استدلال الشيخ الأنصاري للزوم مراجعة البائع بروايتين - لو وجد الكنز في أرض وادّعاه المالك السابق 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء 15:الخُمس   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4389


   وأمّا بالنظر إلى الروايات الواردة في المقام فقد استدلّ شيخنا الأنصاري (قدس سره) (1) للزوم مراجعة البائع بروايتين :

   إحداهما : ما رواه الكليني بسنده عن عبدالله بن جعفر الحميري ، قال : كتبت إلى الرجل (عليه السلام) أسأله عن رجل اشترى جزوراً أو بقرة للأضاحي ،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كتاب الخمس : 50 ـ 51 ، 57 ـ 59 .

ــ[88]ــ

فلمّا ذبحها وجد في جوفها صرّة فيها دراهم أو دنانير أو جوهرة ، لمن يكون ذلك ؟ فوقّع (عليه السلام) : «عرّفها البائع ، فإن لم يكن يعرفها فالشيء لك ، رزقك الله إيّاه» (1) ، وروى الصدوق أيضاً عنه مثله (2) .

   ثانيتهما : موثّقة إسحاق بن عمّار ، قال : سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة فوجد فيه نحواً من سبعين درهماً مدفونة ، فلم تزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة ، كيف يصنع ؟ «قال : يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها» قلت : فإن لم يعرفوها ؟ «قال : يتصدّق بها» (3) .

   وهناك رواية ثالثة تقدّمت ، وهي موثّقة محمّد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال : قضى علي (عليه السلام) في رجل وجد ورقاً في خربة : أن يعرّفها ، فإن وجد من يعرفها ، وإلاّ تمتّع بها» (4) .

   هذا ، والظاهر عدم صحّة الاستدلال بشيء من الروايات الثلاث للمقام :

   أمّا الأخيرة : فقد تقدّم (5) لزوم حملها على الأرض الخربة التي لم ينجل عنها أهلها بقرينة صحيحة ابن مسلم (6) ، فيكون الورق حينئذ من مجهول المالك ، والحكم بلزوم التعريف عندئذ مطابق للقاعدة ، سواء أكان الورق تحت الأرض أم فوقها وإن كان الظاهر هو الأوّل ، إذ التعريف إنّما يكون في هذه الصورة ، وإلاّ فيبعد جدّاً أن يكون الورق ذا علامة يمكن التعريف بسببها .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 25 : 452 / كتاب اللقطة ب 9 ح 1 ، الكافي 5 : 139 / 9 .

(2) الوسائل 25 : 452 / كتاب اللقطة ب 9 ح 2 ، الفقيه 3 : 189 / 853 .

(3) الوسائل 25 : 448 / كتاب اللقطة ب 5 ح 3 .

(4) الوسائل 25 : 448 / كتاب اللقطة ب 5 ح 5 .

(5) في ص 82 .

(6) الوسائل 25 : 447 / كتاب اللقطة ب 5 ح 1 .

ــ[89]ــ

   وكيفما كان ، فهذا مالٌ مجهول مالكه محكومٌ بلزوم التعريف لصاحب الخربة أو لغيره ممّن يحتمل كونه له ، إذ لم يقيّد التعريف في هذه الموثّقة بالأوّل ، ومن الجائز أنّ أجنبيّاً دخل الخربة ودفنه فيها .

   نعم ، ما تضمّنته الموثقة من الاستملاك بعد التعريف مخالفٌ للمطلقات الواردة في مجهول المالك ، فإنّ الذي يملك بعد التعريف سنة إنّما هو اللقطة مع الضمان ، وأمّا مجهول المالك فلم يرد فيه التملّك ، فالحكم الوارد في المقام على خلاف القاعدة ـ طبعاً ـ ولا بأس بالالتزام به في مورده بمقتضى هذه الموثّقة ، كما ورد نظيره فيما يلقيه البحر إلى الخارج لدى غرق السفينة من أ نّه لواجده مع أ نّه من مجهول المالك بالضرورة المحكوم بلزوم التعريف ، ولكنّه اُلغي هنا وحكم بالاستملاك ، ولعلّه باعتبار كونه بعد الغرق في حكم التالف ، فمن الجائز أن يكون المقام من ذاك القبيل .

   وعلى أيّ حال ، فلا دلالة في هذه الموثّقة على لزوم التعريف بالنسبة إلى البائع ثمّ البائع قبله ، وهكذا ، بل يعرّف لكلّ أحد من باب كونه مجهول المالك . ومن المعلوم أنّ الموثّقة بصدد بيان الحكم الشرعي لا نقل قضيّة تأريخيّة فحسب.

   وأمّا الروايتان فكلتاهما أجنبيّتان أيضاً عن محلّ الكلام كالموثّقة :

   أمّا الرواية الاُولى : فواضحة ، ضرورة أنّ ما يوجد في جوف الحيوان من الصرّة المشتملة على الدرهم والدينار شيءٌ حادث في بطنه قد ابتلعه قريباً قبل يوم أو يومين ، فهو ـ طبعاً ـ فرد من أفراد مجهول المالك لا بدّ فيه من التعريف ، وبما أنّ البائع أقرب المحتملات فيراجع ، وبالتعبّد الشرعي يسقط التعريف من غير البائع ، كما أ نّه بإذن الإمام (عليه السلام) الذي هو الوليّ العام يتملّكه الواجد ، وبذلك يخصَّص ما دلّ على وجوب التصدّق بمجهول المالك ، فإنّه حكمٌ وارد في موضوع خاصّ ، نظير ما ورد فيما يلقيه البحر إلى الخارج من استملاكه

ــ[90]ــ

وإن كان من مصاديق مجهول المالك .

   وبالجملة : مورد الرواية من المصاديق البارزة للمال المجهول مالكه ، المحكوم ـ  بمقتضى القاعدة  ـ بالتعريف ثمّ التصدّق ، غير أنّ الإمام (عليه السلام) اقتصر في التعريف على البائع تعبّداً وبعده أذن في التصرّف ولايةً ، وأين هذا من الكنز الذي هو محلّ الكلام ؟! فلا يمكن التعدِّي إليه بوجه .

   وأمّا الرواية الثانية : فلظهورها في أنّ لتلك الدراهم مالكاً محترماً بالفعل مجهولاً ، نظراً إلى اقتضاء طبيعة الحال كون ذاك البيت من المنازل المعدّة للإيجار ولنزول الحجّاج والزوّار ، نظير بيوت الخدمة في الأعتاب المقدّسة ، فلأجله يظنّ أنّ تلك الدراهم تتعلّق بحاجّ نزل قبل ذلك ، وبما أنّ صاحب المسكن أدرى به وأعرف فطبعاً يرجع إليه مقدّمةً للاستعلام عن ذاك المالك المجهول ، فإن عرفه وإلاّ فيتصدّق به عن مالكه شأن كلّ مال مجهول مالكه . وأين هذا من الكنز الذي هو محلّ الكلام ؟! سيّما وأنّ الدراهم إنّما حدثت في زمن المعصومين (عليهم السلام) ولم تكن موجودة في العهود البائدة ليصدق على دفينتها اسم الكنز بالمعنى الذي هو محلّ الكلام كما لا يخفى .

   فتحصّل : أ نّه لم يدلّ أيّ دليل على لزوم الرجوع إلى البائع الأخير فضلاً عن البائع قبله في الكنز ـ المستخرج من الأرض المشتراة ـ بالمعنى الذي هو محلّ البحث ، أي الذي لم يُعلم له مالك بالفعل ، بل يُعلم بمقتضى القرائن أ نّه للسابقين المعدومين فعلاً .

   نعم ، هو أحوط ، رعايةً لما هو المشهور بين الفقهاء ، بل ادّعى بعضهم الإجماع عليه من لزوم الرجوع إليه ، فإن لم يعرفه فالمالك قبله حسبما عرفت .

ــ[91]ــ

وإن ادّعاه المالك السابق فالسابق أعطاه بلا بيّنة ((1)) (1) ، وإن تنازع المُلاّك فيه يجري عليه حكم التداعي ، ولو ادّعاه المالك السابق إرثاً وكان له شركاء نفوه دفعت إليه حصّته ((2)) وملك الواجد الباقي وأعطى خمسه .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   (1) تحصل ممّا تقدّم أنّ ما يوجد تحت الأرض ويكون من المال المذخور على ثلاثة أقسام :

   إذ تارةً : يكون من الكنوز القديمة التي تعدّ عرفاً من المال الذي لا مالك له ، وهو المندرج في عنوان الكنز المصطلح المحكوم بأ نّه ملكٌ لواجده بعد التخميس بلا حاجة إلى التعريف ، وهذا ظاهر .

   واُخرى : يعلم عادةً أنّ له مالكاً موجوداً بالفعل وهو معلوم ، كما لو وجد في دار معمورة فيها أهلها فإنّه يعطى له بلا حاجة إلى التعريف أو الإثبات ببيّنة ونحوها ، بمقتضى صحيحة ابن مسلم
المتقدّمة(3).

   وثالثةً : يعلم أنّ له مالكاً بالفعل ولكنّه مجهـول ، فإنّه يجري عليه حكم مجهول المالك من لزوم الفحص ثمّ التصدّق بعد اليأس .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لا أثر للدعوى من دون بيّنة بعد انقطاع يد المدّعي عن الأرض ، ولو كان لليد أثر لما كان للتعريف وجه ، بل يلزم إعطاؤه لذي اليد وإن لم يكن مدّعياً ما لم يكن معترفاً بعدمه ، وبذلك يظهر حال التنازع .

(2) تقدّم أ نّه لا أثر للدعوى المجرّدة ، نعم يتمّ ذلك فيما إذا ثبتت بالبيّنة ، لكنّه لا يتمّ حينئذ ما ذكره من تملّك الواجد للباقي وإعطاء خمسه ، بل اللاّزم حينئذ التصدّق بما بقي ، فإنّ مقتضى حجّيّة البيّنة أ نّه للمورث ، فإذا لم يجز إعطاؤه للوارث من جهة إقراره فلا مناص من التصدّق به .

(3) في ص 86 .

ــ[92]ــ

   وحينئذ فقد يظفر بعد الفحص بمدّع واحد ، واُخرى بأكثر بحيث يتشكّل منه التنازع والتداعي .

   ففي الأوّل : يطالب بالبيّنة لدى عدم نهوض قرينة قطعيّة أو ما في حكمها أ نّه له ، ولا يعطى له بمجرّد الدعوى ، إذ المال أمانة شرعيّة في يد الواجد لا بدّ له من التريّث والتثبّت لكي يوصله إلى صاحبه ، فإن أقام البيّنة ، وإلاّ تصدّق به عن صاحبه .

   هذا ، ولو فرضنا أ نّه أقام بيّنة كانت نتيجتها اشتراك المال بينه وبين غيره كما لو شهدت البيّنة أنّ المال المدفون كان ملكاً لوالده الميّت وهو الآن إرث مشترك بينه وبين إخوته ، فحينئذ إن لم ينفه الشركاء سواء أكانوا شاكّين أم مذعنين قُسِّم المال بينهم ، عملاً بقيام البيّنة الشرعيّة الناطقة بذلك حسب الفرض التي لا يقدح فيها جهل الآخرين بعد نهوض الحجّة الشرعيّة كما هو ظاهر .

   وأمّا لو نفوه وأنكروه سقطت البيّنة عن الحجّيّة في هذا المقدار ، لتقدّم الإقرار عليها، فتُعطى لذلك المدّعي حصّته ويُتصدّق بالباقي ، لكونه من مجهول المالك .

   ولا نعرف وجهاً لما ذكره في المتن من أ نّه يتملّكه الواجد بعد تخميسه ، لوضوح عدم اندراجه تحت عنوان الكنز ليجري عليه حكمه بعد فرض أنّ له مالكاً محترماً بالفعل ، فالتخميس فضلاً عن التملّك لا دليل عليه في المقام ، بل لا مناص من التصدّق وإجراء حكم المال المجهول مالكه عليه حسبما عرفت .

   وأمّا احتمال جريان حكم اللقطة عليه ـ كما عن الجواهر (1) ـ فهو أيضاً غير

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجواهر 16 : 34 .

ــ[93]ــ

ظاهر ، إذ اللقطة إنّما هي المال الضائع ، وليس هذا من الضائع في شيء ، بل من مجهول المالك .

   وأمّا في الثاني ـ أعني : صورة التداعي ـ : فإن أقام أحدهما البيّنة دون الآخر اُعطي لذي البيّنة ، ولو أقاما معاً كُلِّفا بالحلف ، فإن حلفا أو نكلا قُسِّم بينهما نصفين، وإن حلف أحدهما دون الآخر كان المال له ، وذلك للنصّ الخاصّ الدالّ عليه وإن كان مقتضى القاعدة هو التساقط بعد تعارض البيّنتين .

   وهو موثّق غياث بن إبراهيم عن أبي عبدالله (عليه السلام) : «أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اختصم إليه رجلان في دابّة ، وكلاهما أقاما البيّنة أ نّه انتجها، فقضى بها للذي في يده، وقال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين»(1) .

   ومقتضى الإطلاق وإن كان هو عدم الفرق بين صورتي الحلف والنكول ، إلاّ أ نّه يقيَّد بموثّقة إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) : «أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في دابّة في أيديهما ، وأقام كلّ واحد منهما البيّنة أ نّها نتجت عنده ، فأحلفهما علي (عليه السلام) فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف ، فقضى بها للحالف ، فقيل له : فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البيّنة ؟ فقال : أحلفهما ، فأيّهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف ، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين» إلخ (2) .

   حيث دلّت على أ نّه مع حلف أحدهما ونكول الآخر يعطى للحالف كما أ نّه يقسّم بينهما مع حلفهما .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 27 : 250 /  أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 12 ح 3 .

(2) الوسائل 27 : 250 /  أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 12 ح 2 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net