الرابع : أن تكون العين المستأجرة ممّا يمكن الانتفاع بها مع بقائها ، فلا تصحّ إجارة الخبز للأكل ـ مثلاً ـ(2) ولا الحطب للاشعال ، وهكذا .
ــــــــــــــــــــــــــ (2) أو الماء للشرب ، أو الدرهم للصرف ، ونحو ذلك ممّا يتوقّف الانتفاع
ــ[38]ــ
الخامس : أن تكون المنفعة مباحة (1) ، فلا تصحّ إجارة المساكن لإحراز المحرّمات ، أو الدكاكين لبيعها ، أو الدوابّ لحملها ، أو الجارية للغناء ، أو العبد لكتابة الكفر ، ونحو ذلك ، وتحرم الاُجرة عليها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على إعدام العين وإفنائها ، لخروج ذلك عن حقيقة الإجارة ، لما تقدّم من تقوّم مفهومها بتمليك المنفعة المنوط بإبقاء العين والمحافظة عليها لكي تستوفى منها المنافع ، التي هي حيثيّات وشؤون للعين تدريجاً ، ومن الواضح أنّ مثل الخبز فاقد لهذا الشأن ، فإنّ أكله إتلافه لا أ نّه استيفاء شأن من شؤونه . ففي الحقيقة يعدّ هذا الأمر من مقوّمات الإجارة لا من شرائطها .
(1) فلا تتعلّق الإجارة بالمنافع المحرّمة كالأمثلة المذكورة في المتن . ويستدلّ لهذا الاشتراط :
تارةً : بما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ المنفعة المحرّمة غير مملوكة ، فلا يملكها مالك العين حتى يملّكها بالإجارة المتقوّمة بتمليك المنفعة وتملّكها . قال (قدس سره) في تعليقته الأنيقة ما لفظه : إنّ اشتراط مملوكيّة المنفعة يغني عن هذا الشرط ، فإنّ المنفعة المحرّمة غير مملوكة (1) .
فالملكيّة حسب الاعتبار الشرعي تختصّ بالمنافع المحلّلة التي يمكن أن يستوفيها المالك بنفسه فيملّكها للغير بالإيجار ، دون المحرّمة التي لا سلطنة له عليها ، ومن ثمّ كان اشتراط الملكيّة مغنياً عن هذا الشرط .
ويندفع : بأنّ هذا إنّما يتّجه بالإضافة إلى إجارة الأعمال ، فلو آجر نفسه لعمل محرّم من قتل أو ضرب أو كذب أو نقل الخمر من مكان إلى آخر ونحو
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تعليقة النائيني على العروة الوثقى 5 : 11 (تحقيق جماعة المدرسين) .
ــ[39]ــ
فذلك من المحرّمات الإلهيّة لم يصحّ ، نظراً إلى عدم السلطنة له على هذه الأعمال بعد النهي الشرعي، فلا تعتبر ملكيّته لما هو ممنوع عنه ، ولم يكن تحت اختياره، فليس له إذن التمليك للغير كما أفاده (قدس سره) .
وأمّا بالنسبة إلى إجارة الأعيان فكلاّ ، إذ المحرّم إنّما هو فعل المستأجر من إحراز المسكر أو بيع الخمر ونحو ذلك ، لا الحيثيّة القائمة بالمال التي هي مناط صحّة الإيجار حسبما مرّ .
حيث قد عرفت عند التكلّم حول مفهوم الإجارة أنّ العين المستأجرة كالدار للسكنى تتضمّن حيثيّتين : إحداهما قائمة بالعين وهي قابليتها للانتفاع وكونها معرضاً للسكنى ، أي حيثيّة المسكونيّة . والاُخرى قائمة بالمستأجر ومن أعراضه ، وهي حيثيّة الساكنيّة . ومناط صحّة الإجارة إنّما هي الحيثيّة الاُولى التي هي ملك للمؤجّر وتحت اختياره وسلطانه ، دون الثانية التي هي من أفعال المستأجر وليست مملوكة للمؤجّر حتى يملكها المستأجر .
ومن الواضح أنّ المحكوم بالحرمة إنّما هي الثانية دون الاُولى ، فإنّ الحرام هو إحراز الخمر أو بيعه أو حمله على الدابّة ونحو ذلك ممّا هو فعل المستأجر ، لا قابليّة الدار أو الدكّان أو الدابّة لهذه الاُمور ، فإنّ هذه القابليّة المملوكة لمالك العين نسـبتها إلى المحلّلات والمحرّمات على حدٍّ سواء في عدم معنى محصّل لاتّصافها بالحرمة ، فما هو قابل للتحريم غير مملوك للمؤجّر ، وما هو مملوك له غير قابل للتحريم .
وعليه ، فلا يغني اشتراط الملكيّة عن هذا الشرط بالنسبة إلى المنافع وإن تمّ ذلك بالإضافة إلى الأعمال حسبما عرفت .
وممّا يرشدك إلى أنّ تلك القابليّة مملوكة حتى فيما لو صرفت في الحرام أ نّه لا ينبغي التأمّل في أنّ من غصب داراً فأحرز فيها الخمر ، أو دكّاناً فباعها فيه ،
ــ[40]ــ
أو دابّة فحملها عليها من مكان إلى آخر ، فإنّه يضمن لمالك العين اُجرة المثل ، لما استوفاها من المنافع جزماً ، ولا سبيل إلى القول بعدم الضمان بدعوى عدم ماليّتها بعد كونها محرّمة .
وهذا بخلاف ما لو أجبر حرّاً على عمل محرّم من كذب أو ضرب أو حمل الخمر ونحو ذلك ، فإنّه لا يضمن هذه المنافع ، إذ الحرام لا ماليّة له في شريعة الإسلام ، فلا يكون الحرّ مالكاً لذاك العمل حتى يكون الغاصب ضامناً لما أتلفه .
ويستدلّ له اُخرى بعدم القدرة على التسليم بعد أن كان الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً ، وقد تقدّم أنّ القدرة عليه من شرائط الصحّة .
وفيه : ما تقدّم من أنّ القدرة المزبورة لم تكن شرطاً بعنوانها ، وإنّما اعتبرت بمناط أنّ المنفعة التي يتعذّر تسليمها بما أ نّها تنعدم وتتلف شيئاً فشيئاً فلا يمكن انتزاع عنوان الملكيّة بالإضافة إليها لكي تقع مورداً للإجارة المتقوّمة بالتمليك للغير . ومن الضروري أنّ المنع الشرعي لا يستوجب سلب اعتبار الملكيّة بالإضافة إلى تلك المنفعة القائمة بالعين ، فهي بهذه الحيثيّة ـ التي هي مناط صحّة الإجارة كما مرّ ـ مملوكة للمالك وإن حرم عليه تسليمها ، لعدم التنافي بين المملوكيّة وبين الحرمة الشرعيّة ، ولذا ذكرنا أنّ الغاصب لو انتفع من العين تلك المنفعة المحرّمة ـ كما لو حمّل الدابّة المغصوبة خمراً ـ ضمن للمالك مقدار اُجرة المثل .
وبالجملة : الممنوع شرعاً إنّما يكون كالممتنع عقلاً بالإضافة إلى تسليم المنفعة المحرّمة لا إلى ملكيّتها ، لعدم المضادّة بين ممنوعيّة التسليم شرعاً وبين الملكيّة . وهذا بخلاف ممنوعيّته تكويناً وعدم القدرة عليه عقلاً ، فإنّه مناف لاعتبار الملكيّة وقتئذ كما عرفت .
ــ[41]ــ
والصحيح في وجه الاشتراط أن يقال : إنّ أدلّة صحّة العقود ووجوب الوفاء بها قاصرة عن الشمول للمقام ، إذ لا يراد من صحّة العقد مجرّد الحكم بالملكيّة ، بل التي تستتبع الوفاء ويترتّب عليها الأثر من التسليم والتسلّم الخارجي ، فإذا كان الوفاء محرّماً والتسليم ممنوعاً فأيّ معنى بعد هذا للحكم بالصحّة ؟! أفهل تعاقدا على أنّ المنفعة تتلف بنفسها من غير أن يستوفيها المستأجر ، أم هل ترى جواز الحكم بملكيّة منفعة لا بدّ من تفويتها وإعدامها وليس للمؤجّر تسليمها للمستأجر لينتفع بها ؟!
وعلى الجملة : صحّة العقد ملازمة للوفاء بمقتضى قوله تعالى : (أَوفُوا بِالعُقُودِ) (1) ، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم بطبيعة الحال، فأدلّة الوفاء ونفوذ العقود لا تعمّ المقام، ومعه لا مناص من الحكم بالبطلان.
هذا ما تقتضيه القاعدة .
ويدلّ عليه من الروايات : ما رواه الشيخ بإسناده عن عبد المؤمن ، عن صابر (جابر) ، قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه (فيها) الخمر «قال: حرام أجره»(2).
أمّا من حيث السند فالظاهر أ نّها معتبرة ، إذ المذكور في الوسائل وإن كان «صابر» ولم يوثّق ، ولكن المذكور في موضع من التهذيب مع لفظة «صابر» كلمة «جابر» بعنوان النسخة ، وهو جابر الجعفي الذي أدرك الصادق (عليه السلام) ، لا جابر بن عبدالله الأنصاري ، فإنّه لم يدركه (عليه السلام) والأوّل هو جابر ابن يزيد الجعفي الذي هو ثقة ومن أصحاب الصادق (عليه السلام) وله عنه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المائدة 5 : 1 .
(2) الوسائل 17: 174/ أبواب ما يكتسب به ب39 ح1 ، الكافي 5 : 227/ 8 ، التهذيب 7 : 134 / 593 و 6 : 371 / 1077 ، الاستبصار 3 : 55 / 179 .
ــ[42]ــ
(عليه السلام) روايات .
والمذكور في موضع آخر من التهذيب والاستبصار وكذا الكافي هو «جابر» من دون ضمّ «صابر» حتى بعنوان النسخة . فمن ثمّ يُطمأنّ أنّ الراوي إنّما هو جابر ، وأنّ كلمة «صابر» غلط من النسّاخ ، ولعلّهم لم يقدروا على قراءة الكلمة فضبطوها بالكيفيّتين .
وكيفما كان ، فلا شكّ أنّ الكافي أضبط سيّما مع اعتضاده بالاستبصار وبموضع آخر من التهذيب ، ولا ندري لماذا اقتصر في الوسائل على ضبط «صابر» ؟! وكان ينبغي عليه ضمّ جابر ولو بعنوان النسخة ، ولعلّها مذكورة في بعض نسخها الاُخر .
وعلى أيّ تقدير فالسند معتبر .
وأمّا الدلالة : فقد رويت في الكافي والاستبصار وموضع من التهذيب هكذا : يؤجّر بيته يباع فيه الخمر . الظاهر في وقوع الإجارة لهذه الغاية وبعنوان المنفعة المحرّمة ، وقد دلّت على الحرمة الملازمة للبطلان ، فتكون حينئذ مطابقة لمقتضى القاعدة حسبما عرفت .
ولكنّها رويت في موضع آخر من التهذيب كما في الوسائل بلفظة : فيباع ، إلخ ، مع «الفاء» الظاهر في أنّ بيع الخمر أمر اتّفاقي ، لا أنّ الإجارة وقعت عليه .
ولا إشكال في الصحّة حينئذ كما نطقت به صحيحة ابن اُذينة ، قال : كتبت إلى أبي عبدالله (عليه السلام) أسأله عن الرجل يؤاجر سفينته ودابّته ممّن يحمل فيها أو عليها الخمر والخنازير «قال : لا بأس» (1) .
فيكون حال ذلك حال بيع العنب ممّن يعلم أ نّه يجعله خمراً ، الذي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 17 : 174 / أبواب ما يكتسب به ب 39 ح 2 .
|