البيان الأوّل 

الكتاب : مجمع الرسـائل - رسـالة في الأمر بين الأمرين   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 7217


في بيان كيفية صدور الأفعال عند المتأخّرين من الفلاسفة

ولمّا تمّ الكلام في بيانات القدماء من الفلاسفة شرعنا فيما ذهب إليه المتأخّرون منهم ، أعني بهم من قارب عصورنا المتأخّرة .

وقد بنى بعضهم هذه المسألة ـ الجبر والاختيار ـ على المذهبين المعروفين : مذهب العلّية العامّة ومذهب الغاية ، ولمّا كان بيان الابتناء يتوقّف على معرفة حقيقة المذهبين لم نر بُدّاً من تقديم مقدّمة في توضيحهما ، فنقول :

إنّ معنى مذهب العلّية العامّة هو اعتبار العالم دائرة مقفلة من الحوادث يتّصل بعضها ببعض اتّصالا علّياً بحتاً ، لا دخل لاختيار الإنسان فيه ، وأنّ كلّ ما يحدث من الحوادث قد قدّر أزلا واُحصي عدداً ، كما لو كان نتيجة لعملية حسابية عظمى قام بها عقل محاسب .

وقد ذهب إلى هذا المذهب كثير من المتأخّرين ، وقد قام بالبرهنة عليه في كتاب نظام الطبيعة على ما حكاه عنه في المدخل إلى الفلسفة(1).

وممّن أصرّ على هذا المذهب صاحبا كتاب الأخلاق مؤيّدة بالدليل الهندسي وكتاب العالم فإنّهما على ما حكاه عنهما صاحب قصّة الفلسفة الحديثة يقولان ـ والعبارة لصاحب كتاب العالم ـ : إنّ الله قد دفع العالم دفعة واحدة منذ البداية كانت نتيجتها كلّ هذه الحركات التي تطرأ على الأجسام المادية كائنة ما كانت
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المدخل إلى الفلسفة : 222 ـ 223 .

ــ[71]ــ

وكلّ حركة من حيوان أو إنسان إن هي إلاّ نتيجة حتمية آلية لتلك الدفعة الإلهية الاُولى ، فإذن العالم كلّه بما فيه من أجسام آلية تسير مجبرة(1).

وقد نقل عن الأوّل منهما : أنّ ما نشعر به في أنفسنا من حرّية في العمل فليس سوى جهل بالأسباب التي تؤدّي إليه ، وكما تلزم الخواص الهندسية للمثلّث من طبيعة شكل المثلّث ، كذلك يلزم سلوك كلّ كائن حي من محض طبيعته(2).

هذا هو مقتضى قاعدة العلّية العامّة ، وأحسن عبارة كاشفة عنه هو ما سمعته من اعتبار العالم دائرة مقفلة من الحوادث ، يتّصل بعضها ببعض اتّصالا علّياً بحتاً . وقد وعدنا سابقاً أن نذكر إحدى شبهات الأشاعرة عند هذا البحث ، وهاهي التي نقرّرها مستوفى .

ولا يخفى أنّ هذا التعابير التي نقلناها من مصادرها لا تبعد عن اتّفاق القدماء من الفلاسفة بذهابهم إلى اعتبار الكون كلّه منظّماً بنظام جملي، بعضه علل وبعضه معاليل وغايات ، ومن المستحيل وقوع التخلّف والتبدّل فيما هو اقتضاء السلسلة (الدائرة المقفلة) هذا هو مقتضى القانون المعروف عند المتأخّرين بقانون العلّة العامّة .

وأمّا مذهب الغاية فقد فسّره في المدخل إلى الفلسفة بقوله : وتظهر لنا فكرة الغاية كما تظهر في الكائن الحي الذي تعمل أعضاؤه ووظائفه وتؤثر أجزاؤه المختلفة بعضها في بعض من أجل المحافظة على نفسه وعلى نوعه ، بل إنّنا ننتقل من فكرة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قصّة الفلسفة الحديثة 1 : 131 (حيث حكاه عن ديكارت صاحب كتاب العالم ضمن ترجمة سبينوزا) .
(2) قصّة الفلسفة الحديثة 1 : 159 (حكاه عن سبينوزا صاحب كتاب الأخلاق ...) ، المدخل إلى الفلسفة : 224 (ولا يخفى أنّ العبارة ذكرت في المصدر الأوّل مضموناً) .

ــ[72]ــ

الغاية في الكائن الحي إلى الغاية في الطبيعة برمّتها ، فننظر إليها على أنّها هي أحرى(1) نظام اُ لّف على نحو معيّن لتتحقّق منه غاية عامّة ، والغاية القصوى التي نعتقد أنّ العالم يجري نحوها في تطوّره غاية أخلاقية ، لأنّنا نلحّ دائماً في السؤال بما هي الغاية ، أو بما هو الغرض من كيت وكيت ، حتّى نصل إلى هدف أخلاقي ما(2).

ومعنى هذا المذهب ـ كما تراه من العبارة وغيرها المذكور في محلّه ـ أنّ الكون بمعناه المطلق وإن كان تحت نظام تامّ ، إلاّ أنّ الأفعال الواقعة فيه إنّما تقع لتحصيل غايات ، وترتّبها على الأفعال والحركات من قبيل ترتّب الأخلاق على الأعمال فإنّ الأخلاق ليست مندمجة تحت النظام ، بل هي متحصّلة من النظام وأطواره .

وإذا عرفت حقيقة المذهبين فنقول : إنّ ابتناء الجبر والاضطرار في الأفعال على المذهب الأوّل في غاية الظهور ، بداهة استحالة تصرّف الإنسان الداخل في الكون ـ الدائرة المقفلة ـ بشيء من التصرّف . وجوابه ما عرفته سابقاً(3) في إثبات الاختيار مع الالتزام بالنظام الجملي، فلا حاجة إلى الإعادة .

وأمّا ابتناء الاختيار على المذهب الثاني ـ مذهب الغاية ـ فلوضوح أنّ سؤالنا لماذا فعلت هذا وتركت ذلك ، وجوابه فعلته لغاية كذا أو تركته لكذا ، ينمّ عن بداهة الاختيار ] و [ دليل ظاهر على الاختيار ، ضرورة أنّه لا معنى للمسؤولية عن فعل أو ترك غير اختياري ، أفهل يعترض على أحد بحركة نبضه أو بعدم طيرانه في الجو بغير آلة ؟

وبالجملة : إنّ هذا المذهب الذي هو في الحقيقة إرجاع الإنسان إلى وجدانه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الموجود في المصدر : الأخرى .

(2) المدخل إلى الفلسفة : 212 .

(3) راجع ص54 .

ــ[73]ــ

وبداهة عقله هادم أساس القول بالجبر ، وما بنى عليه تخيّلات القائلين به من الاصطلاحات الفارغة عن الحقيقة .

 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net