ــ[251]ــ
فصل
في وقت وجوب إخراج الزكاة
قد عرفت سابقاً أنّ وقت تعلّق الوجوب ـ فيما يعتبر فيه الحول ـ حولانه بدخول الشهر الثاني عشر (1) وأ نّه يستقرّ الوجوب بذلك وإن احتسب الثاني عشر من الحول الأوّل لا الثاني ، وفي الغلاّت التسمية (2) ، وأنّ وقت وجوب الإخراج في الأوّل هو وقت التعلّق ، وفي الثاني هو الخرص والصرم في النخل والكرم ، والتصفية في الحنطة والشعير .
وهل الوجوب بعد تحقّقه فوري أو لا ؟ أقوال (3) ، ثالثها : أنّ وجوب الإخراج ولو بالعزل فوري ، وأمّا الدفع والتسليم فيجوز فيه التأخير ، والأحوط عدم تأخير الدفع مع وجود المستحقّ وإمكان الإخراج إلاّ لغرض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدّم ذلك في الشرط الرابع من شرائط وجوب الزكاة في فصل زكاة الأنعام ، وفي الشرط الثالث من شرائطه في زكاة النقدين .
(2) تقدّم ذلك في المسألة الاُولى من فصل زكاة الغلاّت ، وفي المسألة السادسة منه .
(3) فالمنسوب إلى الشيخ المفيد وغيره : أ نّه فوري(1) ، بل نسبه في الحدائق إلى المشهور(2) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المقنعة : 239 .
(2) الحدائق 12 : 232 .
ــ[252]ــ
كانتظار مستحقّ معيّن أو الأفضل، فيجوز حينئذ ولو مع عدم العزل الشهرين والثلاثة ، بل الأزيد ، وإن كان الأحوط حينئذ العزل ثمّ الانتظار المذكور ، ولكن لو تلفت بالتأخير مع إمكان الدفع يضمن ((1)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل بعدم الفوريّة مطلقاً .
وفصّل الشيخ بين الإخراج ولو بالعزل فوجوبه فوري ، وبين الدفع بعد الإخراج فلا فوريّة له ، بل يجوز التأخير في التسليم شهراً أو شهرين أو أكثر إلى أن يجد موضعه (2) .
أمّا مقالة المفيد : فلم يتّضح وجهها ، نعم ذكر في المقنعة ما لفظه : قد جاء عن الصادقين (عليهما السلام) : رخّص في تقديم الزكاة شهرين قبل محلّها وتأخيرها شهرين عنه ـ إلى أن قال : ـ والذي أعمل عليه ـ وهو الأصل المستفيض عن آل محمّد (عليهم السلام) ـ لزوم الوقت ، فإن قدّم قبله جعله قرضاً (3) .
لكنّا لم نجد من تلك الروايات المستفيضة ما عدا رواية أبي بصير الآتية .
وما احتمله في الحدائق من جواز وصول تلك الروايات إليه ولم تصل إلينا (4) .
كما ترى ، إذ الروايات التي يستند إليها المفيد يطّلع عليها الشيخ بطبيعة الحال ، فإنّه هو الذي أمر الشيخ بتأليف التهذيب وجمع ما فيه من النصوص ، وقد روى عنه فيه عدّة من الأخبار ، فكيف لم يرو عنه شيئاً من تلك الروايات الدالّة على لزوم الوقت وعدم جواز التأخير ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) على الأحوط فيما إذا كان التأخير لغرض صحيح .
(2) النهاية : 183 .
(3) الوسائل 9 : 303 / أبواب المستحقين للزكاة ب 49 ح 13 و 14 ، المقنعة : 240 .
(4) الحدائق 12 : 230 .
ــ[253]ــ
هذا ، ولعلّه يريد بذلك الروايات الناهية عن حبس الزكاة ومنعها ، وهي نصوص مستفيضة، ولكنّك خبير بأ نّها أجنبيّة عن المقام، إذ الحبس والمنع شيء والتأخير إلى آونة اُخرى لغرض من الأغراض شيء آخر ، ولا يكاد يصدق عليه مانع الزكاة وحابسها بوجه كما لا يخفى .
نعم ، ورد المنع عن التأخير في رواية أبي بصير ، قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : «إذا أردت أن تعطي زكاتك قبل حلّها بشهر أو شهرين فلا بأس ، وليس لك أن تؤخّرها بعد حلّها» (1) .
ولكنّها ضعيفة السند بعلي بن أبي حمزة البطائني الراوي عن أبي بصير، مضافاً إلى إمكان الجمع العرفي بينهما وبين النصوص المجوّزة بالحمل على الكراهة .
وأمّا النصوص المصرّحة بالجواز فهي كثيرة :
منها : صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال : قلت له : الرجل تحلّ عليه الزكاة في شهر رمضان ، فيؤخّرها إلى المحرّم ؟ «قال : لا بأس» قال : قلت : فإنّها لا تحلّ عليه إلاّ في المحرّم ، فيعجّلها في شهر رمضان ؟ «قال : لا بأس» (2) .
ومقتضى الإطلاق في لفظي «محرم» و «رمضان» جواز التأخير حتّى لو كان الحلّ في أوّل يوم من رمضان والدفع في آخر يوم من محرّم بحيث يكون التأخير حوالي خمسة أشهر .
ومنها : صحيحة حمّاد عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال : لا بأس بتعجيل الزكاة شهرين وتأخيرها شهرين» (3) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 9 : 308 / أبواب المستحقين للزكاة ب 52 ح 4 .
(2) الوسائل 9 : 301 / أبواب المستحقين للزكاة ب 49 ح 9 .
(3) الوسائل 9 : 302 / أبواب المستحقين للزكاة ب 49 ح 10 .
ــ[254]ــ
ومنها : صحيحة ابن سنان عن أبي عبدالله أ نّه قال : في الرجل يخرج زكاته فيقسّم بعضها ويبقى بعض يلتمس لها المواضع فيكون بين أوّله وآخره ثلاثة أشهر «قال : لا بأس» (1) ، ونحوها غيرها من النصوص المعتبرة الصريحة في الجواز .
لكن المتيقّن من التأخير المستفاد جوازه من هذه النصوص إنّما هو التأخير بعد العزل ، بل أنّ الرواية الأخيرة صريحة في ذلك . إذن فلا ينبغي الاستشكال في الجواز بعد العزل .
وأمّا قبل العزل فهل هو أيضاً جائز أو أ نّه لا يجوز كما اختاره الشيخ حسبما تقدّم ؟
مقتضى صحيحة سعد بن سعد الأشعري عدم الجواز، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: سألته عن الرجل تحلّ عليه الزكاة في السنة في ثلاثة أوقات ، أيؤخّرها حتّى يدفعها في وقت واحد ؟ «فقال : متى حلّت أخرجها» إلخ (2) .
فإنّها ظاهرة في المنع عن تأخير الإخراج ولو بالعزل بعد حلول الوجوب .
لكن بإزائها موثّقة يونس بن يعقوب ، قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : زكاتي تحلّ عليّ في شهر ، أيصلح لي أن أحبس منها شيئاً مخافة أن يجيئني من يسألني يكون عندي عدّة ؟ «فقال : إذا حال الحول فأخرجها من مالك ، لا تخلطها بشيء، ثمّ أعطها كيف شئت» قال : قلت : فإن أنا كتبتها وأثبتّها، يستقيم لي ؟ «قال : نعم ، لا يضرّك» (3) .
فإنّ صدرها وإن وافق صحيحة سعد في لزوم العزل ، لكن ذيلها صريح في
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 9 : 308 / أبواب المستحقين للزكاة ب 53 ح 1 .
(2) الوسائل 9 : 306 / أبواب المستحقين للزكاة ب 52 ح 1 .
(3) الوسائل 9 : 307 / أبواب المستحقين للزكاة ب 52 ح 2 .
ــ[255]ــ
عدم الوجوب وقيام الكتابة مقامه ، لاشتراكها معه في الغاية المتوخّاة منه والحكمة الباعثة على الوجوب ، وهي المحافظة على الزكاة المعزولة حذراً عن خشية التلف أو الانتقال إلى الورثة ، فإنّها بعد الكتابة تكون مأمونة عن هذه الأخطار وإن لم تكن معزولة . وبذلك ترفع اليد عن ظهور صحيحة سعد في وجوب العزل ، ويحمل على الاستحباب ، وبه يجمع شمل الأخبار .
فالأقوى إذن جواز التأخير حتّى مع عدم العزل . وأمّا مقدار التأخير بعد العزل فقد حُدّد في بعض النصوص المتقدّمة بالشهرين أو الثلاثة ، بل عرفت أنّ المستفاد من صحيحة معاوية جواز التأخير إلى الخمسة ، لكن الظاهر من قوله (عليه السلام) في موثّقة يونس : «ثمّ أعطها كيف شئت» من غير تحديد بحدّ معيّن أ نّه لا حدّ له بعد الإخراج .
نعم ، لمّا كانت الزكاة المعزولة أمانة بيده فيجوز له التأخـير ما لم يؤدّ إلى التعدّي والتفريط بأن كان لأجل انتظار مستحقّ خاصّ ، أو غير ذلك من الاُمور العقلائيّة من غير تحديد بحدّ خاص .
هذا كلّه في الحكم التكليفي .
وأمّا من حيث الحكم الوضعي ـ أعني : الضمان مع العزل أو بدونه ـ فلا ينبغي الريب في عدمه فيما إذا كان التأخير مستنداً إلى عدم وجود المستحقّ ولم يكن متعدّياً ولا مفرّطاً في الحفظ ، إذ هي أمانة عنده مع العزل ، ولا ضمان في الأمانة ، وقد كان معذوراً في التأخير حسب الفرض .
وأمّا مع وجوده فلعلّ المشهور حينئذ هو الضمان، استناداً إلى روايات تقدّمت في المسألة العاشرة من الفصل السابق، عمدتها صحيحتا محمّد بن مسلم وزرارة، وقد عرفت ثمّة أ نّهما أجنبيتان عن المقام ، فإنّ مورد الاُولى هو النقل إلى بلد آخر والضياع في الطريق ، ومورد الثانية هو التلف عند الوكيل المبعوث إليه ، وشيء منهما غير مرتبط بالتلف عند صاحب الزكاة الذي هو محلّ الكلام . فلا
|