ــ[19]ــ
الثاني : المتعاقدان ، ويشترط فيهما البلوغ ، والعقل والاختيار ، وعدم الحجر لفلس أو سفه أو رقّيّة (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بل في مطلق التمليك بعد كون المراد من الدار منفعتها ، فيرجع قوله : بعتك الدار إلى أجل كذا بكذا ، إلى قوله : ملّكتك الدار منفعتها ، إلخ ، بنحو تكون المنفعة بدلاً عن الدار ، فإنّ استعمال الدار في منفعتها استعمال دارج ، كما يقال : أوكلت أمر هذه الدار إلى زيد ، مريداً به الإيكال بالإضافة إلى المنافع خاصّة دون رقبة العين ، ولا يعدّ هذا غلطاً بعد نصب قرينة حاليّة أو مقاليّة كما في المقام .
وعلى الجملة : فالظاهر صحّة الإجارة في كلا المثالين وإن كانت الصحّة في الثاني أظهر . فلا وجه للاستشكال فيهما بزعم أ نّهما من إنشاء عقد بلفظ عقد آخر ، لمنعه صغرى وكبرى حسبما عرفت .
(1) اعتبار هذه الاُمور في الجملة في المتعاقدين ممّا لا شبهة فيه ، وإنّما الإشكال في بعض الخصوصيّات .
أمّا العقل : فلا كلام في اعتباره في العاقد ، إذ لا أثر لعبارة المجنون بعد أن كان فاقداً للقصد المعتبر في العقد ، سواء أكان العقد لنفسه أم لغيره ، بإجازة الولي أو بدونها ، لاتّحاد المناط كما هو واضح .
وأمّا عدم الحجر من جهة الرقّيّة : فالحجر المحكوم به العبد مختصّ بمال نفسه ، أمّا بالنسبة إلى مال مولاه فهو أجنبي عنه كسائر الأجانب كما هو ظاهر ، فلو آجر نفسه أو ماله بناءً على أ نّه يملك ـ كما هو الصحيح ـ فلا أثر لعقده ، لأ نّه مملوك لا يقدر على شيء فهو محجور عليه .
وأمّا بالإضافة إلى مال الغير فيما إذا كان وكيلاً في الإجارة عنه : فالظاهر أ نّه لا ينبغي الإشكال بل إشكال في الصحّة إذا كان ذلك بإذن المولى . بل الظاهر
ــ[20]ــ
جوازه حتى بدون الإذن ، لأنّ هذا العقد إنّما هو عقد للموكّل حقيقةً وهو المأمور بالوفاء ، وأمّا العبد فهو مجرّد آلة لإجراء الصيغة فحسب ، ولم يدلّ أيّ دليل على ممنوعيّة العبد حتى من التصرّف في لسانه بحيث يحتاج في تكلّمه مع غيره أو في ذكره ودعائه وقرآنه إلى الاستئذان من مولاه ، إذ لا يعدّ مثل ذلك تصرّفاً في ملك الغير حتى يكون منوطاً بالإذن ، فكما لا يحتاج في سائر تكلّماته إلى الإذن فكذا في إجراء العقد بمناط واحد .
وبالجملة : دليل الحجر خاصّ بالتصرّف في مال نفسه أو أعماله ، ومنصرف عن مثل إجراء العقد وكالةً عن الغير .
بل يمكن أن يقال بالصحّة حتى مع نهي المولى، إذ غايته العصيان لا البطلان.
وأمّا عدم الحجر من جهة الفلس : فلا ريب أنّ المفلس ممنوع من التصرّف في ماله بعد الحجر عليه، فليس له التصرّف في شيء منها ببيع أو إجارة ونحوهما .
وأمّا بالنسبة إلى اجارة نفسه: فلم يدلّ أيّ دليل على المنع، لوضوح اختصاص الحجر الصادر من الحاكم بأمواله الموجودة حال تعلّق الحجر ، أمّا بدنه فلم يتعلّق حجر بالنسبة إليه لكي يكون ممنوعاً عن التكسّب بعمله وصيرورته أجيراً لغيره في قراءة قرآن أو صلاة أو صيام ونحو ذلك من أنحاء تحصيل المال، فإنّ حقّ الغرماء متعلّق بأمواله وأجنبي عن أعماله كما هو ظاهر .
هذا بالنسبة إلى مال نفسه .
وأمّا بالإضافة إلى مال الغير : فلا ينبغي التأمّل في نفوذ إجارته وكالةً عنه ، لعدم كونه محجوراً في ذلك بوجه . فاعتبار عدم الحجر خاصّ بماله دون عمله ودون أموال أشخاص آخرين .
وأمّا عدمه من جهة السفه : فلا ريب في أنّ السفيه ممنوع من التصرّف في ماله بمقتضى الروايات وقبلها الآية المباركة المانعة من دفع أموال السفهاء إليهم
ــ[21]ــ
قبل أن يستأنس منهم الرشد .
وأمّا بالنسبة إلى نفسه بأن يكون أجيراً لغيره: ففي جوازه كلام وإشكال ، ولا يبعد المنع ، وسيأتي تفصيله في المسألة الثانية.
وأمّا إجراؤه العقد وكالةً عن غيره : فلا ينبغي الاستشكال فيه ، إذ لم يدلّ دليل على كونه مسلوب العبارة حتى يكون عقده كلا عقد .
وأمّا الاختيار : فلا شكّ في عدم نفوذ عقد المكره فيما يرجع إلى نفسه من ماله أو عمله ، لحديث الرفع وغيره ممّا هو مذكور في محلّه .
وأمّا لو كان مكرهاً في إجراء العقـد على مال الغير وكالةً ، فهل يحكم ببطلانه ؟
الظاهر : لا ، ضرورة عدم ترتّب أيّ أثر على هذا العقد بالنسبة إلى العاقد المكره لكي يدّعى ارتفاعه بحديث الرفع ، وإنّما الأثر مترتّب على من يقع العقد له وهو الأصيل ، وهذا مجرّد آلة محضة والمفروض أنّ الأصيل غير مكره عليه .
وبعبارة اُخرى : هذا العقد من حيث انتسابه إلى المباشر ليس له أيّ أثر ليرتفع بالإكراه، ومن حيث انتسابه إلى المكره لم يرتفع أثره بعد أن عقد باختياره، ولم يكن مكرهاً ، فالمكرَه ـ بالفتح ـ لا أثر له ، ومن له الأثر لم يكن مكرهاً ، فلا مقتضي للبطلان بوجه .
وأمّا اعتبار البلوغ الذي هو المهم في المقام : فلا ينبغي التأمّل في عدم نفوذ تصرّفات الصبي في أمواله على سبيل الاستقلال بحيث يكون هو البائع أو المؤجّر ونحوهما ولو كان ذلك بإذن الولي فضلاً عن عدم الإذن، لقوله سبحانه: (وَابْتَلُوا ا لْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)(1) ، دلّت على أنّ دفع المال مشروط بأمرين : البلوغ والرشد ، فلا يدفع لغير البالغ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النساء 4 : 6 .
ــ[22]ــ
ماله وإن كان رشيداً ، كما لا يدفع لغير الرشيد ـ أي السفيه ـ وإن كان بالغاً ، ومعلوم أ نّه لا بدّ من اختباره قبل البلوغ ، لإحراز الرشد منه كي لا يمنع عن ماله بعد ما بلغ حتى آناً ما .
ويستفاد ذلك أيضاً من عدّة أخبار دلّت على أنّ الصبي لا يؤخذ بشيء من أعماله وأقواله ، فإذا لم يكن مؤاخذاً فطبعاً يكون عقده كلا عقد .
وتدلّ عليه أيضاً رواية عبدالله بن سنان ـ التي أوردها شيخنا الأنصاري (قدس سره) في المكاسب واستدلّ بها (1) ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال : سأله أبي ـ وأنا حاضر ـ عن اليتيم ، متى يجوز أمره ؟ قال : «حتى يبلغ أشدّه» قال : وما أشدّه ؟ «قال : احتلامه» (2) .
وهي واضحة الدلالة على أنّ نفوذ أمره الذي منه عقده متوقّف على البلوغ ، فلا ينفذ قبله وإن أذن الولي بمقتضى الإطلاق .
وأمّا من حيث السند فقد رواها الصدوق في الخصال بسنده المعتبر ، عن أبي الحسين الخادم بيّاع اللؤلؤ ، عن عبدالله بن سنان ، عن الصادق (عليه السلام) ، وقد سقطت كلمة «عبدالله بن سنان» في نسخة الوسائل .
هذا ، ولم يعنون أبو الحسين الخادم بيّاع اللؤلؤ بهذا العنوان في كتب الرجال ، فبطبيعة الحال يكون مجهولاً كما قيل .
ولكن الظاهر أ نّه هو آدم بن المتوكّل الثقة الذي روى بعنوان آدم بن المتوكّل بيّاع اللؤلؤ عن عبدالله بن سنان في غير هذا الموضع . فالظاهر أنّ الرواية معتبرة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المكاسب 3 : 277 .
(2) الوسائل 18 : 412 / كتاب الحجر ب 2 ح 5 ، الخصال : 495 / 3 .
ــ[23]ــ
هذا كلّه في تصرّف الصبي مستقلاًّ .
وأمّا تصدّيه لمجرّد إجراء الصيغة إمّا في ماله أو في مال الغير وكالةً عنه فليس في الآية ولا الرواية ما يدلّ على عدم نفوذه :
أمّا الآية المباركة : فهي ناظرة إلى دفع المال إليه وعدمه ، ولا تعرّض فيها لعقده الصادر منه على نحو لا شأن له عدا مجرّد إجراء الصيغة .
وهكذا الرواية ، إذ السؤال فيها عن نفوذ أمر الغلام الظاهر في الاستقلال ، لا ما إذا كان التصرّف منسوباً إلى الولي والصبي مجر للصيغة فقط .
ولكنّه مع ذلك قد نسب إلى المشهور عدم الجواز ، تمسّكاً بحديث رفع القلم عن الصبي، وبما ورد في صحيح ابن مسلم من أنّ «عمد الصبي وخطؤه واحد»(1) فكما أنّ أحداً لو تلفّظ خطأً بكلمة «بعت» ـ مثلاً ـ لا يكون نافذاً لعدم القصد ، فكذا الصبي، لأنّ عمده بمنزلة خطأ غيره، فلا أثر لقصده بمقتضى هذه الصحيحة .
والجواب : أمّا عن الحديث فظاهر ، إذ هو ناظر إلى رفع ما على الصبي من الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة أيضاً كما اخترناه ، فلا يلزم الصبي بشيء من أعماله من كلتا الناحيتين . وأمّا العقد في محلّ البحث فليس فيه أيّ شيء على الصبي من تكليف أو وضع ، ولم يؤاخذ بعبارته بتاتاً لكي يرفع عنه ، وإنّما هو راجع إلى غيره أو إلى الولي ، وهذا مجرّد مجر للصيغة وآلة محضة ، فحديث الرفع أجنبي عن الدلالة على إلغاء إنشاء الصبي وفرضه كأن لم يكن كما لعلّه واضح جدّاً .
وأمّا الصحيحة : فهي وإن كانت مطلقة في ظاهر النصّ ولم تقيّد بمورد الجناية كما قيّدت به موثّقة إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام)
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 29 : 400 / أبواب العاقلة ب 11 ح 2 .
ــ[24]ــ
«أنّ علياً (عليه السلام) كان يقول : عمد الصبيان خطأ يحمل على العاقلة» (1) ، ومعلوم أ نّه لا تنافي بين الدليلين ـ بعد كونهما مثبتين ـ لكي يتصدّى لعمليّة الإطلاق والتقييد ، فمن الجائز مساواة عمده مع الخطأ في غير الجنايات أيضاً من العقود والإيقاعات ، ونتيجتها اعتبار البلوغ في العاقد كما يقتضيه إطلاق الصحيحة .
إلاّ أنّ الظاهر أ نّها في نفسها قاصرة الشمول لمثل ذلك ، فلم ينعقد لها الإطلاق من الأوّل بالإضافة إلى غير مورد الجنايات ، لا أنّ الإطلاق موجود ويقيّد حتى يعترض بعدم المجال للتقييد حسبما عرفت .
والوجه فيه : أنّ الوارد في الصحيحة لو كان هكذا : عمد الصبي كلا عمد ، لتمّ الاستدلال ، لدلالتها حينئذ على أنّ الفعل الصادر منه عن عمد بمثابة عدم العمد وكأ نّه لم يقصد فلا يترتّب عليه الأثر، لكن المذكور فيها هكذا : «عمد الصبي وخطؤه واحد» فتضمّنت تنزيل العمد منزلة الخطأ لا منزلة عدم العمد . وظاهر هذا التعبير مشاركة هذين العنوانين فيما يترتّب عليهما من الأحكام وأنّ كلّ حكم يترتّب على الخطأ في غير الصبي ، فهو مترتّب على العمد بالإضافة إلى الصبي، إذ التنزيل في مثل ذلك إنّما هو بلحاظ الحكم .
وهذا يقتضي فرض الكلام في مورد يكون كلّ من عنواني العمد والخطأ بحياله موضوعاً لحكم مستقلّ بإزاء الآخر وهو خاصّ بباب الجنايات ، حيث إنّ في صورة العمد يثبت القصاص أو الدية حسب اختلاف الموارد ، وفي صورة الخطأ تكون الدية على العاقلة . هذا في البالغين ، فيراد من التنزيل المزبور أنّ عمد الصبي بمثابة خطأ البالغ فلا تترتّب عليه إلاّ الدية على العاقلة على ما نطقت به موثّقة إسحاق المتقدّمة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 29 : 400 / أبواب العاقلة ب 11 ح 3 .
ــ[25]ــ
وأمّا في غير باب الجنايات كالعقود والإيقاعات فلم يترتّب ثَمّة أيّ أثر على الخطأ ، وإنّما الأثر خاصّ بالعمد ، ومع عدمه يرتفع طبعاً ، لا لأجل الخطأ ، بل لانتفاء موضوع الأثر وهو العمد . فلو أراد بيع داره فتلفّظ خطأً بالفرس بدلاً عن الدار ، لم يقع بيع الفرس ، لعدم القصد إليه وانتفاء العمد ، لا لخصوصيّة في الخطأ ، بل وجوده وعدمه سيّان من هذه الجهة .
وممّا يرشدك إلى عدم إمكان الأخذ بإطلاق الصحيحة : أنّ لازم ذلك الحكم بعدم بطلان صوم الصبي بالإفطار العمدي ولا صلاته بالتكلّم العمدي . وكلاهما كما ترى . فلا مناص من الاختصاص بباب الجنايات وما يلحق بها ممّا يكون لكلّ من عمده وخطئه حكم مستقلّ كبعض كفّارات الحجّ على ما قيل ، ولا يكاد يشمل مثل العقود والإيقاعات بوجه .
إذن فالظاهر جواز تصدّي الصبي لإجراء صيغة العقد كآلة لها في ماله أو مال الغير من غير حاجة إلى إجازة الولي .
وأمّا استقلاله في معاملة لم تتعلّق بماله ، كما لو كان وكيلاً عن شخص آخر في بيع أو شراء له على وجه الاستقلال لا مجرّد آلة في إجراء الصيغة ، كما لعلّ السيرة جارية عليه خارجاً ، حيث إنّ البقّال أو العطّار يجعل مكانه صبيّاً فطناً يبيع له ويشتري في غيابه . فظاهر كلمات الفقهاء على ما نسب إليهم عدم الجواز هنا أيضاً .
ولكنّه أيضاً غير واضح ، لعدم نهوض دليل يعوّل عليه :
أمّا الآية الكريمة : فالنظر فيها معطوف إلى مال الصبي نفسه ، ولا تعرّض لها بالإضافة إلى مال الغير بوجه كما هو ظاهر .
وأمّا صحيحة ابن سنان المتقدّمة : فكذلك ، إذ السؤال فيها عن نفوذ أمر الغلام ، وهذه المعاملة لو تمّت فهي مرتبطة بشخص آخر هو العاقد في الحقيقة
|