ــ[425]ــ
[ 3357 ] مسألة 2 : لو اتّفقا على أ نّه إذن للمتصرّف في استيفاءالمنفعة ولكن المالك يدّعي أ نّه على وجه الإجارة بكذا أو الإذن بالضمان والمتصرّف يدّعي أ نّه على وجه العاريـة (1) ، ففي تقديم أ يّهما وجهان بل قولان : من أصالة البراءة بعد فرض كون التصرّف جائزاً، ومن أصالة احترام مال المسلم الذي لا يحلّ إلاّ بالإباحة والأصل عدمها فتثبت اُجرة المثل بعد التحالف ، ولا يبعد ترجيح الثاني ((1)) ، وجواز التصرّف أعمّ من الإباحة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن ذلك كلّه يظهر حكم عكس المسألة . أعني :
الصورة الثانية : وهي ما إذا كان الدّعي هو المتصرّف ، فإنّ ما أفاده في المتن من تقديم قول المنكر بيمينه إنّما يتّجه فيما إذا تعلّقت الدعوى بالإجارة بالأقلّ من اُجرة المثل كما هو الغالب ، فادّعى الإجارة بالخمسين واُجرة المثل مائة ـ مثلاً ـ لا فيما إذا تعلّقت بالأكثر كالمائتين ، فإنّه يجري فيه الكلام المتقدّم بعينه من عدم كونه من موارد الدعوى ، بل من باب تعارض الاعترافين ، فلاحظ .
(1) قد يفرض هنا أيضاً ـ كالمسألة السابقة ـ أن مدّعي الإجارة هو المالك ، واُخرى أ نّه المتصرّف ، والكلام فعلاً في الفرض الأوّل مع تحقّق الاستيفاء خارجاً .
والمحتملات في المسألة ـ على ما ذكروها ـ ثلاثة :
أحدها : أنّ مدّعي الإجارة هو المدّعي وعليه الإثبات ، وبدونه يتوجّه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) والأظهر هو ترجيح الأوّل ، وذلك لعدم الموجب للضمان إلاّ أحد أمرين ، الأوّل : الاستيلاء على مال الغير بدون إذنه . الثاني : الالتزام بالضمان العقدي . والأوّل في المقام مفروض الانتفاء ، والثاني لم يثبت .
ــ[426]ــ
اليمين إلى الطرف الآخر ، لأ نّه ينفي اشتغال ذمّته بالاُجرة ، والأصل هو البراءة .
ثانيها : عكس ذلك وأنّ مدّعي العارية هو المكلّف بالإثبات، والطرف الآخر منكر ليس عليه إلاّ اليمين .
ثالثها : ما هو ظاهر عبارة المتن ونُسب إلى غيره أيضاً من أ نّهما يتحالفان باعتبار أنّ المقام من موارد التداعي ، لأنّ كلاًّ منهما يدّعي شيئاً ـ من الإجارة أو العارية ـ وينكره الآخر .
هذا ، ولم يرد فيما عثرنا عليه من روايات باب القضاء صحيحها وسقيمها من تفسير المدّعي والمنكر عين ولا أثر ، وإنّما الوارد فيها التعرّض لأحكامهما من كون البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر، أو على المدّعى عليه، على اختلاف التعابير ، ونحو ذلك ، معرضاً عن تحقيق المراد من نفس الموضوع .
ومن ثمّ اختلفت كلماتهم في تفسير هاتين الكلمتين ، فقيل في معناهما اُمور من أنّ المدّعي مَن لو تَرك تُرك ، أو من خالف قوله الأصل أو الظاهر ، وغير ذلك من الوجوه التي لا يمكن التعويل على شيء منها بعد عدم كونها بيّنة ولا مبيّنة، بل المرجع في تشخيص الموضوع ـ كما في سائر المقامات ـ هو العرف وبناء العقلاء ، فكلّ من يدّعي شيئاً ويكون في اعتبار العقلاء هو الملزم بإثباته ومطالباً بدليله وبرهانه فهو المدّعي ، ويقابله المنكر غير المكلّف بإقامة الدليل ، وطريقة الإثبات هي ما ذكر في الأخبار من قوله (عليه السلام) : «إنّما أقضي بينكم بالأيمان والبيّنات» (1) فيطالب المدّعي بالبيّنة ، ومع العدم يكلّف المنكر باليمين ، سواء ادّعى شيئاً أم لا ، فإنّه غير ملزم بإثبات دعواه ، بل يكفيه نفي الدعوى القائمة عليه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 27 : 232 / أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 2 ح 1 .
ــ[427]ــ
وهذه الدعوى التي يطالَب المدّعي بإثباتها تتحقّق في أحد موردين :
أحدهما : من يلزم غيره بحقّ أو مال أو شبه ذلك من زوجيّة أو شرط ضمن عقد أو دين أو نحوها ، فإنّ العقلاء يرون أنّ المدّعي لهذه الاُمور هو المسؤول عن الدليل وعهدة إثباتها عليه ، دون الطرف الآخر المنكر لها ، فإنّه غير ملزم بشيء فلا يطالب من يدّعى عليه الدين بإثبات عدم الاسـتدانة ، بل يطالـب المدّعي بإثبات أصل الدين .
ثانيهما : دعوى من يعترف بالحقّ بأدائه والخروج عن عهدته وفراغ ذمّته عنه ، فإنّ العقلاء يلزمون هذا المعترف بإقامة الدليل لإثبات الأداء الذي ينكره خصـمه ويرونه هو المدّعي في هذا النزاع وإن كان الضابط الذي ذكروه لتشخيصه من أ نّه من لو تَرك تُرك منطبقاً على خصمه ، إذ لا أساس لهذه الضابطة ، ولا شكّ أنّ العقلاء لا يطالبون الخصم بالدليل وإنّما يطلبونه من المعترف فحسب كما عرفت .
فهذا هو الميزان والضابط العامّ لتشخيص المدّعي من المنكر ، وبقيّة ما ذكر من الوجوه لا أساس لها ، فأيّ من المتخاصمين طولب بإقامة الدليل وكان هو الملزم بالإثبات دون الطرف الآخر كان هو المدّعي وكان الآخر منكراً .
ومنه تعرف أ نّه لو كان كلّ من الطرفين ملزماً بالإثبات لعدم ترجيح في البين ، كما لو ادّعى كلّ منهما مالاً تحت يد ثالث يعترف أ نّه أمانة لم يعلم صاحبها، خرج ذلك عن باب المدّعي والمنكر واندرج في باب التداعي ، فإن أقام أحدهما بيّنة وإلاّ تحالفا .
فالتحالف من أحكام التداعي وإلزام كلّ منهما بالإثبات .
وأمّا لو اُلزم أحدهما فقط دون الآخر فلا معنى للتحالف .
ومن هنا يظهر أ نّه لا موقع للتحالف في محلّ الكلام ، فإنّ مدّعي العارية
ــ[428]ــ
لا يدّعي على المالك شيئاً وإنّما يدفع الاُجرة التي يدّعيها المالك عن نفسه ، فلا تداعي لينتهي الأمر إلى التحالف ، بل هي دعوى واحدة من جانب المالك وهو الملزم بإثباتها ، ولا حلف إلاّ على الآخر .
وإذا عرفت ما ذكرناه فتفصيل الكلام في المقـام : أنّ المدّعي للإجارة قد يكون هو المالك ، واُخرى هو المتصرّف ، وعلى التقديرين فقد تكون الدعوى قبل استيفاء المنفعة ، واُخرى بعدها ، ولو كانت في الأثناء فيجري بالنسبة إلى ما مضى حكم ما بعد الاستيفاء وبالإضافة إلى ما بقي حكم ما قبله .
فإن كانت قبل الاستيفاء وكان المدّعي هو المالك فعليه الإثبات ، لأ نّه يلزم المتصرّف بشيء هو ينكره وهو الاُجرة ، فإذا لم يثبت ولم يرض بالبقاء على سبيل العارية استردّ ماله ولم يستحقّ على القابض شيئاً .
وهكذا الحال لو كان المدّعي هو المتصرّف ، حيث إنّه يدّعي ملكيّة المنفعة بالإجارة والمالك ينكرها ، فإذا لم تثبت استردّ ماله . وهذا واضح .
وأمّا إذا كانت بعد الاستيفاء : فإن كان المدّعي هو المتصرّف خرج ذلك عن باب الدعوى واندرج في باب تعارض الإقرارين ، إذ لا يدّعي أيّ منهما حينئذ شيئاً على الآخر ، بل يعترف كلّ منهما بشيء على نفسـه ، فيعترف المتصرّف باشتغال ذمّته بالاُجرة ، كما يعترف المالك بأ نّه لا يستحقّ على المتصرّف شيئاً ، وقد مرّ حكم التعارض المزبور قريباً ، فلاحظ (1) .
وإن كان هو المالك ـ كما هو الغالب ـ فيدّعي اُجرة على المتصرّف ، وهو يدّعي أ نّه سكن الدار عارية ، فلا شيء عليه .
ففي مثله بعدما عرفت أ نّه لا موقع للتحالف كما تقدّم فهل المدّعي من يدّعي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 424 .
ــ[429]ــ
الإجارة وهو المالك ولا بدّ له من الإثبات وإلاّ فالقول قول مدّعي العارية ، أو أنّ الأمر بالعكس والملزم بالإثبات إنّما هو مدّعي العارية ؟
فيه خلاف ، وقد اختار الماتن بعدما ذكر التخالف أنّ مدّعي العارية هو الملزم بالإثبات ، نظراً إلى قاعدة احترام مال المسلم ، فإنّها تستوجب ضمان المتصرّف المستوفي للمنفعة ما لم تثبت المجّانيّة .
ويندفع بأنّ الضمان بالاستيفاء أو التلف ينحصر موجبه في أحد أمرين :
إمّا اليد والاستيلاء على مال الغير الذي هو معنى الأخذ في قوله : «على اليد ما أخذت» إلخ ، وقد استقرّت عليه السيرة العقلائيّة مشروطاً بعدم الإذن ، كما يفصح عنه التعبير بالأخذ المشروب فيه القهر والغلبة والاستيلاء من غير إذن .
أو الالتزام العقدي من إجارة أو غيرها ، حيث يلزم الطرف الآخر أن يكون الضمان من كيسه ، وهو معنى قولهم ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده .
ولا شكّ أنّ الأوّل غير محتمل في المقام بعد فرض صدور الإذن من المالك جزماً ، سواء أكان مع العوض أم بدونه ، فالضمان باليد مقطوع العدم .
وأمّا الضمان بالعقد الذي يدّعيه المالك فغير ثابت على الفرض وهو الملزم بإثباته .
وبالجملة : فالمالك يدّعي الضمان بالعقد لا باليد ولا بدّ له من إثبات ذلك .
وأمّا قاعدة الاحترام فإن قلنا باختصاصها بالحكم التكليفي وأنّ مفادها مجرّد عدم جواز التصرّف في مال المسلم بغير إذنه ، فعدم ثبوت الضمان بها حينئذ واضح .
وإن عمّمناها للحكم الوضعي بحيث شملت الضمان فهو أيضاً مقيّد بعدم الإذن ، ضرورة عدم اقتضاء احترام المال ضمانه في صورة الإذن ، والمفروض أنّ التصرّف في المقام كان بإذن من المالك وإجازته ، سواء أكان على سبيل الإجارة
|