لا يجتمعان في مورد واحد ، فإنّ الشبهة المفروضة إمّا أ نّها حكميّة مفهوميّة ، أو موضوعيّة خارجيّة .
فعلى الأوّل ـ كما لعلّه الظاهر من العبارة بقرينة الرجوع إلى العرف الذي هو المرجع في الشبهات المفهوميّة لا المصداقيّة كما لا يخفى ـ : فما ذكره (قدس سره) حينئذ من الاحتياط في وجوب الزكاة هو الصحيح ، بل الأمر أوضح من ذلك ، وينبغي الفتوى به صريحاً ، لأنّ أدلّة وجوب الزكاة مطلقة، والدليل المنفصل قيّد الوجوب بما إذا كان المال عنده وتحت يده ، فإذا شُكّ في هذا العنوان ـ لشبهة مفهوميّة دائرة بين الأقلّ والأكثر ـ فلا محالة يُشَكّ في التقييد الزائد على المقدار المتيقّن ، فيُرجَع فيه إلى الإطلاق .
ووجهه ظاهرٌ على ما بيّناه في الاُصول (1) ، فإنّ ظهور العامّ أو المطلق حجّة لا يُرفَع اليد عنها إلاّ بحجّة أقوى ، والمخصّص أو المقيّد المنفصل إنّما يتقدّم ويكون أقوى فيما إذا انعقد له الظهور وتمّت الدلالة ، أمّا إذا كان مجملاً دائراً بين الأقلّ والأكثر ـ كما هو المفروض في المقام ـ فلا بدّ من الاقتصار على المقدار المتيقّن إرادته المحرز دلالته ، وهو الأقلّ ، وأمّا الزائد المشكوك فلا موجب لرفع اليد عن ظهور العـامّ أو المطلق بالإضافة إليه ، لعدم نهوض حجّة أقوى على خلافه .
فلا بدّ من الالتزام بوجوب الزكاة في المقام ، عملاً بظهور العامّ ، ما لم يحرز أنّ المال ليس عنده كما هو المفروض .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محاضرات في اُصول الفقه 5 : 162 ـ 166 .
ــ[50]ــ
ولكن ما ذكره (قدس سره) من الرجوع إلى الاستصحاب غير وجيه ، إذ لا مجال للرجوع إليه في الشبهات المفهوميّة الدائرة بين الأقلّ والأكثر .
ووجهه : ما تعرّضنا له في الاُصول مستقصىً (1) .
وملخّصه : أنّ الاستصحاب ناظرٌ إلى إبقاء ما شكّ في بقائه من وجود أو عدم ، وهذا غير متحقّق في موارد الشبهات المفهوميّة ، لتعلّق الشكّ فيها بشيء آخر أجنبي عن يقين المكلّف ، وشكّه ـ مثلاً ـ إذا شكّ في بقاء النهار من أجل الشكّ في مفهوم الغروب وتردّده بين سقوط القرص أو زوال الحمرة المشرقيّة ، فليس لدينا حينئذ أيّ شكٍّ في الموجود الخارجي ، لأنّ الغروب بمعنى السقوط متحقّق وجداناً، وبمعنى الزوال غير متحقّق وجداناً أيضاً ، فيستصحب أيّ شيء بعد كون كلٍّ منهما متيقّناً ؟!
نعم ، يشكّ في مفهوم الغروب عرفاً وأنّ اللفظ اسمٌ لأيٍّ منهما ، فالشكّ في الحقيقة شكٌّ في الوضع اللغوي أو العرفي ، ومن البديهي خروج إثباته عن عهدة الاستصحاب .
وبالجملة : فليس لدينا موجود خارجي أو معدوم يُشَكّ في بقائه كي يُستصحَب .
نعم ، الحكم الشرعي مشكوكٌ فيه ، وهو جواز الإتيان بالظهرين أو عدم جواز الإتيان بالعشاءين أو الإفطار في المتخلّل ما بين الوقتين ، فإنّه في نفسه قابلٌ للاستصحاب، لتماميّة الأركان، إلاّ أ نّه لا يجري من جهة الشكّ في الموضوع، فإنّ جواز الإتيان بالظهرين قبل ذلك إنّما كان من أجل بقاء موضوعه ـ وهو النهار ـ وهذا فعلاً مشكوكٌ فيه حسب الفرض ، وكذا الحال في الحكمين الآخرين ، للشكّ في تحقّق موضوعهما ، وهو الليل . وتفصيل الكلام في محلّه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الاُصول 3 : 234 .
|