ــ[206]ــ
[ 3298 ] مسألة 16 : إذا تبيّن بطلان الإجارة رجعت الاُجرة إلى المستأجر(1) واستحقّ المؤجّر اُجرة المثل بمقدار ما استوفاه المستأجر من المنفعة ، أو فاتت تحت يده إذا كان جاهلاً بالبطلان ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بلا إشكال فيه، لكشف الفساد عن عدم الانتقال، وبقاء الاُجرة على ملك مالكها الأوّل وهو المستأجر، فإن لم يكن أدّاها فهو ، وإلاّ استرجعها من المؤجّر وهو معنى الفساد، ولكنّه يضمن المنفعة للمؤجّر ويلزمه دفع اُجرة المثل، سواء استوفاها من العين أم فاتت تحت يده .
وهذا ممّا لا ينبغي الإشكال فيه أيضاً .
وإنّما الكلام في مستنده :
أمّا في صورة الاستيفاء : فدليله قاعدة الإتلاف ، المستفادة من الموارد المتفرّقة والملخّصة في العبارة المعروفة : من أتلف مال الغير فهو له ضامن . فإنّها وإن لم ترد بهذا اللفظ في أيّ رواية غير أنّ النصوص العديدة نطقت بأنّ إتلاف مال المسلم موجب للضمان ، وأ نّه لا يحلّ ماله إلاّ بطيبة نفسه .
بل لا خلاف في المسألة ظاهراً، ولا إشكال فيما إذا كان المؤجّر جاهلاً بالحال .
وأمّا في صورة التلف تحت يده وإن لم يستوفها فالمشهور هنا أيضاً هو الضمان وإن خالف فيه بعضهم .
والصحيح ما عليه المشهور ، لقاعدة اليد التي هي بنفسها مقتضية للضمان على ما ورد من أ نّه : «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المستدرك 17 : 88 / كتاب الغصب ب 1 ح 4 .
ــ[207]ــ
خصوصاً مع علم المستأجر (1) ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نعم ، الرواية غير نقيّة السند ، لكن السيرة العقلائيّة قائمة على ذلك من غير حاجة إلى ورود نصّ خاصّ ، إذ لا ينبغي الشكّ في أنّ من أخذ مالاً من أحد ولم يكن له فيه حقّ فهو مسؤول عنه ومؤاخذ به ، فهي قاعدة عقلائيّة سارية لدى العرف من غير نكير ، وممضاة لدى الشرع ولو بعدم الردع .
مضافاً إلى ما يستفاد من بعض النصوص من أنّ حرمة مال المسلم كحرمة دمه .
وعلى الجملة : فمن راجع السيرة العقلائيّة لا يكاد يشكّ في استقرارها على مفاد قاعدة اليد ، وأنّ من استولى على مال أحد من عين أو منفعة بغير حقّ فهو مطالب به لو تلف ، سواء انتفع به أم لا .
فحال الإجارة الباطلة حال الغصب ، ولا فرق إلاّ من جهة العذر الشرعي وعدمه فيما إذا كان جاهلاً بالبطلان .
وعلى هذا الأساس تبتني القاعدة المعروفة من أنّ : ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، كما لا يخفى .
(1) لا خصوصيّة لعلم المستأجر فيما هو (قدس سره) بصدد بيانه ـ أعني : الضمان ـ فإنّ المناط فيه إمّا الإتلاف أو قاعدة اليد ، والعلم والجهل في ذلك شرع سواء .
نعم ، يختلف الحال بالإضافة إلى الحكم التكليفي ، لحرمة التصرّف مع العلم دون الجهل عن عذر وقصور ، فإنّه لا يكون حينئذ آثماً ، كما لا يكون تصرّفه مبغوضاً عليه ظاهراً .
وأمّا بلحاظ الحكم الوضعي ـ أعني : الفساد والضمان ـ فالملاك فيهما واحد حسبما عرفت .
ــ[208]ــ
وأمّا إذا كان عالماً فيشكل ضمان المستأجر (1) ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا كلّه مع جهل المؤجّر ، وستعرف الحال مع علمه .
(1) وإن كان المشهور هو الضمان، لقاعدة اليد، ومن ثمّ حكموا بأنّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، فجعلوا هذه الكبرى مبنيّة على تلك القاعدة السارية في صورتي علم الدافع وجهله بمناط واحد .
والصحيح ما عليه المشهور، لما عرفت من السيرة العقلائيّة القائمة على الضمان باليد، ما خلا صورة واحدة، وهي التي أقدم المالك فيها على المجّانيّة وعدم ضمان الآخذ ، التي هي الموضوع في كبرى : ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده .
ومن الواضح جدّاً عدم اندراج المقام في تلك الصورة ، بداهة عدم إقدام المؤجّر على التمليك المجّاني والتسليم بلا عوض ، كما أنّ القابض وهو المستأجر أيضاً لم يقبض كذلك ، بل كانت المعاملة مبنيّة على أن يكون التلف من كيسه ـ أي كيس المستأجر ـ وهو معنى الضمان ، ومن ثمّ ربّما تقع المداقّة في تعيين الاُجرة وتحديدها ، ولا يغضّ البصر عن النزر اليسير منها .
وبعد هذا فكيف يصحّ القول ـ كما في المتن ـ بأ نّه أقدم على هتك حرمة ماله وإلغاء احترامه ؟!
نعم ، ربّما يعلم المؤجّر بفساد المعاملة وعدم إمضائها شرعاً ، إلاّ أنّ العلم بالفساد الشرعي شيء والإقدام على المجّانيّة وهتك الحرمة شيء آخر لا علاقة بينهما بوجه ، فإنّ المعاملات إنشاءات عرفيّة مطّردة بين جميع أهل الملل ممّن يعتنق الدين ومن لا يعتنق ، وهي عند الكلّ بمعنى واحد ، سواء أكان المتعاملان مسلمين، أم كافرين، أم مختلفين، فهي اعتبارات عقلائيّة أجنبيّة عن عالم الشرع بالكلّيّة ، فيبرز المؤجّر ـ مثلاً ـ اعتباره بما أ نّه من العقلاء ، وهذا الاعتبار قد
ــ[209]ــ
يقترن بالإمضاء الشرعي واُخرى لا ، وذاك مطلب آخر لا مساس له بالعمليّة الصادرة من المتعاملين بما هما متعاملان .
وعليه ، فعلم المؤجّر ـ أحياناً ـ بعدم كون اعتباره مورداً للإمضاء الشرعي لا ينافي تحفّظه على احترام ماله وعدم كون تسليط المستأجر عليه عارياً عن العوض وكونه مضموناً عليه ، فإنّ الذي يخرجه عن الضمان إنّما هو الإقدام على الإتلاف مجّاناً باعتبار اندراجه عندئذ تحت الكبرى الثانية ـ أعني : ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ـ فيصحّ حينئذ أن يقال : إنّ المالك هو الذي ألغى احترام ماله وهتك حرمته . وأمّا إذا أعطاه بعنوان الضمان ولم يقدم إلاّ على أن يكون تلفه من القابض ـ كما هو المفروض في المقام ـ فأيّ هتك أو إلغاء بعد هذا ؟! والعلم بالفساد الشرعي لا يستوجبه بوجه .
كيف ؟! ولو صحّ ذلك لاقتضى عدم الضمان في شيء من المعاملات الفاسدة ، فيسوغ لبائع الخمر أو الكلب التصرّف في الثمن مع علم المشتري بالفساد، وهكذا الحال في أجر لزانية، مع صراحة الروايات في أنّ ثمن الخمر وكذا الكلب سحت(1) ، وهكذا ما ورد من أنّ أجر الزانية (2) أو أجر القضاة سحت(3) ، إذ كيف يكون سحتاً مع أنّ المالك هو الذي أقدم على الإتلاف وألغى احترام المال كما ادّعي ؟!
وارتكاب التخصيص في هاتيك النصوص بالحمل على غير صورة العلم ، كما ترى .
وعلى الجملة : فالظاهر أ نّه اختلط الأمر في المقام بين الاعتبار العقلائي وبين
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 17 : 93 / أبواب ما يكتسب به ب 5 ح 5 .
(2) الوسائل 17 : 93 / أبواب ما يكتسب به ب 5 ح 6 .
(3) الوسائل 17 : 95 / أبواب ما يكتسب به ب 5 ح 12 .
ــ[210]ــ
خصوصاً إذا كان جاهلاً ((1)) (1) ، لأ نّه بتسليمه العين إليه قد هتك حرمة ماله ، خصوصاً إذا كان البطلان من جهة جعل الاُجرة ما لا يتموّل شرعاً أو عرفاً أو إذا كان آجره [(2) ] بلا عوض (2) .
ودعوى أنّ إقدامه وإذنه في الاستيفاء إنّما هو بعنوان الإجارة والمفروض عدم تحقّقها ، فإذنه مقيّد بما لم يتحقّق .
مدفوعة بأ نّه إن كان المراد كونه مقيّداً بالتحقّق شرعاً فممنوع ، إذ مع فرض العلم بعدم الصحّة شرعاً لا يعقل قصد تحقّقه إلاّ على وجه التشريع المعلوم عدمه ، وإن كان المراد تقييده بتحقّقها الإنشائي فهو حاصل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإمضاء الشرعي ، فإنّ الذي يعلم به المؤجّر هو أنّ الشارع لم يمضه ، وهذا أجنبي عن تحقّق المعاملة في نفسها .
(1) لا خصوصيّة لجهل المستأجر بعد البناء على أنّ المؤجّر هو الذي ألغى احترام ماله وأقدم على المجّانيّة ، لعدم الفرق حينئذ بين علم المستأجر بالفساد وجهله ، فلم يتّضح وجهٌ للخصوصيّة في كلّ من الموردين .
والصحيح ما عرفت من عدم الإقدام على إلغاء الاحترام ، فلا مخرج عن ضمان المنفعة التالفة تحت يد المستأجر في شيء من الصورتين حسبما عرفت .
(2) يصحّ ما ذكره (قدس سره) في خصوص الفرض الأخير ، ـ أعني : ما لو
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الظاهر الضمان إلاّ فيما إذا أقدم المؤجّر أو الأجير على عدمه ، وكذا الحال في ضمان المؤجّر أو الأجير الاُجرة ، ثمّ إنّه لم يظهر وجه للخصوصيّة في شيء من الموردين .
[ 2 ] ضبط الكلمة : اُجرة ، كما في كثير من النسخ غلط كما لا يخفى ، والصحيح هكذا : آجره . وفي بعض النسخ : إجارة ، بدل : اُجرة .
ــ[211]ــ
ومن هنا يظهر حال الاُجرة أيضاً ، فإنّها لو تلفت في يد المؤجّر يضمن عوضها ، إلاّ إذا كان المستأجر عالماً ببطلان الإجارة ومع ذلك دفعها إليه .
نعم ، إذا كانت موجودة له أن يستردّها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان الفساد من أجل كون الإجارة بلا عوض ـ إذ في الحقيقة لا إجارة ولا معاوضة وقتئذ ، بل من الأوّل أقدم على المجّانيّة وعلى إلغاء الاحترام كما ذكره ، فلا ضمان حينئذ حتى مع الإتلاف فضلاً عن التلف ، والسيرة العقلائيّة قائمة على ذلك حتى في الأعيان ، فلا ضمان فيما لو قال : ألق مالي في البحر . لأنّ المالك هو الذي سلّط القابض على إتلاف العين أو المنفعة مجّاناً .
فالفرض المزبور مصداق بارز لكبرى: ما لايضمن بصحيحه لايضمن بفساده ، لأنّ هذه المعاملة لو كانت صحيحة لم يكن فيها ضمان ـ لعدم الإقدام عليه لا من الدافع ولا من القابض ـ فكذا في فاسدها . فليس للمؤجّر أن يطالبه بعد ذلك بالبدل ، وهذا ظاهر .
وأمّا في الفرض الأوّل ـ أعني: ما لو كانت الاُجرة ما لا يتموّل شرعاً كالخمر أو الكلب غير الصيود أو الميتة ونحوها ممّا لا تصحّ المعاوضة عليها ـ فيجري فيها الكلام المتقدّم من عدم الإقدام على المجّانيّة ، غايته جعل العوض شيئاً لم يمضه الشارع ، فيكون حاله حال غير الخمر في عدم جواز التصرّف في شيء من الموردين ، ولا يقاس ذلك بالفرض السابق ، لما عرفت من كون الإقدام على الإتلاف هناك مجّانيّاً دون المقام .
وإنّما الكلام في الفرض المتوسّط ـ أعني : ما لو كانت الاُجرة ما لا يتموّل عرفاً كالخنفساء ـ فهل هو يلحق بالفرض الأوّل أو الأخير ؟
ــ[212]ــ
اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في تعليقته الأنيقة الثاني (1) ، نظراً إلى رجوعه في الحقيقة إلى التسليم بغير عوض بعد أن لم يصلح ما جعل عوضاً للعوضيّة عرفاً ، لعدم كونه مالاً ، فهو في قوّة التسليط على العين مجّاناً .
أقول : يقع الكلام :
تارةً : في صحّة هذه المعاملة في نفسها .
واُخرى : في أ نّه على تقدير الفساد ولو من بقيّة الجهات كجهالة المدّة ـ مثلاً ـ فهل يضمن المستأجر اُجرة المثل ، أو أ نّها تلحق بالإجارة بلا اُجرة في عدم الضمان ؟
أمّا الجهة الاُولى : فقد ذهب جمع بل نسب إلى المشهور اعتبار الماليّة في العوضين من بيع أو غيره ، فما لا ماليّة له لا تصحّ المعاملة عليه .
ولكنّه غير ظاهر الوجه .
نعم ، عُرِّف البيع بمبادلة مال بمال ، كما عن المصباح (2) ، ولكنّه من الواضح أ نّه تعريف لفظي كما هو شأن اللغوي ، فلا يستوجب التخصيص بعد أن كان المفهوم العرفي أوسع من ذلك ، لشموله لمطلق التمليك بعوض ، سواء أكان العوض مالاً عرفاً أم ملكاً بحتاً ، في مقابل التمليك بلا عوض المعبّر عنه بالهبة ، كما يعبّر عن الأوّل بالبيع ، بل ربّما يستعمل في اُمور اُخر مثل بيع الآخرة بالدنيا ، أو الضلالة بالهدى ، فإنّها ليست باستعمالات مجازيّة كما لا يخفى .
وعلى الجملة : فلم يظهر اختصاص البيع بالمال ، لعدم نهوض دليل يعوّل عليه ، بل يعمّ غيره ويصدق البيع عليه بمناط واحد ، فكما يصحّ تمليك المملوك
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تعليقة النائيني على العروة الوثقى 5 : 57 (تحقيق جماعة المدرسين) .
(2) المصباح المنير 1 : 69 .
ــ[213]ــ
الذي لا ماليّة له تمليكاً مجّانيّاً وبلا عوض بلا تأمّل ولا إشكال ، فكذا يسوغ تمليكه مع العوض ، والأوّل يسمّى هبة والثاني بيعاً .
وهكذا الحال في الإجارة وغيرها من سائر المعاوضات ، فإنّ العبرة بمجرّد المملوكيّة ، ولا دليل على اعتبار الماليّة زائداً عليها .
وربّما يعلّل الفساد فيما لا ماليّة له بأ نّها معاملة سفهيّة فيحكم بالبطلان لهذه الجهـة وإن لم يكن البيع أو الإجارة بالمفهوم العرفي مقتضياً لاعتبار ماليّة العوض .
ويندفع : بعدم نهوض أيّ دليل على بطلان المعاملة السفهيّة، كبيع ما يسوي عشرة الآف بدينار واحد ـ مثلاً ـ أو إيجاره بدرهم سنويّاً ، وإنّما الثابت بطلان معاملة السفيه وأ نّه محجور عن التصرّف إلاّ بإذن الولي ، كما في المجنون والصبي ، لا بطلان المعاملة السفهائيّة وإن صدرت عن غير السفيه .
فإن قلت : أفلا يكشف صدور مثلها عن سفاهة فاعلها ؟
قلت : كلاّ ، فإنّ السفيه من لا يدرك الحسن والقبح، ولا يميّز الأصلح ، لا من يدرك ويعقل كما هو المفروض في المقام ، وإلاّ لحكم بالسفاهة على جميع الفسقة كما لا يخفى ، وهو كما ترى .
نعم ، لو تكرّر صدور مثل تلك المعاملة لا تصف فاعلها بالسفاهة ، أمّا المرّة أو المرّتان فلا يصحّ إطلاق السفيه عليه عرفاً بالضرورة . هذا أوّلاً .
وثانياً : سلّمنا بطلان المعاملة السفهائيّة ، إلاّ أنّ ذلك لا يتمّ على الإطلاق ، إذ قد يكون هناك داع عقلائي يخرج المعاملة عن السفاهة ، كما لو وجد ورقة عند أحد حاوية على خطّ والده وهو مشتاق إلى اقتنائه والمحافظة عليه ، وذلك الشخص لا يرضى ببيعها إلاّ بأغلى الثمن ، مع أنّ الورقة ربّما لا تسوي فلساً واحداً ، أو احتاج في جوف الليل إلى عودة واحدة من الشخّاط لا سبيل إلى
|