ــ[380]ــ
وبعبارة اُخرى : ما استفدناه من الروايات أن الإحرام شيء مترتب على التلبية لا أنه نفس التلبية ، ولذا يعبر عنها بتلبية الإحرام ، ولا يدخل في هذه الحرمة الإلهيّة إلاّ بالتلبية .
وتؤكد ذلك : الروايات الكثيرة الدالّة على أن المحرم يحرم عليه كذا أو يجب عليه كذا ، فإن المستفاد منها أن هذه الأحكام مترتبة على من دخل في حرمة الله وموضوع هذه الأحكام هو الداخل في حرمة الله وليس موضوعها الملبي ، فقوله : المحرم يحرم عليه كذا ، ليس المراد به من لبى يحرم عليه كذا ، بل يظهر من الروايات أن الإحرام أمر إذا دخل فيه المكلف وتحقق منه يحرم عليه هذه الاُمور ، غاية الأمر سبب الإحرام هو التلبية ، والإحرام أو الدخول في حرمة الله مسبب عن التلبية فلا بدّ أن نقول بأن الإحرام أمر اعتباري يترتب عليه هذه الاُمور بسبب التلبية ، ولا يعقل أخذ هذه المنهيات والمحرمات في معنى الإحرام وإلاّ للزم الدور وأخذ الحكم في موضوعه وهو أمر غير معقول ، إذ لا يعقل أن نقول إن المحرم الذي حكم عليه بحرمة الصيد يحرم عليه الصيد ، فحال الحج بعينه حال الصلاة في كون التكبيرة أوّل جزء من أجزائها وبها يدخل في الصلاة ، وكذلك التلبية فإنها أوّل جزء من أجزاء الحج وبها يدخل في تلك الحرمة الإلهيّة ، كما في النص الدال على أن الذي يوجب الإحرام ثلاثة : التلبية ، الاشعار ، والتقليد (1) .
وإذن فترتب الإحرام على التلبية قهري لا قصدي ، بمعنى أنه إذا لبى بقصد الحج يتحقق الإحرام منه قهراً ولا يتحلل منه إلاّ بالتقصير أو السعي ، فتدبّر جيدا .
ثمّ إنه بعدما عرفت حقيقة الإحرام يقع الكلام في واجباته وهي ثلاثة :
الأوّل : النيّة بمعنى القصد إليه ، فلو أحرم من غير قصد لم يكن آتياً بالإحرام ، لأنّ العمل الصادر من دون قصد كالعمل الصادر سهواً أو غفلة لا يكون اختيارياً له فلابدّ من القصد إليه ليكون صدوره منه عن اختيار .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 11 : 279 / أبواب أقسام الحج ب 12 ح 20 ، وتقدّم في ص 377 .
ــ[381]ــ
[ 3230 ] مسألة 1: يعتبر فيها القربة والخلوص ـ كما في سائر العبادات ـ فمع فقدهما أو أحدهما يبطل إحرامه(1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد يشكل بأنّ الإحرام إذا كان عبارة عن الالتزام والبناء على الترك فلا معنى لجعل النيّة من واجباته ، إذ لا يعقل صدوره من غير نيّة ، لأنّ الالتزام أو البناء أمر قصدي لا يتحقّق بغير القصد إلاّ على وجه بعيد ، كما إذا كان بانياً على ترك المنهيات من غير قصد الحج ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأن الإحرام عبارة عن التلبية فإنّه يمكن جعل النيّة من واجباته ، لإمكان صدور التلبية عن قصد وعن غير قصد ، كما إذا أتى بالتلبية لتعليم الغير أو لتعليم نفسه ويكررها حتى يتعلم .
ولزيادة الإيضاح نقول : إن حال التلبية حال بقيّة الأعمال والأفعال الخارجية التي يمكن اقترانها بالنيّة كما يمكن صدورها من غير نيّة ، وأمّا توطين النفس على الترك والالتزام به فلا يمكن تحققه من غير قصد ونيّة أصلاً حتى نجعل النيّة من واجباته .
وكيف كان ، لا ينبغي الريب في اعتبار النيّة في الإحرام بالمعنى الذي ذكرناه ، ولكن اعتبارها فيه ليس أمراً زائداً على قصد الحج ، بل يكفي في تحقّقه نيّة الحج والقصد إليه ، فلا حاجة إلى قصد الإحرام بعنوانه على سبيل الاستقلال ، ويؤيد ذلك ما ورد في بعض الأدعية المستحبة «لبيك بحجة أو عمرة لبيك ، لبيك هذه عمرة متعة إلى الحج لبيك لبيك» (1) .
(1) لا ينبغي الريب في اعتبار القربة والخلوص في النيّة ، لأنّ الإحرام من العبادات ، ولا يتصف العمل بالعبادة إلاّ بالخلوص ونفي التشريك وجعل الأمر الإلهي محركاً وداعياً كما في سائر العبادات .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المستدرك 9 : 179 / أبواب الإحرام ب 27 .
ــ[382]ــ
[ 3231 ] مسألة 2 : يجب أن تكون مقارنة للشروع فيه ، فلا يكفي حصولها في الأثناء ، فلو تركها وجب تجديده (1) ، ولا وجه لما قيل من أن الإحرام تروك وهي لا تفتقر إلى النيّة ، والقدر المسلّم من الإجماع على اعتبارها إنما هو في الجملة ولو قبل التحلل ، إذ نمنع أوّلاً كونه تروكاً فإن التلبية ولبس الثوبين من الأفعال ((1)) ، وثانياً اعتبارها فيه على حدّ اعتبارها في سائر العبادات في كون اللاّزم تحقّقها حين الشروع فيها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فالجزء الأوّل لا بدّ أن يكون مقارناً للنيّة إلى آخر العمل بحيث يكون الإحرام بتمام أجزائه صادراً عن النيّة والقصد والقربة ، فلو حصل ذلك في الأثناء لا يجزئ ولا يحكم بصحّة إحرامه ، كما هو الحال في سائر العبادات .
أقول : لو بنينا بأن الإحرام هو الالتزام النفساني وعقد القلب فهو أمر بسيط نفساني إمّا موجود أو معدوم ، وليس له أوّل أو أثناء ، فلا يتصوّر حصول النيّة في الأثناء ، وأمّا إذا قلنا بأن الإحرام هو التلبية فلا ريب في اعتبار اقتران جميع أجزاء التلبية بالنيّة والخلوص ، فلو سبق لسانه بأوّل جزءمن التلبيات الأربع وأتى بالبقيّة مع النيّة والخلوص لا يجزئ عما وجب عليه من التلبيات .
ثمّ إنّه نسب إلى بعضهم الاكتفاء بحصول النيّة في الأثناء ، وعلله في المتن بأنّ الإحرام تروك وهي لا تفتقر إلى النيّة ، والقدر المسلم من الاجماع على اعتبارها إنما هو في الجملة ولو قبل التحلل من الإحرام بلحظة ، إذ لا دليل على أزيد من ذلك .
ولا يخفى أن هذا القول لو كان مبنياً على أن الإحرام نفس التروك فلا مانع حينئذ من الاكتفاء بحصول النيّة في الجملة ولو في آخره قبل التحلل ، وهذا واضح الفساد لأنّ هذه المنهيات والتروك أحكام مترتبة على الإحرام ، وموضوعها المحرم ، فلا معنى لأخذ الحكم في موضوعه ، بل قد عرفت أن الإحرام أمره دائر بين التلبية والالتزام
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بل الظاهر عدم كون لبس الثوبين جزءاً من الإحرام ، بل الإحرام يتحقق بالتلبية أو الإشعار أو التقليد .
ــ[383]ــ
[ 3232 ] مسألة 3 : يعتبر في النيّة تعيين كون الإحرام لحج أو عمرة ، وأن الحج تمتّع أو قران أو إفراد ، وأنه لنفسه أو نيابة عن غيره ، وأنه حجّة الإسلام أو الحج النذري أو الندبي (1) فلو نوى الإحرام من غير تعيين وأوكله إلى ما بعد ذلك بطل ، فما عن بعضهم من صحّته وأن له صرفه إلى أ يّهما شاء من حج أو عمرة لا وجه له ، إذ الظاهر أنه جزء من النسك فتجب نيّته كما في أجزاء سائر العبادات ، وليس مثل الوضوء والغسل بالنسبة إلى الصلاة ، نعم الأقوى كفاية التعيين الاجمالي حتى بأن ينوى الإحرام لما سيعينه ((1)) من حج أو عمرة فإنه نوع تعيين ، وفرق بينه وبين ما لو نوى مردداً مع إيكال التعيين إلى ما بعد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتوطين النفس ، وأمّا هذه التروك فموضوعها المحرم لا أنها هي الإحرام ، ولذا لا يضر الالتزام بإتيان هذه الاُمور بالإحرام إلاّ الجماع والاستمناء على ما سيأتي في محلّه .
ثمّ إنه يظهر من المصنف هنا أن لبس الثوبين من الإحرام ، وذلك ينافي ما سيأتي منه (قدس سره) أن لبس الثوبين ليس شرطاً في تحقق الإحرام وإنما هو واجب تعبّدي ، والصحيح ما ذكره هناك .
(1) لأنّ أوامره تعالى متعدِّدة وإذا لم يقصد أمراً معيّناً لا يقع شيء منها ، فإنّ امتثال كل أمر يتوقف على التعيين ، ولا يتعيّن إلاّ بالقصد ولا يكفي التعين البعدي .
ونسب إلى العلاّمة كفاية ذلك وأنّ الإحرام مثل الوضوء والغسل بالنسبة إلى الصلاة في عدم لزوم تعيين الغاية وعدم قصد الخصوصية لغاية معيّنة (2) ، ولكن الفرق واضح ، لأنّ الوضوء أو الغسل عبادة مستقلة وراجح في نفسه ، لأنه طهور وإن لم يقصد غاية من الغايات ، كما هو المستفاد من قوله تعالى : (إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهِّرين)(3) وأمّا التلبية فهي استجابة لأمر الله تعالى بالحج أو العمرة وهي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) باعتبار أن المنوي معيّن في علم الله فيكون إشارة إليه .
(2) المنتهى 2 : 675 السطر 4 .
(3) البقرة 2 : 222 .
ــ[384]ــ
[ 3233 ] مسألة 4 : لا يعتبر فيها نيّة الوجه من وجوب أو ندب(1) إلاّ إذا توقف التعيين عليها ، وكذا لا يعتبر فيها التلفظ بل ولا الإخطار بالبال فيكفي الداعي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جزء من أجزاء الحج أو العمرة لا أنها مقدّمة مستقلّة ومستحبّة بنفسها ، فلو أتى بها لا بقصد الخصوصية فليست بمأمورة بها ، لأنّ المأمور به إنما هو التلبية الخاصّة التي يقصد بها الحج أو العمرة ويؤتى بها بعنوان الجزئية لأحدهما ، فما أتى به بعنوان الجزئية فهو مأمور به فلا بدّ أن يكون مقصوداً بخصوصه من الأوّل ،نظير القصد إلى البسملة بالنسبة إلى سورة خاصّة .
نعم ، يكفي التعيين الاجمالي كما لو قصد امتثال الفرد الذي يعينه فيما بعد ، لأنّ ذلك الفرد معلوم عند الله واقعاً وهو لا يدري ، فيقصد المتعيّن الواقعي وإن كان لا يعرفه بالفعل ، فإن المنوي يكون متعيّناً في علم الله وهو يشير إليه في مقام النيّة ، فإن القصد إلى الشيء يقع على قسمين :
أحدهما : أن يقصد الطبيعة المطلقة من دون نظر إلى التعيين أصلاً وإنما يتعين فيما بعد .
ثانيهما : أن يقصد المتعيّن واقعاً وإن كان لا يدري به فعلاً ، كما إذا فرضنا أنه عيّنه وكتبه في قرطاس ثمّ نسي ما عيّنه وكتبه ولم يعثر على القرطاس ثمّ ينوي الإحرام على النحو الذي كتبه ، نظير ما إذا قرأ البسملة للسورة التي بعد هذه الصفحة وهو لا يعلم السورة بالفعل عند قراءة البسملة ، فإنّ السورة متعيّنة واقعاً وإن كان هو لا يدري بالفعل عند قراءة البسملة .
(1) لأنه لا يعتبر في الواجب العبادي إلاّ إتيان المأمور به متقرّباً به إلى الله تعالى وخالصاً لوجهه الكريم ، وأمّا قصد الوجه فلا دليل على اعتباره ، نعم إذا توقف التعيين عليه لزم ، لا لاعتبار نيّة الوجه بنفسها بل لأجل اعتبار التعيين ، كما إذا كان في الخارج أمران أحدهما ندبي والآخر وجوبي ويريد أن يمتثل أحدهما ، فحينئذ يجب
|