ومنها ـ أي من الأنفال ـ : كلّ أرض ميتة لا ربّ لها ، سواء لم يكن لها ربّ أصلاً كالبراري والمفاوز، أو أ نّه تركها أو باد عنها بحيث عرضها الخراب بإنجلاء الأهل أو هلاكهم ، فيعمّ الحكم مطلق الموات ذاتاً كان أم عرضاً ، وتدلّ عليه جملة من الأخبار :
ــ[363]ــ
منها: صحيحة حفص بن البختري المتقدّمة، قال (عليه السلام) فيها: «وكلّ أرض خربة» إلخ(1).
ومنها : موثّقة سماعة ، قال : سألته عن الأنفال «فقال : كلّ أرض خربة» إلخ (2) .
وصحيحة محمّد بن مسلم ، قال (عليه السلام) فيها : «وما كان من أرض خربة» (3) .
وإطلاقها وإن شمل ما إذا كان لها مالك معلوم بالفعل إلاّ أ نّه لا بدّ من رفع اليد عنه وتقييده بما إذا انجلى أهلها وأعرضوا عنها ، بمقتضى موثّقة إسحاق بن عمّار ، قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الأنفال «فقال : هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها» إلخ (4) .
فيعلم من ذلك أنّ مجرّد الخراب لا يستوجب الخروج عن ملك المالك والدخول في ملك الإمام (عليه السلام) ليعدّ من الأنفال ، بل هو مشروط بالإعراض والانجلاء .
وبالجملة : فالأرض الخربة التي لم يسبق إليها ملك أحد أو سبق ولكن انجلى وأعرض أو باد أهلها كلّ ذلك ملك للإمام (عليه السلام) .
وإنّما الكلام في أنّ ذلك هل يختصّ بما إذا كان المالك معلوماً بأن كان شخصاً معيّناً كزيد ، أو عنواناً كالوقف على الزوّار ـ مثلاً ـ أو يعمّ ما إذا كان سنخ الملك من قبيل ما يملكه المسلمون في الأراضي الخراجيّة ؟ فلو خربت بعد أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 9 : 523 / أبواب الأنفال ب 1 ح 1 .
(2) الوسائل 9 : 526 / أبواب الأنفال ب 1 ح 8 .
(3) الوسائل 9 : 526 / أبواب الأنفال ب 1 ح 10 .
(4) الوسائل 9 : 531 / أبواب الأنفال ب 1 ح 20 .
ــ[364]ــ
كانت عامرة وانجلى عنها أهلها فهل تعدّ حينئذ من الأنفال وتنتقل إلى الإمام ، أو أنّ حكمها حكم الملك الشخصي الذي له مالك معيّن بالفعل في أ نّه بمجرّد الخراب لا يخرج عن ملكه ولا ينقل إلى الإمام كما عرفت ، فلا فرق في عدم انتقال ما له مالك فعلي إلى الإمام بين ما كان المالك شخصاً معيّناً أو جهة ـ كالوقف ـ أو عامّة المسلمين كالمقام ، فإنّ هذا أيضاً له مالك معلوم .
فمثل أرض العراق المعبّر عنها بأرض السواد التي كانت عامرة حال الفتح وكانت ملكاً لعامّة المسلمين ، وكذا البحرين ـ وإن كان يظهر من بعض الأخبار أ نّها كالمدينة ـ لو عرضها الخراب فهل تنتقل إلى الإمام ، أو تبقى على ما كانت عليه من كونها ملكاً لعموم المسلمين ؟
ظاهر المحقّق وصاحب الجواهر هو الثاني (1) ، ولكنّه لا يخلو عن الإشكال ، بل لايبعد خروجها عن ملك المسلمين بالخراب ، فيعتبر في ملكيّتهم كونها عامرة حدوثاً وبقاءً ، نظراً إلى أ نّه ليس لدينا إطلاق يقتضي كونها ملكاً للمسلمين حتى بعد الخراب ، فلا يبقى إلاّ استصحاب عدم الخروج بالخراب عن ملكهم .
ولكنّه على تقدير جريانه في الشبهات الحكميّة لا يعارض الدليل ، أعني : عموم ما دلّ على أنّ كلّ أرض خربة للإمام ، على ما نطقت به صحيحة ابن البختري المتقدّمة .
وعلى تقدير تسليم الإطلاق في أدلّة ملكيّة المسلمين للمفتوحة عَنوةً بحيث يشمل ما بعد الخراب فغايته معارضة العموم المزبور مع هذا الإطلاق بالعموم من وجه ، ولا شكّ أنّ العموم اللفظي مقدّم على الإطلاق .
ويترتّب على هذا البحث أثر مهمّ جدّاً ، فإنّ تلك الخربة لو كانت من الأنفال فبما أ نّهم (عليهم السلام) حلّلوها وملّكوها لكلّ من أحياها بمقتضى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لاحظ الشرائع 1 : 210 ـ 211 ، لاحظ الجواهر 16 : 117 ـ 118 .
ــ[365]ــ
قوله (عليه السلام) : «من أحيا أرضاً فهي له» فلو أحيا تلك الخربة أحدٌ كانت ملكاً شخصيّاً له بمقتضى الإذن العامّ الصادر منهم لعامّة الأنام .
وأمّا لو لم تكن من الأنفال فهي باقية على ما كانت عليه من ملكيّة عامّة المسلمين ، ولا تكون بالإحياء ملكاً شخصيّاً لأحد .
وعليه ، فلو فرضنا أنّ الأرض المعيّنة كانت من الخراجيّة وهي تحت يد شخص يدّعي الملكيّة ، واحتملنا أ نّها خربت وقد عمرها هو أو من انتقلت عنه إليه ولو في الأزمنة السالفة ، فإنّه على المختار يحكم بأ نّها له بمقتضى قاعدة اليد ، لاحتمال مالكيّته واقعاً بإحيائه الأرض بعد خرابها وصيرورتها من الأنفال التي تملّك بالإحياء .
وملخّص الكلام : أنّ عموم قوله (عليه السلام) في موثّق إسحاق بن عمّار «وكلّ أرض لا ربّ لها» أو : «ما كان من الأرض بخربة» (1) غير قاصر الشمول للمقام ، فإنّ الربّ بمعنى المالك ، والمتصدّي لعمارة الأرض المعبّر عنه عرفاً بصاحب الأرض ، وهو صادق على الأرض الخربة وإن كانت خراجيّة ، فهي فعلاً ملك للإمام وإن كانت سابقاً ملكاً للمسلمين .
وهذا القول هو الأصحّ وإن كان على خلاف المشهور بين المتأخّرين كصاحب الجواهر (2) وغيره ، حيث ذكروا أنّ هذه الأراضي حكمها حكم ما كان له مالك معيّن ، فكما لا تخرج عن ملكه بالخراب كذلك المفتوحة عَنوةً ، إلاّ في قسم خاصّ لم نتكلّم فيه وهي الملكيّة التي منشؤها الإحياء ، فإنّ فيها كلاماً طويلاً عريضاً من حيث رجوعها بعد الخراب إلى الإمام (عليه السلام) وعدمه ، مذكور في كتاب إحـياء الموات وخارج عن محلّ كلامنا ، وقد تعرّضنا له في أوائل
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 9 : 531 / أبواب الأنفال ب 1 ح 20 .
(2) الجواهر 16 : 118 .
ــ[366]ــ
شرائط العوضين من كتاب المكاسب .
بقى هنا شيء ، وهو أنّ المذكور في كلماتهم في هذا العنوان الأرض الخربة أصالةً أو عرضاً أو الميتة . والظاهر أ نّه لا اختصاص للخراب ، بل المحياة والعامرة أيضاً كذلك ، فلو كانت الأرض محياة من أصلها كبعض الجزر المشتملة على الأشجار والثمار شملها عموم قوله (عليه السلام) «وكلّ أرض لا ربّ لها» إذ الأرض مطلق يشمل الموات والعامرة بمناط واحد ، فإذا لم يكن لها ربّ ـ أي من يربّيها ويصلحها ـ فهي للإمام (عليه السلام) وإن كانت محياة بالأصل بقدرة الله تعالى .
مضافاً إلى ما في صحيح الكابلي المتقدّم (1) : من أنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين ، المنطبق عليهم (عليهم السلام) ، فإنّها تعمّ المحياة كالموات ، ولا خصوصيّة للثاني ، إذ العبرة بكونها لا ربّ لها .
نعم ، في مرسلة حمّاد : «وكل أرض ميتة لا ربّ لها» إلخ (2) قيّدت الأرض بالميتة .
لكنّها مضافاً إلى الإرسال قاصرة الدلالة ، إذ القيد لا مفهوم له ، ولعلّه منزّل على الغالب ، فلا يعارض العموم في قوله (عليه السلام) في موثّق إسحاق : «وكلّ أرض لا ربّ لها» . ــــــــــــــــ
(1) في ص 362 .
(2) الوسائل 9 : 524 / أبواب الأنفال ب 1 ح 4 .
|