وفيه : أن ما ذكر إنما يتم لو كان الإجزاء على طبق القاعدة وكان عدم الإجزاء لأجل الاجماع ، فيؤخذ بالقدر المتيقن منه وهو غير هذه الصورة فيتعين القول بالإجزاء ، ولكن الأمر ليس كذلك ، فإن الإجزاء على خلاف القاعدة ويحتاج إلى الدليل الخاص ، وذلك لأن إطلاق الآية والنصوص يقتضي وجوب الحجّ عند فعلية موضوعه سواء حجّ سابقاً أم لا ، وسقوط الحجّ حينئذ مناف لإطلاق الأدلة ، فمقتضى القاعدة عدم الإجزاء .
وبالجملة ما جاء به حجّ غير واجب وإجزاؤه عن الواجب يحتاج إلى الدليل والاعتقاد بالخلاف لا يوجب انقلاب الأمر من الندبي إلى الوجوب وإنما تخيل أنه واجب ومأمور به ، فما أتى به لم يكن واجباً واقعاً وإجزاؤه عن الواجب لا بدّ أن يستند إلى الدليل ، فالأقوى عدم الإجزاء . نعم ، لو ترك الحجّ والحال هذه ـ أي كان معتقداً بالاستطاعة ـ فقد تجرأ وأما الاستقرار فلا دليل عليه .
ولو انعكس الأمر بأن اعتقد أنه لا مال له ولم يحج ثمّ بان الخلاف وكان المال وافياً بالحج ذكر في المتن أنه يستقر عليه الحجّ .
أقول : إذا بقيت الاستطاعة إلى العام القابل فلا كلام ، إنما الكلام فيما إذا زالت الاستطاعة ، ويجري فيه ما تقدم في اعتقاد الصغر ، وقد عرفت أن ترك الحجّ حينئذ مستند إلى العذر لأنه قاطع بعدم الوجوب فلا يتوجه إليه التكليف ، فالظاهر عدم الاستقرار .
المورد الثالث : وهو اعتقاد الضرر وعدمه ، فإنه قد يعتقد عدم الضرر وعدم الحرج ويحج ثمّ ينكشف الخلاف ، وقد ينعكس الأمر أي يعتقد الضرر والحرج
ــ[177]ــ
ويترك الحجّ ثمّ ينكشف عدم ثبوت الضرر في الواقع . أما إذا اعتقد الضرر أو الحرج وترك الحجّ فبان الخلاف فالحكم ما تقدم من عدم الاستقرار ، لما عرفت من عدم شمول أخبار التسويف للمعتقد بعدم التكليف لعدم إمكان توجه التكليف إليه، ويشمله أدلّة العذر .
وأمّا إذا اعتقد عدم الضرر أو عدم الحرج فحج فبان الخلاف ، ذكر في المتن أن الظاهر كفايته وإجزاؤه عن حجّ الإسلام ، ولا يقاس المقام باعتقاد الاستطاعة وانكشاف الخلاف ، والظاهر أنه (قدس سره) يعتمد في ذلك على ما اشتهر بينهم من أن دليل نفي الضرر ينفي الوجوب والالزام وأما أصل المحبوبية فغير منفي وبذلك يصح الحجّ .
وفيه : ما ذكرناه في الاُصول (1) بما لا مزيد عليه من أن الوجوب والاستحباب ليسا بسنخين من الحكم وليسا مجعولين مستقلين وإنما المجعول أمر واحد ، غاية الأمر أنه إن لم يقترن بالترخيص خارجاً ينتزع منه الوجوب ويحكم العقل بتفريغ الذمّة منه ، وإن اقترن بالترخيص ينتزع منه الاستحباب ، فالحكم المجعول شيء واحد وليس في البين أمران حتى يقال بأن أحدهما يرتفع والآخر يبقى ، بل إذا ارتفع ترتفع المحبوبية برأسها ، فإذا ارتفع المجعول برأسه فلا مجال لبقاء المحبوبية . وبعبارة أوضح : دليل نفي الضرر يرفع المجعول الشرعي الذي هو بسيط غير مركب فلا مجال لدعوى أن المحبوبية باقية وغير مرتفعة .
ولكن الأمر كما ذكر من الإجزاء والكفاية ، وذلك لعدم شمول دليل نفي الضرر للمقام لأنه امتناني ولا امتنان في الحكم بالبطلان بعد العمل . وبالجملة : لا مانع من الحكم بصحة الحجّ وإجزائه إلاّ من جهة تحمل الضرر الواقعي ، فإذا فرضنا عدم شمول دليل نفي الضرر للمقام فلا مانع أصلاً من الحكم بالصحة والإجزاء .
نعم ، إذا كان الضرر من الضرر المحرم كالهلاك ونحوه ، فلا نلتزم بالصحّة ، لا لدليل
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محاضرات في اُصول الفقه 2 : 132 .
ــ[178]ــ
نفي الضرر ، بل لأنّ تحمّل الضرر مبغوض واقعاً ولا يمكن التقرب به ، ولكن هذا لا يتصوّر في الحجّ لعدم الضرر في نفس أعمال الحجّ وأفعاله ، فما ذكره (قدس سره) من الإجزاء صحيح ، لا لأجل أن دليل نفي الضرر لا ينفي المحبوبية ، بل لأجل عدم جريان دليل نفي الضرر لكونه امتنانياً لا يشمل مثل الحكم بالبطلان ولا يعم ما إذا انكشف الخلاف بعد العمل .
|