ــ[312]ــ
ويعتبر في وجوب الزكاة في الغلاّت أمران :
الأوّل : بلوغ النصاب (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإنّما الخلاف في اندراجهما في مفهوم الحنطة والشعير ليتناولهما الخطاب المتعلّق بهما، فالقائل بالوجوب يدّعي الاندراج، والقائل بالعدم إمّا يدّعي عدم الاندراج ، أو يكتفي بالشكّ فينكر الوجوب حينئذ ، استناداً إلى أصالة البراءة .
وقد عرفت عدم تحقّق شيء من الدعويين ، وإنّا لا نزال في شكّ من الاندراج وعدمه . ومع ذلك فالأقوى هو الوجوب ، نظراً إلى أنّ العمومات المتضمّنة لتعلّق الزكاة بكلّ ما يكال قد خُصِّصت بما دلّ على عدم وجوبها فيما سوى الغلاّت الأربع ، وبما أنّ المفروض إجمال مفهومي الحنطة والشعير من حيث الشمول لما يسمّى بالسلت والعلس ، الموجب لدورانه بين الأقل والأكثر ، فبطبيعة الحال يسري هذا النوع من الإجمال إلى عنوان المخصّص ـ أعني مفهوم ما سوى الحنطة والشعير ـ فيكون المقام من صغريات المخصّص المنفصل، المجمل، الدائر بين الأقلّ والأكثر، المحكوم بلزوم الاقتصار فيه على المتيقّن ـ وهو الأقلّ ـ والتعلّق فيما عداه بعموم العامّ كما هو موضّح في محلّه .
ففي المقام يتمسّك بعموم تعلّق الزكاة بكلّ ما يكال في الحكم بوجوبها في السلت والعلس ، للشكّ في خروجهما عن العمـوم زائداً على المقدار المعلوم ، فتدبّر جيّداً .
(1) بلا خلاف فيه ولا إشكال ، فلا زكاة في غير البالغ حدّ النصاب ، كما نطقت به النصوص المتظافرة ، التي لا يبعد فيها دعوى التواتر الإجمالي ، بل المعنوي ، وقد تضمّنت تحديده بخمسة أوساق ، وأنّ كلّ وسق ستّون صاعاً ، فيكون المجموع ثلاثمائة صاعاً ، وهذا أيضاً ممّا لا خلاف فيه نصّاً وفتوى .
فمن تلك النصوص : صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال : ما
ــ[313]ــ
أنبتت الأرض من الحنطة والشعير والتمر والزبيب ما بلغ خمسة أوساق ، والوسق سـتّون صاعاً فذلك ثلاثمائة ، ففيه العشر» إلى أن قال : «وليس فيما دون الثلاثمائة صاع شيء» إلخ(1) ، ونحوه غيره، وهو كثير جدّاً فيه الصحيح والموثّق، فلاحظ .
والظاهر عدم الخلاف في ذلك حتّى من العامّة وإن لم نلاحظ ما عدا كتاب عمدة العدّة لبعض الحنابلة المتضمّن للتصريح بذلك (2) .
نعم ، يظهر من المغني مخالفة أبي حنيفة ومجاهد وأ نّهما يريان الزكاة في القليل والكثير ، الراجع إلى إنكار النصاب رأساً وأنّ المشهور بين العامّة هو التحديد بخمسة أوساق كما يراه الأصحاب (3) .
وبإزائها روايات دلّت على خلاف ذلك ، وهي بين ما تدلّ على تعلّق الزكاة بكل ما خرج قليلاً كان أو كثيراً ، الذي مرجعه إلى نفي النصاب رأساً ، كرواية إسحاق بن عمار المتضمّنة لقوله : «زكّ ما خرج منه قليلاً كان أو كثيراً» (4) .
وما تدلّ على التحديد بوسق واحد ، كمرسلة ابن سنان (5) .
وما تدلّ على التحديد بوسقين ، كروايتي يحيى بن القاسم وأبي بصير (6) .
ولكنّها بأجمعها ضعيفة السند إمّا بعلي بن السندي أو بمحمّد بن علي المردّد بين الثقة والضعيف أو بالإرسال ، ما عدا رواية واحدة ، وهي صحيحة الحلبي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 9 : 176 / أبواب زكاة الغلاّت ب 1 ح 5 .
(2) العدّة شرح العمدة : 131 .
(3) المغني 2 : 552 ـ 553 / 1827 .
(4) الوسائل 9 : 181 / أبواب زكاة الغلاّت ب 3 ح 2 .
(5) الوسائل 9 : 181 / أبواب زكاة الغلاّت ب 3 ح 4 .
(6) الوسائل 9 : 180 ، 181 / أبواب زكاة الغلاّت ب 3 ح 1 ، 3 .
ــ[314]ــ
وهو بالمنّ الشاهي (1) ـ وهو ألف ومائتان وثمانون مثقالاً صيرفيّاً ـ مائة وأربعة وأربعون منّاً إلاّ خمسة وأربعين مثقالاً ، وبالمنّ التبريزي ـ الذي هو ألف مثقال ـ مائة وأربعة وثمانون منّاً وربع مَنّ وخمسة وعشرون مثقالاً ، وبحقّة النجف في زماننا سنة 1326 ـ وهي تسعمائة وثلاثة وثلاثون مثقالاً صيرفيّاً وثلث مثقال ـ ثمان وزنات وخمس حقق ونصف إلاّ ثمانية وخمسين مثقالاً وثلث مثقال ، وبعيار الإسلامبول ـ وهو مائتان وثمانون مثقالاً ـ سبع وعشرون وزنة وعشر حقق وخمسة وثلاثون مثقالاً ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال : سألته في كم تجب الزكاة من الحنطة والشعير والزبيب والتمر ؟ «قال : في ستّين صاعاً» (1) ، فجعل الاعتبار فيها بالوسق الواحد .
وحيث إنّها رواية واحدة شاذّة غير صالحة للمقاومة مع هاتيك النصوص المتظافرة بل المتواترة كما عرفت فلتطرح ويردّ علمها إلى أهله .
ولا بأس بالحمل على الاستحباب بإرادة الثبوت من الوجوب ، حذراً من الطرح ، وجمعاً بين الأخبار الذي هو مهما أمكن أولى .
وأمّا التقيّة فلا سبيل إليها لمجرّد فتوى أبي حنيفة ومجاهد بعد أن كان المشهور بين العامّة موافقتهم معنا حسبما عرفت .
(1) قد عرفت أنّ النصاب بحسب الكيل خمسة أوسق ، التي هي عبارة عن ثلاثمائة صاعاً .
وأمّا تطبيق ذلك على الوزن : فقد ذكر غير واحد من الأصحاب : أنّ الصاع تسعة أرطال عراقيّة، كما أ نّها ستّة مدنيّة، واثني عشر مكّيّة ، حسبما مرّ التعرّض
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 9 : 178 / أبواب زكاة الغلاّت ب 1 ح 10 .
ــ[315]ــ
لذلك مستقصىً في مباحث الكرّ (1) ، وذكرنا : أنّ الأصحاب تلقّوا الوزن هكذا يداً بيد وخلفاً عن سلف ، فلا بدّ من تصديقه ، للعناية بشأنه بعد أن كانت الزكاة واجبة في جميع الأعصار والأدوار ، مضافاً إلى التصريح بذلك في بعض النصوص أيضاً وإن كنّا في غنىً عن الاستدلال بها كما عرفت .
وذكروا أيضاً : أنّ كلّ رطل يعادل مائة وثلاثين درهماً ، غير أنّ العلاّمة ذكر في التحرير : أنّ وزنه مائة وثمانية وعشرين درهماً وأربعة أسباع الدرهم(2) ، ولكنّه سهو من قلمه الشريف ، أو أ نّه تبع فيه بعض العامّة كما احتمله بعض الأصحاب .
ويستفاد ذلك من روايتين وإن كانتا ضعيفتين ، ولا حاجة إلى التمسّك بهما بعد أن كان المتلقّى عن الأصحاب يداً بيد وجيلاً بعد جيل هو التحديد بالمائة والثلاثين كما عرفت .
هذا ، وقد ذكروا أيضاً : أنّ كلّ عشرة دراهم تساوي خمسة مثاقيل صيرفيّة وربع المثقال ، وهذا أيضاً موردٌ للاتّفاق الذي لا بدّ من تصديقه بالبيان المتقدّم .
وعلى هذا ، فالرطل الواحد يحتوي على ثمانية وستّين مثقالاً وربع المثقال ، لأنّ المائة والثلاثين تتضمّن من العشرات ثلاث عشرة مرّة ، فإذا ضربنا هذا الرقم في الخمسة والربع كانت النتيجة ما ذكرناه .
وبما أنّ الصاع الواحد يشتمل على تسعة أرطال عراقيّة ، فهو إذن يتضمّن ستمائة وأربعة عشر مثقالاً صيرفيّاً وربع المثقال ، الحاصلة من ضرب التسعة في الثمانية والستّين مثقالاً وربع المثقال الذي كان هو وزن الرطل الواحد كما عرفت وحينئذ فلو ضربنا هذا العدد في الثلاثمائة أصوع ـ التي هي حدّ النصاب كيلاً
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح العروة 2 : 151 ـ 157 .
(2) تحرير الأحكام 1 : 62 ـ 63 .
ــ[316]ــ
كما تقدّم ـ فإنّ المجموع مائة وأربعة وثمانين ألف مثقال ومائتين وخمسة وسبعين مثقالاً كما هو واضح .
ولمزيد التوضيح لاحظ هذا الفرمول :
صاع 60 = 1 وسق
صاعاً 300 = 5 أوسق
رطلاً عراقياً 9 = 1 صاع
درهم 130 = 1 رطل
مثقالاً صيرفياً 4/1 5 = 10 درهم
مثقالاً صيرفياً 4/1 68 = 130 درهم
مثقالاً صيرفياً 4/1 68 = 1 رطل
4/1 614 = 9 × 4/1 68
184275 = 300 × 4/1 614
حدّ النصاب بحسب المثقال الصيرفي .
وهذا الحدّ هو الأساس في التطبيق على سائر الأوزان من المنّ الشاهي الذي هو 1280 مثقالاً ، والمنّ التبريزي الذي هو نصفه في اصطلاح وألف مثقال في اصطلاح آخر، ولعلّه المسمّى بالعطّاري، وحقّة النجف التي هي 3/1 933 مثقالاً ،
وحقّة الإسلامبول التي هي 280 مثقالاً، وقد حسبناه موزّعاً على هذه الأوزان فوجدنا الحساب كما أثبته في المتن بالضبط .
ــ[317]ــ
ولا تجب في الناقص عن النصاب ولو يسـيراً (1) ، كما أ نّها تجب في الزائد عليه يسيراً كان أو كثيراً (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لمنافاته لنفس أدلّة النصاب ، الظاهرة في التحديد ، كما كان هو الحال في النقدين والأنعام .
مضافاً إلى التصريح به في غير واحد من النصوص ، بل لا يجزئ الناقص ولو بلغ بالضمّ إلى جنس آخر حدّ النصاب ، لظهور مثل قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة وبكير : « ... وليس في شيء من هذه الأربعة أشياء شيء حتّى تبلغ خمسة أوساق» (1) في اعتبار لحاظ النصاب في كلٍّ من الأجناس الزكويّة من الحنطة والشعير والتمر والزبيب بحياله ، فلا يكفي الضمّ والتلفيق .
مضافاً إلى التصريح به في صحيحة زرارة الواردة في محلّ الكلام ، قال : قلت لأبي جعفر ولابنه (عليهما السلام) : الرجل تكون له الغلّة الكثيرة من أصناف شتّى ، أو مال ليس فيه صنف تجب فيه الزكاة ، هل عليه في جميعه زكاة واحدة ؟ «فقال : لا ، إنّما تجب عليه إذا تمّ ، فكان يجب في كلّ صنف منه الزكاة ، يجب عليه في جميعه في كلّ صنف منه الزكاة» إلخ (2) .
هذا، ومقتضى إطلاق الأدلّة : عدم الفرق في الناقص عن النصاب بين ما كان النقص يسيراً أو كثيراً كما هو ظاهر .
(2) لإطلاق الأدلّة ، إذ لا تعرّض فيها للتحديد إلاّ من ناحية النقص دون الزيادة ، فمتى بلغ الحدّ وجب إخراج العشر أو نصفه من المجموع ، سواء وقف عليه أم زاد ، فليس للغلاّت إلاّ نصاب واحد ، على خلاف النقدين والأنعام وهذا النصاب ملحوظٌ بالإضافة إلى الزائد على نحو اللا بشرط .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 9 : 177 / أبواب زكاة الغلاّت ب 1 ح 8 .
(2) الوسائل 9 : 180 / أبواب زكاة الغلاّت ب 2 ح 1 .
|