ــ[54]ــ
ولا يخفى أنّ هذا الكلام وجيهٌ بحسب الكبرى ، فلا يُحمَل على التقيّة إلاّ مع تحقّق المعارضة بنحو يبقى العرف متحيّراً . أمّا لو كان أحد الدليلين قرينةً على التصرّف في الآخر عرفـاً ـ كما لو ورد في دليل آخر أ نّه لا بأس بتركه ـ فلا موجب للحمل على التقيّة ، وهذا كثيرٌ في أبواب الفقه .
وأمّا بحسب الصغرى ، فليس كذلك ، إذ لو كانت صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم متضمّنةً للأمر بالزكاة بمثل قوله : «زكّه» لاتّجه حينئذ رفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب بقرينة الرواية الاُخرى الصريحة في الترخيص في الترك ، فيُجمَع بالحمل على الاستحباب .
ولكن الوارد فيها هكذا : «فعليها الصدقة واجبة» أي ثابتة ـ كما لا يبعد ـ وقد تضمّنت موثّقة أبي بصير : أ نّه ليس على غلاّته زكاة ، أي ليست بثابتة .
ومن الواضح أنّ هذين الكلامين ـ أعني قولنا : الزكاة ثابتة ، والزكاة غير ثابتة ـ متهافتان ، بل لا يبعد أن يكون من أظهر أفراد التعارض كما لا يخفى .
وقد ذكرنا في الاُصول: أنّ المناط في المعارضة أن يُفرَض الدليلان المنفصلان متّصلين ومجتمعين في كلام واحد ، فإن كانا في نظر العرف بمثابة القرينة وذيها ، فكان أحدهما مانعاً عن انعقاد الظهور في الآخر وشارحاً للمراد منه ـ كما في مثل قولنا : زكّ ولا بأس بتركه ، أو : اغتسل للجمعة ولا بأس أن لا تغتسل ـ لم تكن ثَمّة معارضة ، وكانت القرينيّة محفوظة في ظرف الانفصال أيضاً .
وأمّا إذا عُدّا في نظر العرف متباينين ، وكان الصدر والذيل متهافتين ، فلا جرم تستقرّ المعارضة في البين لدى الإنفصال أيضاً .
ولا ريب أ نّا لو جمعنا بين هذين الكلامين فقلنا : إنّ الزكاة واجبة في مال اليتيم ـ حتى لو قلنا : إنّ «واجبة» بمعنى ثابتة كما لا يبعد ـ وقلنا : إنّه لا زكاة في
ــ[55]ــ
مال اليتيم ـ أي ليست بثابتة كما هو مقتضى نفي الجنس ـ لكان الكلام في نظر العرف متهافتاً ومتناقضاً ، فإنّ قولنا : ثابت وغير ثابت متعارضان ، ومعه كيف يمكن الحمل على الاستحباب ؟!
وهذا نظير ما لو ورد الأمر بالإعادة في دليل وورد نفي الإعادة في دليل آخر ، فإنّه لا يمكن الجمع بالحمل على الاستحباب ، لأنّ الأمر بالإعادة إرشادٌ إلى الفساد ، والحكم بعدمها إرشـادٌ إلى عدم الفساد ، والفساد وعدم الفساد متعارضان في نظر العرف ، ومن المعلوم أ نّه لا معنى لاستحباب الفساد .
وعليه ، فلا سبيل إلى الجمع العرفي في المقام، ولا مجال للحمل على الاستحباب ، بل الدليلان متعارضان .
إذن فالمناقشة المتقدّمة ـ من أنّ الحمل على الاستحباب ليس بأولى من حمل صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم على التقيّة ـ في محلّها ، فلم ينهض دليلٌ على الاستحباب في الغلاّت فضلاً عن أن يتعدّى إلى المواشي بعدم القول بالفصل .
نعم ، يمكن أن يناقَش في حمل الموثّقة على التقيّة ـ الذي ذهب إليه صاحب الوسائل وغيره (1) مدّعياً موافقة الحديث لمذاهب أكثر العامّة ـ بأ نّا لم نجد بعد الفحص قولاً من العامّة مطابقاً لما تضمّنته الصحيحة من التفصيل في مال اليتيم بين الغلاّت فتجب فيها الزكاة دون غيرها لتقبل الحمل على التقيّة ، فإنّ أكثرهم ذهبوا إلى وجوب الزكاة في مال اليتيم مطلقاً من غير فرق بين الغلاّت وغيرها .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ذكره في الوسائل 9 : 86 / أبواب من تجب عليه الزكاة ب 1 ح 11 في ذيل موثّقة أبي بصير .
|