ــ[144]ــ
وحدّ البعد الموجب للأوّل ثمانية وأربعون ميلاً من كل جانب على المشهور الأقوى لصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)، قلت له : قول الله عزّ وجلّ في كتابه: (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) [ البقرة 2 : 196 ] فقال (عليه السلام) : يعني أهل مكّة ليس عليهم متعة ، كل من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلاً ذات عِرق وعُسْفان كما يدور حول مكّة فهو ممّن دخل في هذه الآية ، وكل من كان أهله وراء ذلك فعليه المتعة (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثمّ إنّ المشهور تعين القران أو الإفراد على الحاضر وعدم إجزاء التمتّع عنهما كما هو المستفاد من الآية الشريفة والنصوص المتضافرة خصوصاً المفسرة منها للآية للدلالة على أنّ التمتّع ليس وظيفة للحاضر(1) ، بل لم ينقل الخلاف من أحد إلاّ عن الشيخ (2) وابن سعيد(3) فقد نسب إليهما جواز التمتّع للحاضر أيضا .
وربّما يستدل لهما بأن التمتّع لا ينقص عن القران والإفراد بل المتمتع يأتي بصورة الإفراد وزيادة ، ولا ينافيه زيادة العمرة قبله .
ولا يخفى غرابة هذا الاستدلال ، لأنّ حج التمتّع مغاير ومباين للقسمين الآخرين وإن كان التمتّع مشتركاً معهما في جملة من الأحكام ، ولا دليل على إجزاء التمتّع عنهما بعدما كانت وظيفة الحاضر القران أو الإفراد وعدم مشروعية التمتّع في حقّه ، فما نسب إليهما من جواز التمتّع للحاضر اختياراً لا يمكن المساعدة عليه بوجه .
(1) قد اختلف الفقهاء في حدّ البعد الموجب للتمتّع على قولين :
أحدهما : ـ وهو المشهور ـ أنه عبارة عن ثمانية وأربعين ميلاً من كل ناحية ، أي ستّة عشر فرسخاً المعبر عن ذلك بمرحلتين أو مسير يومين .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 11 : 258 / أبواب أقسام الحج ب 6 ح 1 .
(2) المبسوط 1 : 306 .
(3) الجامع للشرائع : 179 .
ــ[145]ــ
ثانيهما : أنّه عبارة عن اثني عشر ميلاً من كل جانب، ذهب إليه المحقق(1) وصاحب الجواهر (2)، هذا بحسب الأقوال .
وأمّا الروايات فلم يرد فيها التحديد باثني عشر ميلاً إلاّ أن تحمل ثمانية وأربعون ميلاً على التوزيع والتقسيط على الجوانب الأربعة ، فيكون الحد من كل جانب اثني عشر ميلاً . وهذا بعيد جدّاً وإن حاول ابن إدريس (3) رفع النزاع والخلاف بين الأصحاب بذلك .
والمعتمد هو القول المشهور لصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال «قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : قول الله عزّ وجلّ في كتابه : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام قال : يعني أهل مكّة ليس عليهم متعة ، كل من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلاً ذات عِرق وعُسفان كما يدور حول مكّة فهو ممن دخل في هذه الآية ، وكل من كان أهله وراء ذلك فعليهم المتعة» . (4) وهذه الرواية كما تراها واضحة الدلالة على ما ذهب إليه المشهور ، ولا يمكن تأويلها أو حملها على ما ذهب إليه ابن إدريس من تقسيط ثمانية وأربعين ميلاً على الجوانب الأربعة ، وأمّا ذكر ذات عرق وعُسْفان (5) في الصحيحة فهو من باب تطبيق الحد المذكور عليهما تقريباً .
ونحوها رواية اُخرى لزرارة ، قال «قلت : فما حد ذلك ؟ قال : ثمانية وأربعين ميلاً من جميع نواحي مكّة دون عسفان ودون ذات عرق» (6) .
ولكنّها ضعيفة بجهالة طريق الشيخ إلى علي بن السندي المذكور في السند ، فإن الشيخ كثيراً ما يروي عن علي بن السندي وغيره من الرواة من دون ذكر الواسطة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشرائع 1 : 267 .
(2) الجواهر 18 : 6 .
(3) السرائر 1 : 519 .
(4) الوسائل 11 : 259 / أبواب أقسام الحج ب 6 ح 3 .
(5) عُسْفان بضم أوّله وسكون ثانيه بين الجحفـة ومكّـة وهي من مكّة على مرحـلتين . وذات عرق مهلّ أهل العراق وهو الحد بين نجد وتهامة . معجم البلدان 4 : 121 ، 107 .
(6) الوسائل 11 : 260 / أبواب أقسام الحج ب 6 ح 7 .
ــ[146]ــ
بينه وبين الراوي ، ولكن يذكر في آخر كتاب التهذيب طرقه إلى الرواة ليخرج الخبر من الارسال إلى الاسناد ، ولكن لم يذكر طريقه إلى علي بن السندي بل لم يتعرض الشيخ لترجمته لا في المشيخة ولا في الفهرست ولا في رجاله ، وكذا النجاشي مع أن كتابه موضوع لذكر المصنفين والمؤلفين ، ولو فرضنا عدم ثبوت كتاب لعلي بن السندي فلا عذر للشيخ في عدم ذكره في كتاب الرجال ، لأنّ كتاب الرجال موضوع لذكر الرواة والأصحاب وإن لم يكونوا من المصنفين .
هذا مضافاً إلى أن علي بن السندي لم يوثق ، ولا عبرة بتوثيق نصر بن الصباح له لأنّ نصر بنفسه لم يوثق أيضاً ، وقد حاول جماعة منهم الوحيد البهباني توثيق علي بن السندي بدعوى اتحاده مع علي بن إسماعيل الميثمي الثقة ، إلاّ أنه لا يمكن الجزم بالاتحاد ، وتفصيل ذلك موكول إلى كتابنا معجم الرجال(1) ، وتكفينا الصحيحة الاُولى .
وفي المقام صحيحة اُخرى دلّت على أن حدّ البعد ثمانية عشر ميلاً عن جهاتها الأربع(2) ، وذكر صاحب الوسائل في ذيل الحديث أنه لا تنافي بين هذه الصحيحة والصحيحة المتقدّمة ، لأنّ هذه الصحيحة غير صريحة في حكم ما زاد عن ثمانية عشر ميلاً ، وإنما بينت حكم ثمانية عشر ميلاً وهي ساكتة عن حكم ما زاد عن ثمانية عشر ميلاً فتكون موافقة لغيرها فيها وفيما دونها .
ويبعِّده أن الصحيحة في مقام التحديد ويظهر منها قصر الحكم بهذا الحد خاصّة فتكون منافية للصحيحة المتقدّمة . والذي يهوّن الخطب أن هذه الصحيحة لا قائل ولا عامل بها من الأصحاب أبداً . على أنها معارضة بصحيحة زرارة المتقدّمة المشهورة فلا بدّ من طرح هذه الصحيحة المهجورة ، ولصاحب الجواهر كلام (3) سنتعرّض إليه عن قريب إن شاء الله تعالى .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) معجم رجال الحديث 13 : 50 .
(2) الوسائل 11 : 261 / أبواب أقسام الحج ب 6 ح 10 .
(3) الجواهر 18 : 6 .
ــ[147]ــ
وخبره عنه (عليه السلام) : سألته عن قول الله عزّ وجلّ (ذلك ) إلخ ، قال : لأهل مكّة ليس لهم متعة ولا عليهم عمرة ، قلت : فما حدّ ذلك ؟ قال ثمانية وأربعون ميلاً من جميع نواحي مكّة دون عُسْفان وذات عِرق . ويستفاد أيضاً من جملة من أخبار اُخر ، والقول بأن حدّه اثنا عشر ميلاً من كل جانب ـ كما عليه جماعة ـ ضعيف لا دليل عليه إلاّ الأصل ، فإن مقتضى جملة من الأخبار وجوب التمتّع على كل أحد والقدر المتيقن الخارج منها من كان دون الحد المذكور ، وهو مقطوع بما مرّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثمّ إنه قد ورد في الحاضر خبران يدلان على أن العبرة في الحضور إنما هو بدون الميقات لا بالمقدار المذكور وأن الحاضر من كان منزله دون الميقات .
الخبر الأوّل : ما رواه الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال : «في حاضري المسجد الحرام ، قال : ما دون المواقيت إلى مكّة فهو حاضري المسجد الحرام ، وليس لهم متعة» (1) .
الثاني : صحيح حماد «في حاضري المسجد الحرام ، قال : ما دون الأوقات إلى مكّة» (2) . ولكن لا يمكن العمل بهاتين الروايتـين لعدم القائل بهما منا ومخالفتهما للمتسالم عليه بين أصحابنا فلا بدّ من طرحهما أو حملهما على ما دون المواقيت كلّها . هذا مضافاً إلى ضعف الخبر الأوّل سنداً ، لأنّ الموجود في السند ـ على ما في الوسائل ـ أبو الحسن النخعي وهكذا في التهذيب المطبوع حديثاً(3)، وفي بعض نسخ التهذيب أبو الحسين النخعي وهو لقب أيوب بن نوح بن دراج الثقة ، أمّا أبو الحسن فهو مجهول ، فيدور الراوي بين الموثق وغيره وتسقط الرواية بذلك عن الاعتبار .
وقد استدلّ على أنّ حدّ البعد الموجب للتمتع اثنا عشر ميلاً من كل جانب بوجوه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 11 : 260 / أبواب أقسام الحج ب 6 ح 4 .
(2) الوسائل 11 : 260 / أبواب أقسام الحج ب 6 ح 5 .
(3) التهذيب 5 : 33 / 99 .
ــ[148]ــ
أو دعوى أنّ الحاضر مقابل للمسافر والسفر أربعة فراسخ وهو كما ترى، أو دعوى أنّ الحاضر المعلق عليه وجوب غير التمتّع أمر عرفي والعرف لا يساعد على أزيد من اثني عشر ميلاً ، وهذا أيضاً كما ترى ، كما أنّ دعوى أنّ المراد من ثمانية وأربعين التوزيع على الجهات الأربع فيكون من كل جهة اثنى عشر ميلاً منافية لظاهر تلك الأخبار ، وأمّا صحيحة حريز الدالّة على أن حدّ البعد ثمانية عشر ميلاً فلا عامل بها ، كما لا عامل بصحيحتي حمّاد بن عثمان والحلبي الدالّتين على أنّ الحاضر من كان دون المواقيت إلى مكّة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأوّل : العمومات الدالّة على وجوب التمتّع على كل مكلف كصحيحة الحلبي : «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة لأنّ الله تعالى يقول : (فمن تمتّع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهَدي) فليس لأحد إلاّ أن يتمتّع ، لأنّ الله أنزل ذلك في كتابه وجرت به السنّة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) »(1) . والقدر المتيقن الخارج منها من كان دون الحد المذكور ، فمن كان فوق الحد يشمله العمومات .
وفيه أوّلاً : أن العمومات تخصص بما دلّ على التحديد بثمانية وأربعين ميلاً كصحيحة زرارة المتقدّمة .
وثانياً : أنّ العمومات لا إطلاق لها من هذه الجهة أي ثبوت المتعة على كل مكلف وإنما هي ناظرة إلى حكم النائي في قبال العامّة القائلين بجواز الإفراد أو القران للنائي وهذه الروايات في مقام الرد عليهم وأن النائي لا يجوز له إلاّ التمتّع .
الثاني : ما استدل به صاحب الجواهر(2) بالآية وحاصله : أن موضوع التمتّع من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وموضوع الإفراد والقران هو الحاضر ، ومقابل الحاضر هو المسافر ، فمعنى الآية أن من أراد زيارة البيت الحرام ولم يكن حاضراً وصدق عليه المسافر فوظيفته التمتّع ، وإذا كان حاضراً ولم يصدق عليه عنوان المسافر
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 11 : 240 / أبواب أقسام الحج ب 3 ح 2 .
(2) الجواهر 18 : 6 .
ــ[149]ــ
وهل يعتبر الحدّ المذكور من مكّة أو من المسجد ؟ وجهان ، أقربهما الأوّل ((1)) ومن كان على نفس الحد فالظاهر أن وظيفته التمتّع ، لتعليق حكم الإفراد والقران على ما دون الحد ، ولو شكّ في كون منزله في الحد أو خارجه وجب عليه الفحص ومع عدم تمكّنه يراعي الاحتياط وإن كان لا يبعد القول ((2)) بأ نّه يجري عليه حكم الخـارج فيجب عليه التمتّع ، لأنّ غيره معلق على عنوان الحاضر وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالواجب عليه الإفراد أو القران ، فلا بدّ من ملاحظة حدّ السفر الموجب للقصر ، وقد حقق في محلّه أن حدّ السفر أربعة فراسخ أي مقدار اثني عشر ميلا .
وبتعبير آخر : كل من كان دون الحد كما يجب عليه التمام لعدم صدق المسافر عليه كذلك يجب عليه الإفراد أو القران لصدق الحاضر عليه ، ومن كان فوق الحد يصدق عليه المسافر فيجب عليه التمتّع ، فالعبرة بصدق عنوان المسافر والحاضر .
ويرد عليه أوّلاً : أن التحديد بأربعة فراسخ ليس من جهة دخل ذلك في صدق عنوان السفر ، فإن موضوع السفر لم يحدد بأربعة فراسخ لا لغة ولا عرفاً ، وإنما التحديد راجع إلى تخصيص الحكم بالنسبة إلى قصر الصلاة وتمامها .
وثانياً : أنّ الآية الكريمة غير ناظرة إلى الحضور مقابل السفر وإنما تنظر إلى الحضور في البلد الحرام في قبال الغياب عنه والحضور في غيره ، فالمراد من قوله تعالى : (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام)(3) من لم يكن من أهل مكّة وسكنتها ، وذلك يصدق على من كان يسكن غير بلدة مكّة سواء كان قريباً أو بعيدا .
وإن شئت قلت : إن المكلفين على قسمين ، قسم يسكن مكّة المكرّمة وقسم يسكن غير بلدة مكّة ، والآية ناظرة إلى تقسيم المكلفين إلى قسمين من حيث مسكنهم وأوجب الله تعالى التمتّع على من لم يكن من سكنة مكّة المعظمة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بل الثاني .
(2) هذا هو الصحيح ، وعليه فلا يجب الفحص مع الشك ، كما لا يجب الاحتياط مع عدم التمكن منه .
(3) البقرة 2 : 196 .
ــ[150]ــ
مشكوك ، فيكون كما لو شكّ في أن المسافة ثمانية فراسخ أو لا فإنه يصلي تماماً لأنّ القصر معلق على السفر وهو مشكوك . ثمّ ما ذكر إنما هو بالنسبة إلى حجّة الإسلام حيث لا يجزئ للبعيد إلاّ التمتّع ولا للحاضر إلاّ الإفراد أو القران ، وأمّا بالنسبة إلى الحج الندبي فيجوز لكل من البعيد والحاضر كل من الأقسام الثلاثة بلا إشكال وإن كان الأفضل اختيار التمتّع ، وكذا بالنسبة إلى الواجب غير حجّة الإسلام كالحج النذري وغيره .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولو كنّا نحن والآية المباركة لكان مقتضاها وجوب التمتّع على من لم يكن من سكنة مكّة المكرّمة ، سواء كان ساكناً في بلد قريب دون الحد المذكور أو كان ساكناً في البلاد البعيدة ، ولكن النصوص حددت البعد بثمانية وأربعين ميلاً وألحقت الساكنين في هذا الحد بالساكن في نفس مكّة . ويؤكد ما ذكرناه أن عدم الحضور في المسجد الحرام لم يلاحظ في الآية المباركة بالنسبة إلى الحاج نفسه وأنه إذا كان حاضراً وكانت وظيفته إتمام الصلاة كانت وظيفته التمتّع ، وإنما لوحظ بالنسبة إلى أهله الساكنين في بلاد آخر غير مكّة وليسوا بحاضرين في المسجد الحرام .
الثالث : أن عنوان الحضور المأخوذ في الآية الكريمة عنوان عرفي ولا يصدق على من كان بعيداً عن مكّة باثني عشر ميلاً ، بل يصدق عليه أنه ممن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فيجب عليه التمتّع .
وفيه : أن عدم صدقه عليه عرفاً وإن كان صحيحاً ولكنه لا يختص به بل يعم من بعد عن مكّة بأقل من ذلك أيضاً ، ومن هنا قلنا بأنه لو كنّا نحن والآية المباركة لقلنا باختصاص فريضة التمتّع بمن لم يكن من سكنة مكّة المكرّمة ، سواء كان ساكناً في بلد قريب أو بلد بعيد ، وإنما تعدينا عن ذلك من جهة صحيح زرارة المتقدِّم (1) .
ثمّ إنّه لو اغمضنا النظر عن الصحيح المتقدّم لأمكن الاستدلال للقول المذكور
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 145 .
ــ[151]ــ
بوجه آخر أولى من الوجوه المتقدّمة وهو أن المستفاد من الآية الشريفة وجوب التمتّع على من لم يكن من سكنة مكّة المعظمة ووجوب الإفراد على من كان منهم ، إلاّ أن الاجماع القطعي قام على إلحاق جماعة من المكلفين ممّن بعد عن مكّة بسكنة مكّة إلحاقاً حكمياً كأهالي مر وأهالي سرف(1) كما في النص(2) ، فمقتضى القاعدة هو الاقتصار على القدر المتيقن في غير الموارد المنصوصة ، فالنتيجة وجوب الإفراد على أهالي مكّة وعلى من كان الفاصل بينه وبين مكّة أقل من اثني عشر ميلاً ووجوب التمتّع على من كان بعيداً من مكّة بمقدار اثني عشر ميلاً أو أكثر .
وهذا الوجه وإن كان أوجه من الوجوه المتقدّمة ولكن مع ذلك لا يمكن الالتزام به أيضاً بالنظر إلى صحيح زرارة المتقدّم الدال على أن الحد الموجب للتمتع هو ثمانية وأربعون ميلاً ، ولا موجب بل ولا مجوز لرفع اليد عنه بعد تماميته سنداً ودلالة ، وأمّا حمله على الجوانب الأربعة فقد عرفت أنه من أضعف المحامل .
ثمّ إنه ينبغي التكلم في جهات تعرض لها المصنف (قدس سره) :
الاُولى : هل يعتبر الحد المذكور من بلدة مكّة أو من المسجد ؟ وجهان بل قولان . الظاهر أن العبرة بنفس المسجد لا البلد ، وذلك لأنّ عمدة ما استدلّ به للتحديد المذكور إنما هو صحيح زرارة المتقدّم الذي فسّر قوله تعالى : (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) وبيّن المراد منه ، وحيث إن الآية مشتملة على ذكر المسجد الحرام فالتحديد بثمانية وأربعين ميلاً ـ بعد ذكر الآية وبيان المراد منها ـ ظاهر في كون التحديد بالنسبة إلى المسجد ، ولو احتمل كون التحديد بالنسبة إلى البلد باعتبار وجود المسجد الحرام فيه تكون الآية مجملة لعدم ظهورها في كون التحديد بالنسبة إلى البلد أو المسجد ، فلا بدّ حينئذ من الاقتصار على القدر المتيقن في الخروج عن العمومات المقتضية لوجوب التمتّع على كل أحد وهو كون الاعتبار بنفس المسجد .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مر : اسم موضع على مرحلة من مكّة . سرف : مثال كتف موضع قريب من التنعيم وهو عن مكّة عشرة أو تسعة أو سبعة اميال . معجم البلدان 4 : 63 ، 3 : 212 .
(2) الوسائل 11 : 258 / أبواب أقسام الحج ب 6 ح 1 .
ــ[152]ــ
والحاصل : أنه لا ريب في أن مقتضى العمومات وجوب التمتّع على جميع المكلفين ففي صحيحة الحلبي : «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة لأنّ الله تعالى يقول : (فمن تمتّعَ بالعُمْرةِ إلى الحجِّ فما استيسرَ من الهَدْي) فليس لأحد إلاّ أن يتمتّع»(1) . وقد دلّت الآية المباركة على اختصاص ذلك بغير سكنة مكّة ، فكلما دلّ الدليل على إلحاق غير من يسكن مكّة بالساكن فيها فهو وإلاّ كان حكمه وجوب التمتّع لا محالة وبما أن من بعد عن المسجد الحرام بأكثر من ثمانية وأربعين ميلاً وإن كان الفصل بينه وبين مكّة بأقل من هذا الحد وجب عليه التمتّع لعدم الدليل على خروجه من العموم فإن المخصص مجمل مردد بين الأقل والأكثر فلا بدّ من الاقتصار في التخصيص على الأقل المتيقن ، فالنتيجة تحديد البعد بالنسبة إلى المسجد .
الثانية : من كان منزله على نفس الحد فهل يجب عليه التمتّع أو الإفراد ؟ الظاهر هو الأوّل ، وذلك لأنّ المستفاد من صحيح زرارة أن موضوع الحكم لوجوب الإفراد من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلاً ، وأمّا إذا كان على نفس الحد فلا يصدق عليه أنه دون الحد المذكور فيشمله حكم العام وهو وجوب التمتّع على كل أحد ، ولو شك يجري ما تقدّم من الأخذ بالقدر المتيقن ، لأنّ المخصص مجمل مردد بين الأقل والأكثر ولا دليل على إلحاق من كان على نفس الحد بأهالي مكّة ، فالمرجع نفس الآية الدالّة على وجوب التمتّع على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام .
الثالثة : الظاهر أن العبرة في التحديد بمبدأ بلده لا بمنزله وبيته الذي يسكنه ، فحكم ساكن الدار الواقعة في أوّل البلد حكم ساكن الدار الواقعة في آخر البلد ، فلا يختلف حكم سكان بلدة واحدة باعتبار اختلاف منازلهم قرباً أو بعداً ، وذلك لأنه الظاهر من جعل الحد بين المكلف الذي يختلف في أرجاء بلده وبين المسجد الحرام ، ولا خصوصية للدار أو الدكان وما شاكلهما .
الرابعة : لو شكّ في كون منزله في الحد أو في خارجه سواء كان ساكناً في البلاد أو البادية ، ذكر في المتن أنه يجب عليه الفحص ومع عدم تمكنه يراعي الاحتياط ثمّ قال :
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 11 : 240 / أبواب أقسام الحج ب 3 ح 2 .
|