إلاّ أنّ بإزاء ذلك ما دلّ على أنّ وظيفة العامل لدى الاتّهام هو الحلف ولا يكلّف بالبيّنة .
وقد ورد هذا فيما رواه الشيخ بإسناده عن بكر بن حبيب ، قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : أعطيت جبّة إلى القصّار فذهبت بزعمه «قال : إن اتّهمته فاستحلفه ، وإن لم تتّهمه فليس عليه شيء» (1) .
وروايته الاُخرى عنه (عليه السلام) «قال : لا تضمّن القصّار إلاّ ما جنت يده ، وإن اتّهمته أحلفته» (2) .
ونسب هذا إلى المشهور ، واختاره في المتن ، ولكن الروايتين ضعيفتان ، لإهمال الراوي في كتب الرجال ، فلا يمكن التعويل عليهما .
نعم ، إنّ هناك رواية معتبرة ربّما يستدلّ بها على ذلك ، وهي :
صحيحة أبي بصير ـ يعني المرادي ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال : لا يضمن الصائغ ولا القصّار ولا الحائك إلاّ أن يكونوا متّهمين فيخوّف بالبيّنة ويستحلف لعلّه يستخرج منه شيئاً» وفي رجل استأجر جمّالاً فيكسر الذي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 19 : 146 / كتاب الإجارة ب 29 ح 16 ، التهذيب 7 : 221 / 966 .
(2) الوسائل 19 : 146 / كتاب الإجارة ب 29 ح 17 .
ــ[437]ــ
يحمل أو يهريقه «فقال : على نحو من العامل إن كان مأموناً فليس عليه شيء ، وإن كان غير مأمون فهو ضامن» (1) .
حيث استظهر من ذكر الاستحلاف أنّ وظيفة العامل هو الحلف .
ولكن الظاهر أنّ الدلالة قاصرة ، والاستظهار المزبور في غير محلّه ، والوجه فيه أ نّه (عليه السلام) قد حكم صريحاً بالضمان في صورة الاتّهام بقوله (عليه السلام) : «إلاّ أن يكونوا متّهمين» ، ومن المعلوم أنّ المتّهم المطالب بالخروج عن عهدة الضمان لا سبيل لذبّ الضمان عن نفسه إلاّ بإقامة البيّنة على خلافه ولا ينفعه الحلف بوجه . إذن فالاستحلاف المذكور فيها بقرينة التخويف وبيان الغاية بقوله : «لعلّه» إلخ ، ناظر إلى ما قبل الترافع ، وقبل أن تصل النوبة إلى المحاكمة ، فيخوّف وقتئذ ويقال له : إمّا أن تقيم البيّنة ، أو تحلف رجاء أن يستخرج منه ، ولا ينتهي الأمر إلى المرافعـة عند الحاكم وقضائه عليه ، فلا دلالة فيها على حكم ما بعد الترافع ، بل أنّ قوله : «إلاّ أن يكونوا» إلخ ، ظاهر في الضمان حينئذ كما عرفت .
ويعضده ذيل الصحيحة ـ أعني قوله : وفي رجل استأجر ، إلخ ، حيث حكم (عليه السلام) بالضمان لدى عدم الائتمان في مطلق العامل بصورة عامّة ، الراجع إلى جواز مطالبته بالمال إلاّ أن يقيم بيّنة على الخلاف .
وبالجملة : فلا دلالة في الصحيحة على أنّ الوظيفة بعد الترافع وتصدّي الحاكم للقضاء ـ الذي هو محلّ الكلام ـ هو الحلف .
هذا ، ولو أغمضنا النظر عن ذلك وأغمضنا عن ضعف روايتي بكر بن حبيب وافترضناهما معتبرتين فلا معارضة بينهما وبين الروايات المتقدّمة الدالّة على الضمان ومطالبة العامل بالبيّنة ، إذ غايته الدلالة على جواز الاكتفاء
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 19 : 144 / كتاب الإجارة ب 29 ح 11 .
ــ[438]ــ
بالاستحلاف بدلاً عن المطالبة بالبيّنة ، ونتيجته تخيير المالك بين الأمرين .
وإنّما تستقيم المعارضة لو دلّت على عدم جواز المطالبة بها ، ولا دلالة فيها على ذلك بوجه ، فلا معارضة بين الطائفتين بتاتاً .
وقد يقال : انّ نصوص الضمان بالرغم من صحّة أسانيدها ساقطة عن درجة الاعتبار ، من أجل إعراض الأصحاب عنها ، حيث إنّ المشهور ذهبوا إلى الاستحلاف المطابق لمضمون الطائفة الأخيرة. إذن فيكون المرجع ـ بعد وضوح أنّ العامل في المقام هو المنكر ـ الإطلاقات الناطقة بأنّ اليمين على المنكر المعتضدة في المقام بهذه الروايات .
ويندفع أوّلاً : بمنع تحقّق الشهرة المعروف ، أعني : الاشتهار بين الأصحاب كالمتسالم عليه ، بحيث يكون القول الآخر شاذّاً وفي حكم العدم لم يذهب إليه إلاّ مثل ابن الجنيد ونحوه ، كيف ؟! وقد سمعت من الشهيد الثاني نسبة القول بالضمان إلى المشهور (1) ، فغايته أن يكون القول الآخر أشهر والقائل به أكثر ، لا أن يكون مشهوراً بحيث يكون القول الآخر شاذّاً لكي يدّعى من أجله الإعراض .
وثانياً : على تقدير التنازل فلم يعلم إعراض الأصحاب عنها ، ولعلّهم عاملوا مع الطائفتين معاملة المتعارضتين فقدّموا نصوص الحلف من أجل موافقتها للإطلاقات والعمومات الناطقة بأنّ اليمين على المنكر ، فكان العمل بها من باب الترجيح لا من باب الإعراض عمّا بإزائها من نصوص الضمان لتسقط عن الحجّيّة .
وثالثاً : أنّ الكبرى ممنوعة ولا يسقط الصحيح بالإعراض عن الحجّيّة كما مرّ غير مرّة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المسالك 5 : 233 .
ــ[439]ــ
[ 3361 ] مسألة 6 : يكره تضمين ((1)) الأجير في مورد ضمانه (1) من قيام البيّنة على إتلافه أو تفريطه في الحفظ أو تعدّيه أو نكوله عن اليمين أو نحو ذلك .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فتحصّل : أنّ ما نُسِب إلى جماعة ونَسَبه الشهيد إلى المشهور من مطالبة العامل بالبيّنة إذا كان متّهماً وعدم استحلافه هو الصحيح ، وإنّما تطلب البيّنة من المالك فيما إذا كان العامل أميناً ، فيفصّل في العامل بين الموثّق وغيره حسبما عرفت .
(1) لم نقف على مدرك لكراهة التضمين أو استحباب عدمه في مفروض المسألة ـ أعني : مورد كون الأجير محكوماً بالضمان ـ ومن المعلوم أنّ فعل الباقر (عليه السلام) من تطوّله وتفضّله الواردين في الروايتين المتقدّميتن كان مخصوصاً بالعامل المأمون الذي لا موجب لضمانه ، فلم يكن ممّا نحن فيه .
وربّما يستدلّ له برواية حذيفة بن المنصور ، قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يحمل المتاع بالأجر فيضيع المتاع فتطيب نفسه أن يغرمه لأهله ، أيأخذونه ؟ قال : فقال لي : «أمين هو ؟ » قلت : نعم «قال : فلا يأخذ منه شيئاً» (2) .
وفيه : أ نّها قاصرة الدلالة ، إذ المفروض ائتمان الأجير ، ومعه لا موضوع للضمان وإن أحبّ تدارك الخسارة من تلقاء نفسه تحفّظاً على كرامته ولكيلا يتّهم كما ذكر ذلك في رواية اُخرى .
وبالجملة : مورد الرواية هو الأمين ، ومعه لا ضمان على العامل ، فهي أجنبيّة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لم يظهر مستند الحكم بالكراهة .
(2) الوسائل 19 : 152 / كتاب الإجارة ب 30 ح 12 ، التهذيب 7 : 222 / 975 .
|