ــ[226]ــ
ثمّ الظاهر أ نّه لا إشكال ((1)) في جواز الخروج في أثناء عمرة التمتّع قبل الإحلال منها (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عليه بعد ذلك من غير موجب ، والاستبعاد المذكور في محلِّه ، فإن النّساء قد حلّت له بعد الاحلال من العمرة سواء خرج من مكّة أم لا فكيف تحرم عليه ثانياً وبأي موجب ، إذ لا دليل على التحرّم مرّة اُخرى ، بل قد عرفت أن المستفاد من معتبرة إسحاق وصحيحة حمّاد المتقدّمتين كون العمرة الاُولى لاغية بالمرّة ومحكومة بالعدم فالانقلاب إلى الافراد يحتاج إلى الدليل ومجرّد الفساد ولغوية الاُولى لا يوجب انقلابها إلى الافراد كي يحتاج إلى طواف النّساء .
والحاصل : يظهر من النص أن العمرة الاُولى ملغاة وغير محسوبة لا أ نّها تنقلب إلى الإفراد ، ولو فرضنا انقلابها إلى الإفراد كان على الإمام (عليه السلام) البيان والأمر بطواف النّساء ، فسكوته (عليه السلام) عن ذلك يكشف عن عدم انقلابها إليه ، فليس عليه طواف النّساء لا بالنسبة إلى الاُولى لكونها ملغاة ولا بالنسبة إلى الثانية لأ نّها عمرة التمتّع .
(1) الظاهر أن هذه المسألة غير محرّرة عند الفقهاء (قدس سرهم) ولم أر من تعرّض لذلك .
والذي يمكن أن يقال : إن الروايات المانعة عن الخروج كلّها وردت بعد الفراغ من العمرة ، وأمّا الخروج في الاثناء فلا تشمله الروايات ، ومقتضى الأصل هو الجواز . ولا بدّ لنا من التكلم في مقامين :
أحدهما : أنه هل يجوز له الخروج من مكّة أثناء العمرة وقبل الاحلال منها أم لا ؟ الظاهر هو الثاني لإطلاق النصوص المانعة ، فإن عمدة النصوص الواردة في المقام إنّما هي صحيحة الحلبي وصحيحة حماد ، وموضوع المنع فيهما هو الدخول إلى مكّة وعدم الخروج منها إلاّ للحج وأنه مرتهن بحجه ، فلا بدّ من إتمام العمرة والبقاء في مكّة حتى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بل الظاهر عدم جوازه .
ــ[227]ــ
يأتي بالمناسك .
ففي صحيح حماد «من دخل مكّة متمتعاً في أشهر الحج لم يكن له أن يخرج حتى يقضي الحج ، فإن عرضت له حاجة إلى عسفان ، إلى أن قال : خرج محرماً ودخل ملبياً بالحج» (1) وفي صحيح الحلبي «عن الرجل يتمتّع بالعمرة إلى الحج يريد الخروج إلى الطائف ، قال : يهل بالحج من مكّة وما اُحب أن يخرج منها إلاّ محرما» (2) .
فإنه لم يفرض فيهما الفـراغ من العمل ، بل الظاهر منهما أن موضوع السؤال والجواب هو الاشتغال بالأعمال وأنه يخرج وهو مشغول بالأعمال ، خصوصاً أن قوله «يتمتّع» في صحيح الحلبي ظاهر جدّاً في كون موضوع الحكم مجرد الدخول في مكّة والاشتغال بالأعمال وعدم الفراغ منها ، لأ نّه فعل استقبالي يدل على الاشتغال بالعمل في الحال بخلاف الفعل الماضي فإ نّه يدل على الفراغ من العمل كما هو كذلك في سائر موارد الاستعمالات ، فإذا قيل رجل يصلِّي يراد به الاشتغال بالصلاة ، وإذا قيل رجل صلّى معناه الفراغ منها ، وقد ذكرنا سابقاً أن قوله «ما اُحب» لا يدل على الجواز مع الكراهة وإنّما يدل على مطلق المبغوضية وهي أعم من الكراهة والحرمة ، وإذن فلا نعرف وجهاً لجواز الخروج التكليفي في الأثناء ، فلا فرق في حرمة الخروج بين أثناء العمل أو بعده .
ثانيهما : أنه إذا فرضنا أنه خرج من مكّة محرماً باحرامه الأوّل جهلاً أو غفلة أو عمداً قبل الفراغ من عمرته وأراد الرجوع فهل يجب عليه إحرام جديد لدخول مكّة أو أنه يدخل بنفس الإحرام الأوّل ؟ .
الظاهر أ نّه لا حاجة إلى إحرام جديد، لأنّ المفروض أنه على إحرامه ولم يحل، ولا موجب لبطلان الإحرام الأوّل ، ولا دليل على إحرام آخر غير الأوّل ، حتى إذا بقي شهراً أو أزيد وأراد الدخول جاز له الدخول بنفس الإحرام الأوّل، فإن الفصل بشهر إنّما يوجب الإحرام مجدداً على من خرج محلاًّ وأراد الدخول بعد شهر لا على من خرج محرماً وهو باق على إحرامه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ، (2) الوسائل 11 : 302 / أبواب أقسام الحج ب 22 ح 6 ، 7 .
ــ[228]ــ
[ 3210 ] مسألة 3 : لا يجوز لمن وظيفته التمتّع أن يعدل إلى غيره من القسمين الأخيرين اختياراً ، نعم إن ضاق وقته عن إتمام العمرة وإدراك الحج جاز له نقل النيّة إلى الإفراد وأن يأتي بالعمرة بعد الحج بلا خلاف ولا إشكال وإنّما الكلام في حدّ الضيق المسوغ لذلك ، واختلفوا فيه على أقوال : (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لا إشكال ولا خلاف في أنه ليس للمتمتع العدول إلى الإفراد أو القران ، لأنّ العدول من واجب إلى واجب آخر على خلاف القاعدة ويحتاج إلى دليل خاص . على أن من كانت وظيفته التمتّع لا يشرع في حقّه الإفراد أو القران لا من الأوّل ولا في الأثناء . نعم ، إذا ضاق وقته عن إتمام العمرة وإدراك الحج ولم يسع الوقت لذلك جاز له العدول ويجعل عمرته حج الإفراد ويتمّها حجاً ، ثمّ يأتي بعمرة مفردة ، والروايات في ذلك متضافرة (1) .
إنّما الكلام في حدّ الضيق المسوغ للعدول وقد اختلفوا فيه على أقوال :
الأوّل : زوال يوم التروية ، فإن تمكّن من إتمام عمرته قبل زوال يوم التروية فهو وإلاّ بطلت متعته ويجعلها حجة مفردة . اختاره والد الصدوق(2) وحكي عن المفيد(3) (قدس سره) .
الثاني : غروب الشمس من يوم التروية ، حكي عن الصـدوق(4) والحـلبي(5) من قدماء أصحابنا .
الثالث : ظهر يوم عرفة . اختاره الشيخ في النهاية (6)
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 11 : 296 / أبواب أقسام الحج ب 21 .
(2) نقله عنه في المختلف 4 : 349 .
(3) لاحظ المقنعة : 431 .
(4) المقنع : 85 .
(5) الكافي في الفقه : 194 .
(6) النهاية : 247 .
ــ[229]ــ
الرابع : أن العبرة بفوات الموقفين ، واختلف القائلون بفوات الموقفين على أقوال أيضا .
أحدها : أن الميزان خوف فوات الركن من الوقوف الاختياري لعرفة وهو المسمّى منه .
ثانيها : أن العبرة بخوف فوت الواجب من الوقوف وهو من الزوال إلى الغروب وهو الوقوف الاختياري .
ثالثها : فوات الاختياري والاضطراري من عرفة .
رابعها : أنه إذا زالت الشمس من يوم التروية وخاف فوت الوقوف فله العدول وإن لم يخف الفوت فهو مخير بين العدول والاتمام .
ومنشأ الاختلاف اختلاف الأخبار ، فإنها مختلفة غاية الاختلاف ، فيقع الكلام تارة فيما يقتضيه القاعدة واُخرى فيما يقتضيه النصوص ، فإن لم يمكن العمل بها لتعارضها واختلافها أو لعدم ظهورها فالمتبع حينئذ هو القاعدة .
أمّا الأوّل : فلا ريب أن مقتضى القاعدة الأولية عدم جواز العدول مطلقاً ووجوب حج التمتّع عليه ابتداءً أو إتماماً إذا شرع فيه كما دلّت عليه الآية المباركة الآمرة بإتمام الحج والعمرة كقوله تعالى : (وأتمّوا الحجّ والعمرة لله)(1) ، فالوظيفة الفعلية الأولية هي حج التمتّع ولا ينتقل فرضه إلى واجب آخر إلاّ بدليل ، وعليه لو فرضنا أنه لا يتمكن من إتيان حج التمتّع وإتمامه يستكشف عدم وجوب الحج عليه فينقلب ما أتى به إلى عمرة مفردة أو أنه يحكم ببطلانه ، فإن الانقلاب يحتاج إلى دليل وهو مفقود .
وأمّا الثاني : فالنصوص الواردة في المقام على طوائف :
الطائفة الاُولى : الروايات الدالّة على أن العبرة بخوف فوت الوقوف بعرفة .
فمنها : معتبرة يعقوب بن شعيب الميثمي ، قال : «سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : لا بأس للمتمتِّع إن لم يحرم من ليلة التروية متى ما تيسر له ما لم يخف فوت
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البقرة 2 : 196 .
ــ[230]ــ
الموقفين» (1) .
فربّما استدلّ بها على أن العبرة في العدول عن التمتّع إلى الإفراد بخوف فوت الموقف ، بمعنى أنه متى قدم مكّة والنّاس في عرفات وخشي أنه إن اشتغل بأعمال العمرة يفوت عنه الوقوف فحينئذ يدع العمرة وينقل حجّه إلى الإفراد ويبادر إلى عرفات لدرك الموقف .
ويقع البحث في هذه الرواية من جهتين :
الاُولى : من حيث السند . والظاهر أن الرواية معتبرة ، لأنّ رواتها ثقات حتى إسماعيل بن مرار ، فإنّه وإن لم يوثق في كتب الرجال لكنّه من رجال تفسير علي بن إبراهيم القمي (رحمه الله) ، وقد وثق جميع رواته في مقدّمة التفسير(2) ، فيعامل معهم معاملة الثقة ما لم يعارض بتضعيف غيره كالنجاشي والشيخ ونحوهما .
الثانية : من حيث الدلالة . والظاهر أن الرواية أجنبية عمّا نحن فيه ، لأنها وردت في إنشاء إحرام الحج وأنه غير مؤقّت بوقت خاص ، وأنه يجوز له إحرام الحج في أي وقت شاء وتيسر له ما دام لم يخف فوت الموقفين ، ومحل كلامنا فيمن أحرم لعمرة التمتّع وضاق وقته عن إتمامها .
ومنها : خبر محمّد بن مسرور ، قال : «كتبت إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) : ما تقول في رجل متمتع بالعمرة إلى الحج وافى غداة عرفة وخرج النّاس من منى إلى عرفات أعمرته قائمة أو قد ذهبت منه ، إلى أي وقت عمرته قائمة إذا كان متمتِّعاً بالعمرة إلى الحج فلم يواف يوم التروية ولا ليلة التروية فكيف يصنع ؟ فوقع (عليه السلام) : ساعة يدخل مكّة إن شاء الله يطوف ويصلّي ركعتين ويسعى ويقصر ، ويحرم بحجّته ويمضي إلى الموقف ويفيض مع الإمام» (3) فان الظاهر منه أن العبرة بالافاضة مع الإمـام إلى المشعر لا الوقوف بعرفة في تمام الوقت من الزوال إلى الغروب ، وإنما
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 11 : 292 / أبواب أقسام الحج ب 20 ح 5 .
(2) تفسير القمي 1 : 4 .
(3) الوسائل 11 : 295 / أبواب أقسام الحج ب 20 ح 16 .
ــ[231]ــ
أحدها : خوف فوات الاختياري من وقوف عرفة . الثاني : فوات الركن من الوقوف الاختياري وهو المسمّى منه . الثالث : فوات الاضطراري منه . الرابع : زوال يوم التروية . الخامس : غروبه . السادس : زوال يوم عرفة . السابع : التخيير بعد زوال يوم التروية بين العدول والإتمام إذا لم يخف الفوت .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أمره (عليه السلام) بأن يمضي إلى الموقف ليدرك الإمام ليفيض معه إلى المشعر فهو يدرك الموقف طبعاً بمقدار المسمّى ثمّ يفيض مع الإمام إلى المشعر .
لكنّه ضعيف السند بمحمّد بن مسرور كما في الوسائل ، فإ نّه لا وجود له في كتب الرجال ، أو بمحمّد بن سرد أو سرو كما في التهذيب(1) فإ نّه مجهول ، وذكر صاحب المنتقى(2) أن راوي الحديث محمّد بن جزك وهو ثقة ، وذكر سرد أو سرور من غلط النساخ ، فيكون الخبر معتبراً ، ولكن لا يمكن الاعتماد على ما ذكره صاحب المنتقى لأ نّه مجرّد تخمين وظن ولا شاهد له ، ومجرّد رواية عبدالله بن جعفر عن محمّد بن جزك لا يكون شاهداً ولا قرينة على أن محمّد بن جزك هو الراوي في سند هذه الرواية ، لإمكان رواية عبدالله بن جعفر عن شخص آخر مسمى بمحمّد بن سرد أو سرو .
ومنها : صحيح جميل عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال : المتمتع له المتعة إلى زوال الشمس من يوم عرفة ، وله الحج إلى زوال الشمس من يوم النحر» (3) فإن دلالته على أنّ له إتمام العمرة إلى زوال الشمس من يوم عرفة واضحة جدّاً ، ومن الواضح أن السير من مكّة إلى عرفات كان يستغرق في تلك الأزمنة عدّة ساعات لأنّ ما بين مكّة وعرفات مقدار أربعة فراسخ تقريباً ، فلا يدرك المتمتِّع الموقف بتمامه وإنما يدرك مقداراً ما منه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التهذيب 5 : 171 / 570 .
(2) منتقى الجمان 3 : 430 .
(3) الوسائل 11 : 295 / أبواب أقسام الحج ب 20 ح 15 .
ــ[232]ــ
والمنشأ اختلاف الأخبار فإنها مختلفة أشد الاختلاف ، والأقوى أحد القولين الأوّلين ، لجملة مستفيضة من تلك الأخبار ، فإنّها يستفاد منها على اختلاف ألسنتها أن المناط في الإتمـام عدم خوف فوت الوقوف بعرفة ، منها قوله (عليه السلام) في رواية يعقوب بن شعيب الميثمي : «لا بأس للمتمتِّع إن لم يحرم من ليلة التروية متى ما تيسّر له ما لم يخف فوات الموقفين» ، وفي نسخة «لا بأس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبعبارة اُخرى : لازم صحّة إتيان العمرة إلى زوال يوم عرفة عدم اعتبار درك الموقف بتمامه وكفاية دركه مقداراً ما قبل الغروب ، والرواية كما ذكرنا صحيحة سنداً وإن كان محمّد بن عيسى الواقع في السند مردداً بين محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني وبين الأشعري ، لأنّ كلاًّ منهما ثقة على الأصح ، ومدلولها يطابق القاعدة المقتضية لصحّة الحج إذا أدرك الموقف بمقدار المسمى وإن لم يستوعب تمام الوقت من الزوال إلى الغروب ، ولذا حكي عن السيّد في المدارك أن الصحيحة نص في المطلوب (1) .
ومنها : صحيح الحلبي «عن رجل أهلّ بالحج والعمرة جميعاً ثمّ قدم مكّة والنّاس بعرفات فخشي إن هو طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يفوته الموقف ، قال : يدع العمرة ، فإذا أتم حجّه صنع كما صنعت عائشة ولا هدي عليه» (2) فإنه دال أيضاً على أن العبرة في العدول عن التمتّع إلى غيره بخوف فوت الموقف وبخشـية عدم إدراكه وأمّا إذا أمكنه درك الموقف ولو بمقدار المسمى فلا مجال للعدول .
وربّما قيل : إن الوقوف الواجب إنما هو من الزوال إلى الغروب ، ولا فرق في فوت الموقف بين كون الفائت ركناً أو غيره ، فالعدول إنما يجوز فيما إذا خاف فوت الوقوف في تمام الزمان بين الظهر والغروب .
وفيه أوّلاً : أنه لو تمّ ما ذكر فهو بالاطلاق ، بمعنى أن إطلاق صحيح الحلبي يقتضي كون العبرة في العدول بفوات تمام الموقف من الزوال إلى الغروب ، ولكن صحيح
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المدارك 7 : 177 .
(2) الوسائل 11 : 297 / أبواب أقسام الحج ب 21 ح 6 .
ــ[233]ــ
للمتمتِّع أن يحرم ليلة عرفة» إلخ ، وأمّا الأخبار المحدّدة بزوال يوم التروية أو بغروبه أو بليلة عرفة أو سحرها فمحمولة على صورة عدم إمكان الإدراك إلاّ قبل هذه الأوقات فإنه مختلف باختلاف الأوقات والأحوال والأشخاص ، ويمكن حملها على التقيّة إذا لم يخرجوا مع النّاس يوم التروية ، ويمكن كون الاختلاف لأجل التقيّة كما في أخبار الأوقات للصلوات . وربّما تحمل على تفاوت مراتب أفراد المتعة في الفضل بعد التخصيص بالحج المندوب ، فإنّ أفضل أنواع التمتّع أن تكون عمرته قبل ذي الحجّة ثمّ ما تكون عمرته قبل يوم التروية ثمّ ما يكون قبل يوم عرفة ، مع أنّا لو أغمضنا عن الأخبار من جهة شدّة اختلافها وتعارضها نقول : مقتضى القاعدة هو ما ذكرنا ، لأنّ المفروض أن الواجب عليه هو التمتّع فما دام ممكناً لا يجوز العدول عنه ، والقدر المسلم من جواز العدول صورة عدم إمكان إدراك الحج واللاّزم إدراك الاختياري من الوقوف فإن كفاية الاضطراري منه خلاف الأصل .
يبقى الكلام في ترجيح أحد القولين الأولين ولا يبعد رجحـان أوّلهما ((1)) بناءً على كون الواجب استيعاب تمام ما بين الزوال والغروب بالوقوف وإن كان الركن هو المسمّى، ولكن مع ذلك لايخلو عن إشكال، فإن من جملة الأخبار موفوع سهل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جميل(2) صريح في جواز إتيان العمرة إلى زوال يوم عرفة ، وهذا يقتضي فوات شيء من الموقف بالطبع بمقدار سيره من مكّة إلى عرفات ، لأنّ ذلك يستلزم فوات عدّة ساعات من الموقف فنرفع اليد عن ظهور خبر الحلبي بصراحة رواية جميل .
وثانياً : أنّ الوقوف الذي هو جزء الواجب هو الوقوف بمقدار المسمّى ، وأمّا الوقوف من الزوال إلى الغروب فهو واجب مستقل وليس بجزء أصلاً لا أنه جزء غير
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بل الأرجح ثانيهما .
(2) الوسائل 11 : 295 / أبواب أقسام الحج ب 20 ح 15 ، وتقدّم في ص 231 .
ــ[234]ــ
عن أبي عبدالله (عليه السلام) : «في متمتِّع دخل يوم عرفة ، قال : متعته تامّة إلى أن يقطع النّاس تلبيتهم» حيث إن قطع التلبية بزوال يوم عرفة وصحيحة جميل «المتمتِّع له المتعة إلى زوال الشمس من يوم عرفة وله الحج إلى زوال الشمس من يوم النحر» ومقتضاهما كفاية إدراك مسمّى الوقوف الاختياري فإنّ من البعيد إتمام العمرة قبل الزوال من عرفة وإدراك النّاس في أوّل الزوال بعرفات .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ركني ، ولذا لو تركه عمداً لا يوجب فساد الحج وإن أثم بتركه نظير ترك طواف النّساء ، وذلك شاهد على أنه ليس بجزء للواجب ، إذ لا يعقل أن يكون جزءً للواجب وفي نفس الوقت كان تركه عمداً وعصياناً غير موجب للبطلان .
وثالثاً : أن المفروض في صحيح الحلبي أنه ورد مكّة عندما كان النّاس بعرفة وهو زوال يوم عرفة ، ولا ريب أن السير من مكّة إلى عرفات ابتداءً من الزوال يستلزم فوت بعض الموقف عنه قطعاً سواء عدل إلى الإفراد أو لم يعدل ، فحينئذ لا بدّ أن يكون مورد سؤاله عن خشية فوت الركن من الموقف لا عن تمام ما وجب عليه فالموقف في عبارة السائل يراد منه الركن منه وهو الوقوف في الجملة .
وأمّا التحديد بفوات الموقف الاضطراري لعرفة ـ كما هو أحد الأقوال ـ فلا يوجد له أي نص .
الطائفة الثانية : ما دلّت على التحديد بإدراك النّاس بمنى أي ليلة عرفة ، حيث يستحب المبيت في منى ليلة عرفة ومن هناك يذهب إلى عرفات .
فمنها : خبر أبي بصير : «المرأة تجيء متمتعة فتطمث قبل أن تطوف بالبيت فيكون طهرها ليلة عرفة ، فقال : إن كانت تعلم أنها تطهر وتطوف بالبيت وتحل من إحرامها وتلحق النّاس بمنى فلتفعل» (1) .
ومنها : صحيحة شعيب العقرقوفي ، قال : «خرجت أنا وحديد فانتهينا إلى البستان
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 11 : 292 / أبواب أقسام الحج ب 20 ح 3 .
ــ[235]ــ
يوم التروية فتقدمت على حمار ، فقدمت مكّة فطفت وسعيت وأحللت من تمتعي ثمّ أحرمت بالحج ، وقدم حديد من الليل ، فكتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) استفتيه في أمره ، فكتب إليّ : مره يطوف ويسعى ويحل من متعته ويحرم بالحج ويلحق النّاس بمنى ولا يبيتن بمكّة» (1) .
ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم ، قال «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إلى متى يكون للحاج عمرة ؟ قال : إلى السحر من ليلة عرفة» (2) .
وإنما ذكرنا هذه الرواية في عداد هذه الطائفة من الأخبار لأنّ تحديد إتيان العمرة بالسحر من ليلة عرفة يقتضي الالتحاق بالنّاس بمنى بعد الفراغ من أعمال متعته . وكيف كان ، لا قائل بمضمون هذه الأخبار .
ويمكن حملها على أن التحديد بإدراك النّاس بمنى باعتبار أ نّه إذا لم يلتحق الحاج بمنى يفوته الموقف ، لبعد المسافة بين مكّة وعرفات خصوصاً إذا كان الحاج من الضعفاء أو كانت امرأة ونحوها من العاجزين ، وأمّا إذا ذهب إلى منى ليلة عرفة فيتمكّن من درك الموقف ، كما يمكن حملها على التقيّة . على أ نّها معارضة بصحيحتي جميل(3) والحلبي(4) الدالّتين على أن العـبرة بخوف فوت الموقف ، والترجيح مع الصحيحتين لموافقتهما للسنّة .
الطائفة الثالثة : ما دلّت على التحديد بزوال يوم التروية أو غروبها ، وفي بعضها يوم التروية(5) ، ولكنّها معارضة بما تقدّم مما دلّ على جواز إتيان العمرة ليلة عرفة وإدراك النّاس بمنى ، وفي بعضها أن الإمام (عليه السلام) أتى بأعمال العمرة ليلة عرفة(6) ، ومعارضة أيضاً بصحيحي جميل والحلبي المتقدّمين الدالّين على كفاية إدراك
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 11 : 292 / أبواب أقسام الحج ب 20 ح 4 .
(2) الوسائل 11 : 292 / أبواب أقسام الحج ب 20 ح 9 .
(3) الوسائل 11 : 295 / أبواب أقسام الحج ب 20 ح 15 .
(4) الوسائل 11 : 297 / أبواب أقسام الحج ب 21 ح 6 .
(5) الوسائل 11 : 294 / أبواب أقسام الحج ب 20 ح 10 .
(6) الوسائل 11 : 291 / أبواب أقسام الحج ب 20 ح 2 .
ــ[236]ــ
وأيضاً يصدق إدراك الموقف إذا أدركهم قبل الغروب إلاّ أن يمنع الصدق فإن المنساق منه إدراك تمام الواجب ، ويجاب عن المرفوعة والصحيحة بالشذوذ كما ادعي ، وقد يؤيد القول الثالث ـ وهو كفاية إدراك الاضطراري من عرفة ـ بالأخبار الدالّة على أن من يأتي بعد إفاضة النّاس من عرفات وأدركها ليلة النحر تمّ حجّه ، وفيه أن موردها غير ما نحن فيه وهو عدم الإدراك من حيث هو وفيما نحن فيه يمكن الإدراك والمانع كونه في أثناء العمرة فلا يقاس بها . نعم لو أتم عمرته في سعة الوقت ثمّ اتفق أنه لم يدرك الاختياري من الوقوف كفاه الاضطراري ودخل في مورد تلك الأخبار .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوقوف الركني ، فالمرجع حينئذ هو الاطلاقات الدالّة على أن من كانت وظيفته التمتّع يجب عليه إتمامه ويكتفي بالوقوف بمقدار المسمّى ولا يلزم الوقوف تمام الوقت ، فمن تمكن من الوقوف الاختياري ولو في الجملة لا ينقلب تمتعه إلى الإفراد ، ولا عبرة بالوقوف الاضطراري .
فتلخص من جميع ما ذكرنا : أن الأصل يقتضي عدم جواز العدول من التمتّع إلى الإفراد أو القران في جميع الصور حتى إذا لم يتمكّن من الوقوف الاضطراري أيضاً فضلاً عن الاختياري ، لأنّ الانتقال من واجب إلى واجب آخر يحتاج إلى الدليـل فإذا تمكن من درك الحج صحيحاً وإتيان جميع أعماله فهو وإلاّ فيبطل أو ينقلب إلى عمرة مفردة ، وأمّا الانقلاب إلى الإفراد وإجزاؤه عن التمتّع فيحتاج إلى دليل خاص .
نعم ، ثبت بالدليل أنه إذا خاف فوت الوقوف بعرفة بمقدار المسمّى ينتقل فرضه إلى الإفراد كما هو مدلول صحيحي الحلبي وجميل ، فلو دخل مكّة معتمراً بعمرة التمتّع وضاق وقته عن إدراك الموقف من عرفة حتى آناً ما يتبدل فرضه إلى الإفراد ، وما ذكرناه هو القدر المتيقن من الأخبار ، أمّا غير ذلك من الروايات فهي متضاربة في نفسها ومعارضة بصحيحي جميل والحلبي المتقدّمين(1) والترجيح لهما ، لموافقتهما للسنّة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص 231 ، 232 .
ــ[237]ــ
وهي الاطلاقات الدالّة على كفاية درك الموقف ولو آناً ما . على أنه يمكن حمل تلك الروايات المتضاربة على التقية وغيرها من المحامل .
ومنهم من حمل الروايات على التخيير ، فيعمل بجميع الروايات مخيراً ، وزعم أن هذا ممّا تقتضيه القاعدة بدعوى أن العمل بالروايات إذا كان ممكناً ولو على نحو التخيير فلا مجال للتعارض والتساقط .
ويرد عليه : أنه إن أراد بالتخيير التخيير في المسألة الاُصـولية باعتبار تعارض الروايات ففيه : أن التخيير لم يثبت في تعارض الأخبار كما حققناه في محلِّه (1) . على أن التخيير الاُصولي وظيفة المجتهد لا العامي ، لأنّ التخيير الاُصولي في المقام يرجع إلى التخيير في الحجية وذلك وظيفة المجتهد ، فيفتي على طبق إحداها مخيراً ويعمل المقلد العامي على طبق فتواه .
وإن أراد بالتخيير أن الجمع العرفي يقتضي ذلك كالأمر بالقصر والاتمام مع العلم بأنه لا تجب صلاتان في يوم واحد ، فحينئذ يحمل الأمر في كلّ منهما على التخيير ونرفع اليد عن ظهور كل منهما في التعيين ، لأنّ الأمر لا يدل على الوجوب التعييني بالوضع وإنّما يدل عليه بالاطلاق ، فإذا ورد الأمر بالقصر في مورد فيستفاد الوجوب منه كما يستفاد أنه تعييني بالاطلاق، فإذا ورد في مورده أمر آخر بالتمام كان الحال فيه كما في الأوّل غير أنه يرفع اليد عن إطلاق كل منهما بالآخر ، ونتيجة ذلك هي التخيير وهذا هو المراد من الجمع العرفي بين الأمرين ، ولكن لا يمكن تطبيق ذلك على ما نحن فيه ، لأنّ الروايات متعارضة نفياً وإثباتاً ومعه كيف يمكن حمل الروايات على التخيير .
وبعبارة اُخرى : لو كانت الروايات مشتملة على الاثبات ووجوب شيء فقط أمكن حملها على التخيير بالبيان المتقدّم ، وأمّا إذا كانت مشتملة على الاثبات والنفي معاً فلا يمكن حملها على التخيير ، ونصوص المقام(2) كذلك ، لقوله في بعضها : «إذا قدمت مكّة يوم التروية وقد غربت الشمس فليس لك متعة» ، وفي بعضها : «يقدم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الاُصول 3 : 423 .
(2) المتقدّمة في ص 235 .
|